لطالما ارتبطت الثقافة وأنماطها الشكلية والظاهرية، بحضارات الشعوب. وكثيرا ما بقيت الأزياء التراثية بشتى أنواعها أهم وأقدم قواعد الثقافة وفروعها الأساسية. فالإنسان يُعرف بمرجعيته الثقافية من أمور عديدة أهمها ملابسه التي يرتديها. وكثيرة هي الأزياء التي ارتبطت بدولٍ وشعوبٍ وأقوام بادت وظلت أزياؤهم من بعدهم دالة على تفردها وتميزها وتمسك أصحابها بثقافتهم وهويتهم الأصيلة.
واليوم ومنذ تأسيس وزارة الثقافة السعودية اندرجت تحتها سبع هيئات، وكان لهيئة الأزياء نصيبها الكبير في التطور ومواكبة العصر بكل أدوات الثقافة والحداثة السعودية التي تمتلكها وتعتز بها، وكل هذا لا شك أنه يتماشى وينتظم مع جودة حياة السعوديين الذين يرون اليوم في العودة إلى ماضيهم وهويتهم الأولى من خلال مناسباتهم الوطنية كيوم التأسيس أو الملابس الرمضانية القديمة مصدر إلهام لهم.
فمن هيئة الرجل والمرأة في السعودية ومظهرهما الخارجي وطريقة ارتدائهما لأزيائهما التراثية والتقليدية تستطيع أن تعرف إن كان من المنطقة الغربية، أم الجنوبية أم غيرهما. يرجع ذلك إلى امتداد مساحة المملكة العربية السعودية جغرافيا وتعدد المناخ فيها ما ساعد على تنوع الأزياء التراثية قديما والحضارية حديثا بما يتماشى مع سكان تلك المناطق، ولا شك أن هذا الأمر يعود بدقته المتناهية والتزامه المناطقي إلى عدد من الأسباب أبرزها طريقة الخياطة والنقشات والتطريزات والمواد الخام التي تتدخل في صناعة وإنتاج أزياء فريدة ومميزة في نوعها مرتبطة بتراث تلك المناطق.
كل تلك التفاصيل وغيرها، من المؤكد أنها دفعت بهيئة الأزياء السعودية إلى زيادة الاهتمام بثقافة الزي التراثي بشكل عام والوطني بشكل خاص القديم منه والحديث عبر اتخاذها خطى كبيرة في سباق التميز لأزياء سعودية تحمل الهوية التراثية العريقة وتذهب بها للعالمية. ومن أجل هذا التحول أطلقت الهيئة الكثير من المبادرات الخاصة بتطوير جودة الأزياء المرتبطة بالهوية السعودية، أبرزها كانت مبادرة 100 "براند" سعودي، التي هدفت من ورائها إلى دعم وتطوير "البراندات" السعودية وتنمية أسواق الأزياء محليا وعالميا من خلال التدريب على نسج جميع أنواع الأزياء من الملابس الجاهزة إلى أزياء الزفاف، "الكوتور" والمجوهرات، والحقائب وحتى الأحذية وروائح العطور المرتبطة بذاكرة الماضي.
هذه المبادرة وغيرها من البرامج الأخرى مكّنت المستفيدين منها لخوض المسابقات والتجارب العالمية ضمن فريق كبير ضم أمهر الخبراء والمستشارين ومصممي الأزياء العالمية التي جعلت الكثير من المشاركين يصلون إلى الجودة، والاستدامة، والبصمة الحقيقية، والتفرد في نسج الملبوسات التراثية السعودية وهويتها الخاصة التي كانت وما تزال محط أنظار العالم ولفت انتباههم.
احتوى الكتاب على معلومات من مصادر ثقافية وطنية، وحوارات شخصية مع مجموعة من مصممي الأزياء في مبادرة 100 براند سعودي
ومن ضمن ما أنتجته هذه المبادرة أفلام وكتب متنوعة كان أبرزها كتاب "الأزياء في رمضان بنظرة سعودية" الذي ألّفته الكاتبة والباحثة السعودية مروة الجامع، ليغدو بذلك أول كتاب مصور مخصص للموضة في المملكة العربية السعودية خلال شهر رمضان.
ما يميز هذا الكتاب كونه الأول من نوعه في المحتوى والإخراج، وقد تولت تنفيذه ونشره "دار دورو" الإيطالية (D'oro collection) المتخصصة في إنتاج الكتب اليدوية والفنية بتقنيات التجليد الإيطالي القديم. وصدرت النسخة العربية من هذا الكتاب بعنوان: "الأزياء في رمضان بنظرة سعودية" فيما صدرت النسخة الإنجليزية منه بعنوان: (Ramadan fashion the Saudi perspective)، وقد وقع نظري على هذا العمل السعودي الإبداعي في صالة أحد المطارات السعودية وهذا بالتأكيد هو المكان الطبيعي له، كونه واجهة ثقافية مشرّفة للمشاريع الثقافية المهمة التي احتفظت بالهوية السعودية.
احتوى الكتاب على معلومات من مصادر ثقافية وطنية، وحوارات شخصية مع مجموعة من مصممي الأزياء في مبادرة 100 براند سعودي. وإذا ما اطلع القارئ عليه سيلمس التحدي الكبير الذي واجهته المؤلفة، نظرا لصعوبة تنفيذه ولتخصصية موضوعه، ومحدودية مراجعه.
قسمت المؤلفة كتابها إلى عدة فصول تحدثت فيها عن ظاهرة الأزياء السعودية في رمضان بجميع أشكالها في المناطق الرئيسة شملت الرجالية منها والنسائية وكذلك الأطفال، موثقة ذلك بصورٍ احترافية ما جعله مرجعا مصورا يُعتدّ به في مرحلة توثيق الأزياء السعودية.
إن وجود مثل هذا النوع من النتاج الثقافي المعرفي الذي يؤرخ ويؤصل للثقافة السعودية هو من الضروريات التي تساهم في المعرفة العامة والاطلاع المستمر، ويكفي أنها تجعل الناس على دراية تامة بزخرفة "الروشن" ولماذا اشتهر بها أهل الحجاز، وبزي رجال ألمع، والفرق بين خامات "السدو" ونقشاته في نجد، والمنطقة الشمالية، وما هي ألوان "القَط" العسيري؟ وكيف يمكن تنفيذ نقشة "النقدة" الجنوبية؟ وغيرها من الأزياء التراثية التي أسهمت في رسم لوحة جميلة وجذّابة للزي السعودي.
ما بذلته هيئة الأزياء للكاتبة والباحثة السعودية مروة الجامع يجب أن تتبعه باقي هيئات وزارة الثقافة المعنية بدعم المبدعين والأخذ بأيديهم ومنحهم الكثير من الفرص لإبراز إبداعات وطنهم، والخوض في تجارب وخبرات جديدة ومطلوبة، فالمملكة العربية السعودية اليوم في حقبة زمنية هامة تعتمد على مثل هذا التمكين الذي ينجز التحديات ويحقق المنجزات الدولية على جميع الأصعدة. ولتبقى الثقافة والهوية والحضارة السعودية مصدر اعتزاز لهذه الأجيال وما بعدها يجب أن يستمر هذا الدعم والتمكين ويتشكل وتتنوع مبادراته باستمرار.