الدخان والمرايا

لا عجب إذن أن تغدو الشاشة اليوم صورة عن الواقع

الدخان والمرايا

يعود أصل عبارة "الدخان والمرايا" إلى تقنية كانت توظف خلال القرن الثامن عشر من أجل الخدع السحرية، حيث كانت تستخدم لإظهار الأجسام وكأنها تتحدى الجاذبية. وقد عرفت فيما بعد انتشارا على نطاق واسع بعد أن استخدمها أحد الدجالين الذي كان يدعى القدرة على استحضار الأرواح.

أصبحت هذه التقنية لاحقا عنصرا أساسيا في عروض الصور الخيالية في القرن التاسع عشر، وهي تعتمد على جهاز إسقاط يظل مخفيا يرسل حزمة ضوئية (كان يعرف آنذاك بالفانوس السحري). تسقط هذه الحزمة الضوئية على مرآة حيث تنعكس الأشعة قبل أن تتشتت داخل سحابة من الدخان، مما يؤدي إلى تكون صورة مرئية وسط الدخان.

دخلت عبارة "الدخان والمرايا" إلى اللغة الإنجليزية في أميركا الشمالية للإشارة إلى "تمويه الحقيقة أو تزيينها بمعلومات مضللة أو غير ذات صلة". ويعود أقدم استخدام معروف لهذا التعبير إلى السيرة الذاتية التي كتبها الصحافي السياسي الأميركي جيمي بريسلين، الذي غطى فضيحة ووترغيت في واشنطن بشكل مباشر، وكانت تحت عنوان: "كيف انتصر الأخيار أخيرا: ملاحظات من صيف مساءلة"، وقد نشرت عام 1975. وصف بريسـلين السياسة بأنها استخدام مسرحي لـ"المرايا والدخان الأزرق" لجعل الناس "يرون ما يرغبون في رؤيته". ومع مرور الوقت، تم تعديل العبارة واختصارها إلى شكلها الحالي، حيث أصبح مصطلح "نظرية الدخان والمرايا" شائعا في المجال السياسي بحلول أواخر السبعينات من القرن الماضي.

يظهر أن الساسة الأميركيين قد لمسوا فعالية هذه التقنية وأهميتها في التأثير على الرأي العام، وربما في صناعته. وكلنا يذكر الدور الذي لعبته في حرب العراق وحكاية أسلحة الدمار الشامل. وربما لا زال أغلبنا يتذكر تألق دومينيك دوفيلبان، وزير الخارجية الفرنسي آنئذ، وهو يحاول أن يدحض، في الأمم المتحدة، الادعاء الأميركي. لكنه لم يفلح في ذلك لأنه تعامل ربما مع ذلك الادعاء على أنه مجرد "كذبة" كان يكفي فضحها، في حين أنها لم تكن لتدخل ضمن منطق "الصدق والكذب"، وإنما بالضبط ضمن "منطق" "الدخان والمرايا". وقد لمسنا ذلك بعد نهاية الهجوم على العراق، حيث لم يعد أحد يتساءل عن تلك الأسلحة المزعومة، وحيث تبين للجميع أنها كانت "دخان" تلك الحرب.

الظاهر أن الأميركيين ما زالوا إلى اليوم يلجأون إلى هذه التقنية، خصوصا في عهد الرئيس الحالي الذي يبرع في جعل الأفكار المستحيلة أفكارا قابلة للحوار، وفرضها في الساحة على أنها ما يستحق أن يكون موضع إعمال فكر، وما ينبغي أن يستقطب الجدال السياسي، بحيث "تصبح المشاريع غير القابلة للتنفيذ سيناريوهات مطروحة، بل هي السيناريوهات التي ينبغي أن تطرح".

لا عجب أن تغدو الشاشة اليوم صورة عن الواقع، إن لم تكن هي الواقع ذاته في مباشرته وحيويته وحياته. مع ما يتمخض عن ذلك من تحول لمفهوم الحدث نفسه

لا يكفي، والحالة هذه، إبراز أن تلك المشاريع تخرق القانون الدولي، بل تخرق كل قانون، بما فيه قانون العقل، لأن الهدف من ترويجها ليس إقناع الرأي العام بنجاعتها و"صدقها"، وإنما في كونها، "تجعل الأفكار المستحيلة تستقطب كل نقاش" كما كتب أحد الصحافيين.
في إطار ملاحقته للتطور الذي عرفه مفهوم التضليل الأيديولوجي كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو قد وجه انتقادات جذرية لمفهوم الأيديولوجيا الماركسي ليخلص إلى أن الآلية الأيديلوجية لا تنحصر في تشويه الواقع وقلبه، كما يقول "مخطوط الأيديولوجيا الألمانية"، وإنما تذهب حتى إلى صنعه. لا يقول فوكو إن الأيديولوجيا تخلق الواقع، وإنما تخلق "ما يعمل كواقع" (Elle crée du réel). الأيديولوجيا هي الآلية التي تتمثل في جعل الواقع مفعول ما يصور به وما يقال عنه. المنطق المتحكم هنا منطق غريب يمزج بين الحلم والواقع، ويخلق الواقع الذي يتنبأ به فينبئ عنه. هذا المنطق هو المتحكم في آليات الإعلان والإشهار والدعاية حيث تغدو الأيديولوجيا، ليس كما عهدناها أداة للقلب والتوحيد والتغليف، وإنما هي ما يجعل الأشياء حقيقة بمجرد التأكيد الدائم على أنها كذلك. إنها اليوم لب لاواقعية الواقع، لب "سريالية الواقع". هو إذن واقع (Sur-réel)، واقع يفقد شيئا من الواقعية، واقع يتلبس الوهم ويتحول إلى "مشهدية". 
لا عجب إذن أن تغدو الشاشة اليوم صورة عن الواقع، إن لم تكن هي الواقع ذاته في مباشرته وحيويته وحياته. مع ما يتمخض عن ذلك من تحول لمفهوم الحدث نفسه، حيث تغدو الأحداث الجسام وقائع مشتتة يجترها الإعلام ويفتتها كي يحشرنا في الراهن ويغرقنا فيه. 

قد يبدو لنا لأول وهلة أن هذا التغليف للواقع بواقع يتفوق عليه، وهذا التفتيت للأحداث إلى أحداث ذرية منعزلة تفقد ارتباطها ببعضها وارتباطها بواقع بعينه، قد يبدو لنا كل ذلك مجرد استهتار بالأمور وعدم أخذها المأخذ الجدي. بل إن البعض قد ينتابه شك في السلامة العقلية لمن تصدر عنهم مواقف وتصريحات من قبيل ما أصبحنا نسمعه صباح مساء. وهذا بالضبط ما يحصل اليوم في تلقي ما يصدر عن الرئيس الأميركي من تصريحات متضاربة لا تستقر على رأي بعينه، بحيث يبدو لمتلقيها أن صاحبها لا يعي ما يقول، أو أنه فقد ذاكرته، مما يجعله يقول الشيء ونقيضه في الوقت ذاته. إلا أن المتمعن فيما يصدر عن البيت الأبيض من قرارات، وما يزعم صاحبه بأنه ينوي القيام به، سرعان ما يتبين أن وراء هذه التصريحات التي يبدو أنها لا تخضع لأي منطق، منطقا محكما يهدف إلى شيء بعينه، وأن الأمر مغرق في الجدية، وأن من يدفع الواقع إلى أن يفوق نفسه، يرمي، من وراء ذلك، إلى فرض ما ينبغي أن يأخذ بالاهتمام، وينهج استراتيجية محكمة تهدف إلى شحذ الرأي العام، وإلهاء الخصوم بما من شأنه أن يزحزحهم عن مواقعهم الهجومية كي يتراجعوا إلى خطوط دفاعية وتبريرات لا ترتكز على سند.
تعتمد هذه الاستراتيجية آلية التكرار إيمانا منها بأن "الحقيقة" تكرس بفعل التأكيد الدائم على أنها كذلك، وأن ذلك ينتهي بأن يجعل الناس "يرون ما يرغبون في رؤيته". لا عجب أن يصدر عن أصحاب القرار في هذه الحال فيض من التصريحات المتضاربة، لأن مرماها الأساسي هو خلق ضجة إعلامية، واحتكار الحديث عما يجري، والسيطرة على السردية السياسية، ونثر شيء من الضبابية و"الدخان"، وإرباك كل رأي معارض، وشل الأدمغة، وتعطيل الفكر، والتشكيك في كل قدرة على تحليل عقلاني لمجريات الأمور، وكل ذلك من أجل "تحويل المستحيل إلى شيء محتمل". 

font change