مئوية إيتل عدنان... في البدء كان الشعر

هكذا رآها صديقها الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو

Sueddeutsche Zeitung Photo / Alamy Stock Photo
Sueddeutsche Zeitung Photo / Alamy Stock Photo
إيتل عدنان

مئوية إيتل عدنان... في البدء كان الشعر

"أمام عمل بغنى ذلك الذي أنجزته إيتل عدنان (1925 - 2021)، وبعد قراءة وإعادة قراءة مختلف النصوص التي خطتها والحوارات التي أجريت معها، بعد متابعة إيقاعات تخطيطاتها والتأمل في لوحاتها وسائر أعمالها التشكيلية، بعد اكتشاف جولاتها في ميداني الموسيقى والأوبرا، ثمة كلمة واحدة تتبادر إلى الذهن: شعر".

هذه الفقرة نقرأها في مطلع الكتاب الذي وضعه حول إيتل، صديقها وجارها الباريسي، الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو، ويحمل عنوان "إيتل عدنان، الملائكة، الضباب وإيوان الليل". كتاب لم يحظ بعد بأي اهتمام يُذكر في فرنسا أو عالمنا العربي، على الرغم من صدوره منذ شهور عن دار "غاليمار" العريقة، ومن قيمته المرجعية الكبيرة. لذلك، نغتنم فرصة حلول مئوية ولادة إيتل عدنان لتسليط الضوء على مضمونه الذي يشكل خير قراءة واحتفاء بمسيرتها الشعرية والفنية العمودية.

تجدر الإشارة بداية إلى أن هذا الكتاب هو ثمرة عِشرة وحوارات طويلة، حميمة، بين صاحبه والشاعرة، وثمرة دراسة وتنقيب موازيين أجراهما ميشو على مدى سنوات في ما حققته صديقته في مختلف الفنون الكتابية والتشكيلية. من هنا أهميته التي تعود أيضا إلى كون عدنان اطلعت عليه بالكامل قبل رحيلها، وكانت سعيدة بما كتبه صديقها عنها فيه.

معانقة كل الأشياء

في مدخل هذا الكتاب، يذكرنا ميشو بأن كلمة "شعر" باليونانية القديمة، "poïein"، تعني "صنع، إنتاج، فبركة"، وبأن الشعر إذن هو منذ البدء ابتكار أشكال تمسنا، سواء كانت من كلمات، أو من خزف ونسيج وألوان وأصوات أو من حركات بدنية. و"في هذا المعنى، نعم، كل شيء في عمل إيتل هو شعر: النصوص النثرية، والقصائد والتخطيطات واللوحات والتأملات الفلسفية وحتى المقالات".

بعد ذلك، يستحضر ميشو الحركة الرومنطيقية الألمانية الأولى ليؤكد أن إيتل تمتعت بالرؤية نفسها لمطلق شعري يعانق كل الأشياء، وليس فقط تلك البشرية: قصائد، أعمال فنية، وأيضا مخلوقات، نباتات، أشجار، تكوينات جيولوجية وأفلاك. من هذا المنطلق، استشهدت غالبا بهايدغر الذي رأى في الشعر الشكل النهائي للفكر، علاقة مع الكينونة تفلت من الميتافيزيقا، وانفتاحا على تلك "النغمة الأولية" التي تضع الإنسان في علاقة مع الكون".

كل شيء في عمل إيتل هو شعر: النصوص النثرية، والقصائد والتخطيطات واللوحات والتأملات الفلسفية وحتى المقالات

مفارقة إيتل الأولى، في نظر ميشو، أنها لا تنتمي إلى أي لغة، وفي الوقت نفسه، تنتمي إلى لغات عدة. ففي طفولتها، تكلمت اليونانية مع والدتها، والتركية مع والدها. ومنذ سن الخامسة، تعلمت الفرنسية في المدرسة الكاثوليكية، أي لغة الاستعمار، وأيضا لغة المجتمع اللبناني الراقي الذي يتطلع نحو باريس، ولغة الثقافة. لغة أصبحت أكثر فأكثر لغة الاستعمار، بالنسبة إليها، حين اندلعت حرب التحرير في الجزائر أثناء إقامتها في باريس لإكمال تعليمها العالي، وأحدثت داخلها يقظة عنيفة. أما العربية، فبقيت لغة الناس حولها، في الشوارع والأسواق، ولم تتقنها كليا البتة.

حين وصلت إلى الولايات المتحدة في عام 1955، تعلمت إيتل الإنكليزية في الجامعة، عبر شاشة التلفزيون، داخل بيئة الثقافة المضادة (جيل الـ"بيت"، ثم مجتمع الهيبيين)، وفي محيط الكلية التي درّست فيها فلسفة الفن. لغة ستجعل منها لغتها الشعرية ليس فقط لأنها أحبت حريتها و"إمكان التعبير بها عن أنفسنا كما نشاء"، بل ربما أيضا لأنها اللغة التي اختارتها بنفسها لها، علما أنها ستعود إلى اللغة الفرنسية حين تستقر من جديد في لبنان، ثم في باريس، وتمارس اللغة العربية رسما وتخطيطا، من دون أن تتكلمها.

سكنت جميع اللغات

الأمر الأكثر إثارة للدهشة في إيتل، هو كيف استطاعت ألا تتيه بين هذه اللغات والثقافات والجغرافيات، بينما كان مصيرها، مثل مصير عائلتها والعديد من أبناء وطنها، التشتت والمنفى. وفي هذا السياق، يكتب ميشو: "لا يمكننا أن نقرأها من دون أن نشعر بمدى تجذرها الأصيل، وفي الوقت نفسه، بوجودها بعيدا، في مكان آخر، وفقا إلى المراحل والموضوعات والالتزامات"، مضيفا: "بعض الكتّاب كتبوا بلغة غير لغتهم الأم، لكنهم استقروا بعد ذلك في هذه اللغة الأخرى التي كتبوا بها الجزء الأساس من أعمالهم. أما إيتل، فسكنت جميع لغاتها".

المثير للدهشة أيضا في إيتل، هو أنها كانت في الوقت نفسه رسامة وشاعرة وصحافية، وكاتبة نثر وفيلسوفة، وفي كل مرة بطريقة كاملة وصادقة، بلا خلط أو تسوية. إذ كانت تتنقل من ميدان إلى آخر بلا جهد، ولا قطيعة، ولا أثر، كأنها ملاك أو على بساط سحري: "إنها الشخص نفسه والصوت نفسه، لكن في عوالم مختلفة. (...) ولعل هذه القدرة، لا على المراكمة أو المناوبة، بل على أن تكون في كل مرة كليا في نمط تفكير أو شعور، ترجع إلى اختيارها عدم تشييد نظام، عدم تطوير تأمل خطوطي، وإلى رفضها ما سمّته "النظرية". ترجع أيضا إلى تمكنها من "أن تكون جزءا من لحظة محددة من الزمن والفضاء"، وإلى قناعة وجودية بأننا لا يمكن أن نكون إلا في الـ"هنا" والآن، لا بطريقة مشتتة، بل مركّزة. من هنا قولها: "لدي اعتقاد راسخ بأننا لا نذهب إلى أي مكان، هناك هو هنا، دائما هنا"، أو قولها: "أنا معاصرة لألفي عام".

لا يمكننا أن نقرأها من دون أن نشعر بمدى تجذّرها الأصيل، وفي الوقت نفسه، بوجودها بعيدا، في مكان آخر، وفقا إلى المراحل والموضوعات والالتزامات

بالتالي، فإن إيتل ليست من أي مكان محدد: "انتقلتُ من مدينة إلى مدينة، ترحلتُ من شخص إلى آخر، ثم حاولتُ أن أحدد من أنا من خلال الكتابة، (...) لكن هذا لا ينجح، إطلاقا، بل يضيف خرافة إلى الخرافة التي أصبحتُ عليها". وفي هذه الرحلات، مع كل انتماءاتها هذه، و"مجسّاتها"، مع فضولها الذي لا ينضب، اهتمت بكل شيء بغية استيعابه، قوله أو سرده، ضمن مزيج من المسافة والالتزام. "إنها بالتناوب أميركية، لبنانية وسورية، عربية يونانية تركية، فنانة تختلط بفنانين، شاعرة بين الشعراء، صحافية في قلب الأحداث، ناشطة ملتزمة، نسوية ومثقفة. في كل مرة عاشت، وصفت وحاولت أن تتأمل في فيض العالم وتاريخه الذي زعزعها، أثار استنكارها أو، بالعكس، وفر لها لحظات صغيرة ثمينة، تجليات خاطفة".

شعراء

حول ثقافة إيتل الشعرية، لا بد من استحضار الشعراء الذين اكتشفتهم في بيروت، أي بودلير ونرفال وفرلين ورامبو وفاليري وريلكه وهولدرلين، ثم أولئك الذين ستكتشفهم داخل الوسط الشعري الأميركي الطلائعي، أي باوند وويتمان وإليوت وديكنسون وييتس وويليامز... من دون أن ننسى دور البيئة الطبيعية في كاليفورنيا في تشكيل حساسيتها الشعرية، بدءا بالمحيط الأزرق الشاسع الذي يعانق هذه الولاية بمياهه الباردة، مرورا بضوء الشمس وحرارتها العالية على مدار السنة، وبأشجار السكويا التي تناطح السحاب بقامتها الهائلة، وانتهاء بجبل "تامالبايس" الذي سيصبح بسرعة الرفيق والملهِم شعرا وفنا. حساسية ستطبعها أيضا أحداث التاريخ الذي عايشته، وحقن بعنفه كلماتها.

في النتيجة، يرتكز عمل إيتل الشعري، على ثلاثة أعمدة: ثقافة شعرية هائلة، وشعور حاد بالطبيعة في كل تجلياتها، ومعرفة دقيقة ومؤلمة بتاريخ البشرية الرهيب. وفي هذا السياق، يشير ميشو إلى أن نزوع صديقته إلى كتابة شعر أكثر تأملية في سنواتها الأخيرة الباريسية، يجب ألا ينسينا إلى أي مدى تأثرت بمآسي التاريخ، وإلى أي مدى حولتها هذه المآسي إلى شاعرة ملتزمة ومناضلة راديكالية، كما يتجلى ذلك بقوة في دواوينها "يبوس"، "قطار بيروت ـ الجحيم" (1973)، "قيامة عربية" (1980)، "جنين" (2004)، وفي رائعتها الروائية "الست ماري روز" (1977).

سياسي هو شعر إيتل، وهو أيضا "حداثي للغاية، شعر إدراك محض"، يكتب صديقها، لأن المهم في قصائدها هو الإيقاعات، تقطيع الكلمات والأبيات والمقاطع لتشييد أناشيد على شكل تعاويذ أو نواح، ولأن المهم أيضا فيها هو الصور التي تمسك بالخيال وتشرّع أبوابه. ففي العديد من هذه النصوص، تحضر الكلمات بطريقة منفردة، أو مفككة بفعل تقطيعها، و"تفعل فعل سهم أو برق أو رصاصة. كأنها تمتلك، أبعد من معناها، قوة تعزيمية. كأنها أصوات، صرخات، ضربات صنج، رقيات، داخل غرابة اللغة الأميركية التي فتنتها على الفور. لغة ما لبثت أن سمحت لها، مع تحكمها بها بشكل أفضل، بمد نصها بفيض من الاستحضارات والدلالات، من دون أن تفقد كلماتها صفتها كأصوات أو صرخات تتمدد لتتحول إلى عواء أو نعيب.

يرتكز عمل إيتل الشعري، على ثلاثة أعمدة: ثقافة شعرية هائلة، وشعور حاد بالطبيعة في كل تجلياتها، ومعرفة دقيقة ومؤلمة بتاريخ البشرية الرهيب

حول طبيعة هذه الكلمات، يوضح ميشو بأنها دائما بسيطة، عادية، سهلة البلوغ، لكنها تفقد معناها الأول إثر تجاورها غير المحتمل، تسلسلها المبتكر، وجودها داخل فضاء جديد، أو حضورها الواحدة فوق الأخرى، أو بطريقة منفصلة أو منحرفة بواسطة مساحة بيضاء. وفي هذا المعنى، يعمل شعر إيتل فينا من خلال صدمات تناقض أو تباعد أكثر مباشرة وآنية من تلك التي تلهب الشعر السوريالي. ومن طريق هذا الاستخدام للكلمات، تجنبت الشاعرة الفهم المؤجل الذي تنتجه الاستعارات، لكتابة شعر يشتعل بشرارات منبثقة من الاتصال العاري والمباشر بين وقائع متعددة ومتباعدة. أما التأثير أو المفعول الشعري، فينتظرنا "على هامش الكلمات المكتوبة، في الفراغات ومساحات الصمت التي ليست في الواقع فارغة ولا صامتة".

"إيتل عدنان: الملائكة، الضباب، قصر الليل"، تأليف إيف ميشو

أحداث صادمة

في شعر إيتيل، يلاحظ ميشو أيضا أن صديقته، حتى عام 2006، انطلقت دائما من حدث خارجي صادم عبّرت عنه بكلمات قليلة، وحدد ما كتبته بعد هذه الكلمات. يلاحظ أيضا أن الإيقاعات في شعرها متنوعة إلى ما لا نهاية، بعضها ترخيمي، مقطّع، مع كلمات تتناثر مثل لآلئ أو حبات برد أو حصى أو نوتات في معزوفة لجون كايج، كما في "بحر وضباب". بعض آخر فسيح، يقترب من صياغة قصيدة النثر، كما في "هناك"، وبعض أخير يتمدد في كل الاتجاهات مثل شذرات سردية، كما في "تعديل الصمت". وأحيانا، ثمة مقاطع طويلة من اللعن والإنشاد الجنائزي، كما في "قيامة عربية" حيث تقطع علامات رسومية، هيروغليفية، بشكل مفاجئ، تسلسل الكلمات، معززة وقع الكلمة، أو مسطّرة عجزها. علامات تحضر مثل فائض من الانفعال كي تقول ما حال الانفعال دون قوله. ومن هذه الإيقاعات ومفرداتها، تنبثق صور حية، غير منطقية، تتراكم لتشكل موجة من الشعر تكتسح شيئا فشيئا الديوان كله مثل مد عال، وتتسم بنبرة جوهرية تحددها الصدمة الأولى.

لكن منذ ديوان "ارتقاء" (2006)، الذي شكل لحظة انتقال إيتل من الالتزام السياسي العام إلى التأمل الخاص، كتبت قصائد تتمتع، وفقا إلى ميشو، بنبرة أكثر سكونا وتأملا، وتبدو ممسوسة بالاختبار الشعري للحياة، مرتبطة أكثر بالمغامرة الداخلية منه بصدمات أحداث العالم. وهو ما أكدته بنفسها حين صرحت: "خلال السنوات الأخيرة، حاولت التقاط الوعي، الكتابة عن الذهن في لحظة اتقاده".

الفنانة التشكيلية

في الجزء الثاني من كتاب ميشو، المرصود لإيتل الفنانة التشكيلية، نعرف أنها بدأت الرسم في كاليفورنيا عام 1960، من دون أي تدريب مسبق أو تأثر بمدرسة أو تيار فني، مدفوعة فقط برغبتها المحمومة في اكتشاف كل شيء، ومحررة بالتالي من الأجواء المغلقة لـ"عالم الفن". ماتيس وفان غوغ وسيزان وكلي وكاندينسكي، كانوا بالطبع جزءا من عالمها، لكن من منطلق ثقافي وشعري، وأعمالهم كانت فقط موضوع حوارات مع أصدقائها الشعراء والفنانين. لذلك، لم تنخرط في ممارستها الرسم في الإطار الخانق لتاريخ الفن الطلائعي الذي جعل القرن العشرين سباقا غايته تثوير الأشكال والمفاهيم.

في الواقع، "إيتل رسامة ميتافيزيقية، مثلما لدينا شعراء ميتافيزيقيون"، يكتب ميشو. وعدم انتمائها إلى "عالم الفن" منحها حرية فعل ما تشاء، من دون هاجس تشكيلي محدد. إذ يكفي تأمل لوحة من لوحاتها كي نشعر بالسعادة الكبيرة التي كانت تجدها في الرسم خارج المراجع المعروفة. لكن ثمن ذلك كان بقاء إبداعها التشكيلي لفترة طويلة في دائرة الظل.

باستثناء بعض اللوحات النادرة المتوسطة الحجم، رسمت إيتل طوال حياتها لوحات صغيرة الحجم، بالحبر أو الألوان المائية، على قماش أو ورق، إضافة إلى تلك الدفاتر اليابانية (leporellos) التي تتكشف مثل أكورديون. وبالطريقة نفسها التي كانت تكتب بها قصائدها وسائر نصوصها، رسمت لوحاتها، أي وهي جالسة إلى منضدتها. وضعية لها أهمية كبيرة، كونها حولت كل لوحة لا إلى شاشة أو مرآة، بل إلى مساحة للكتابة، تؤدي الألوان فيها دور الكلمات. وكما هي الحال مع الكلمات في قصائدها، استخدمت الألوان ببساطة ولم تبحث عن توليفات معقدة أو غير محتملة، بل كانت أكثر اقتصادا. وحين أنجزت لوحات تجريدية هندسية، التزمت تشكيلات موجزة، لا مفاعيل عمق فيها، ولا إفراط هندسي.

يكفي تأمل لوحة من لوحاتها كي نشعر بالسعادة الكبيرة التي كانت تجدها في الرسم خارج المراجع المعروفة

ثمة نقطة أخرى تقرّب عمل إيتل التشكيلي من عملها الشعري، بحسب ميشو، وهي انتظارها الوحي، اللحظة المحفزة، للانطلاق في الرسم. وبالنسبة إلى الألوان، كانت لديها ميول ثابتة، ونسق لوني خاص، طبيعي، يوحد ألوانها: أحمر رماني، برتقالي، أخضر زيتوني، وردي، أزرق بحري وأمغر ترابي. ألوان ترتبط بشكل أساسي بالطبيعة الكاليفورنية، ومنذ عام 2018، بطبيعة أكثر فأكثر خيالية، علما أن إيتل لم تسع إلى رسم الطبيعة نفسها، بل المشاعر التي تثيرها.

صور وعلامات

على مستوى الشعور والتعبير، لا شيء شخصيا في لوحات إيتل، يكتب ميشو. طبعا حين نتأمل في هذه اللوحات، نتعرف فورا إلى صاحبتها، لكن هذا التعرف يستند إلى أسلوب رسمها التجريدي، لا إلى ما يعتمل في داخلها. "لا ترويها أعمالها، وإن تركت عليها توقيعها. فالصور والأشياء والعلامات والأشكال في هذه الأعمال تتجسد كحضور عار، مثل الكلمات في قصائدها". وفي النتيجة، لا يحضر الصوت الفردي الخاص بوصفه "أنا"، بل بوصفه حكواتيا يروي أشياء لا تتعلق به، وتتحلى بحضور آني، مثلها مثل صور الذاكرة وإسقاطاتها: علامات، مشاهد، جبال، بحر، ضباب، أشكال متحركة، أبجديات.

إيتل الرسامة لا تفبرك أي شيء، يلاحظ ميشو أيضا، بل تكتفي بمد الأشياء التي ترسمها بكينونة داخل لوحاتها. فحين نتأمل مليا في هذه الأخيرة، تصعقنا الطريقة التي تطفو الأشياء في فضائها، من دون أي ترتيب أولوي، حتى حين يكون هناك شكل أو علامة رئيسة. ذلك أن إيتل تتعامل مع الفضاء كمكان أحداث تفلت روابطها منا، والواقع كما تراه يتجاوز الفضاء الثلاثي أو الرباعي الأبعاد، ويتألف من فضاءات متعددة: فضاء عالمنا الآني، فضاء الأزمنة والتاريخ، الفضاء الجيولوجي، فضاء الأفكار، فضاء الأحلام، فضاء الملائكة والآلهة، فضاء الكواكب والمجرات. وما يطفو داخل لوحاتها يُظهِر كل ذلك.

تبقى لوحات إيتل أكثر انغلاقا على نفسها وتكثفا من نصوصها الشعرية. ولا عجب في ذلك، فحتى حين لا تسيّر قصيدتها خمسين فكرة في الوقت نفسه، بل شعور واحد أو فكرة واحدة، فإن كلماتها تفتح أفقا دلاليا أكبر من ألوان لوحاتها وأشكالها. ثمة اختلاف آخر بين قصائدها ولوحاتها، في نظر ميشو. إذ بينما تحافظ القصائد على روابط وثيقة مع محفزات العالم وصدماته، تسمح اللوحات بالإفلات من هذه الصدمات، وباختبار السعادة. من هنا قول الفنانة: "أنا سعيدة حين أرسم"، وقولها أيضا: "تعبّر لوحاتي عن الجانب الإيجابي مني، المرتبط بحبي العميق للطبيعة والعالم".

وإذ لا مجال هنا لاستحضار كل ما يقوله ميشو في عمل صديقته الفني، نكتفي بملاحظته "انعدام أي عفوية آلية فيه، أي تشكيل مدروس مسبقا ومنفّذ بطريقة ميكانيكية، وأي ارتجال". عمل يفتح "فضاء فكريا بصريا يتعذر فصله عن جوهر الفنانة"، وتحضر إيتل فيه بكل صفاتها الشعرية والإنسانية، من خلال تلك "العوالم الصغيرة" الرائعة من الأحاسيس الملونة، وتلك التشييدات البسيطة والمهيبة التي تستمد قوتها من هشاشتها بالذات".

font change