بينما بدأت مختلف الجماعات الأهلية/المكونات السورية، إطلاق عملية إعادة هيكلة سياسية جذرية، لهوياتها ومواقفها وخطاباتها، ومواقف نخبها، وشكل تنظيماتها السياسية، بعد قرابة ثلاثة أرباع القرن من الموات العام، بسبب الشمولية السياسية، يجد "علويو سوريا" ذاتهم يعيشون "رضة سياسية كبرى"، لا يستطيعون بسببها تأطير، وتحديد أي من أدواتهم للتعامل مع البنيان السياسي السوري الجديد. يحدث ذلك في وقت يجد فيه "سنة سوريا" ذاتهم، وقد عادوا إلى "المكانة والموقع السياسي الاعتيادي لهم"، ويتمركز "دروز سوريا" حول المرجعية الروحية للمطالبة باللامركزية الموسعة، ويرفض "أكراد سوريا" تسليم ما بحوزتهم من أسلحة، وتفكيك تنظيماتهم المسلحة قبل الحصول على ضمانات دستورية لحقوقهم السياسية، وينادي "مسيحيو سوريا" بدولة مدنية ديمقراطية... إلخ.
ارتباك وهشاشة
بعد شهرين من سقوط النظام السوري، لا يزال العلويون السوريون متلعثمين في تحديد موقفهم العام من السلطة/النظام الحاكم الجديد للبلاد، وعلى عكس التكوينات السورية الأخرى. فهم حذرون تماما في الإعلان العام الصريح عن ذاتهم كـ"جماعة سياسية"، وغير قادرين على فرز مجموعة من المعبرين والممثلين السياسيين عنهم، وقبل كل شيء لا يستطيعون تحديد تنظيم سياسي، يكون معبرا عن تطلعاتهم العامة.
كل التعثر السياسي الراهن لـ"الجماعة العلوية السورية" متأت من جذرين سياسيين متراكبين: من طرف عدم القدرة على تحديد هوية النظام السوري السابق، وشكل علاقتهم معه: فهل كان "نظاما علويا"، فقط لأنه كان يمنح العلويين شعورا داخليا بالطمأنينة الأمنية، ولو كان شعورا مزيفا. أم كان نظاما مشيدا على شبكة من المنتفعين المتحالفين فيما بينهم سلطويا، من جهات وجماعات سورية مختلفة، لكنه استغل العلويين كأداة وكتلة أهلية موالية مأمونة الجانب على الدوام، فقط لأن رأس هذا النظام كان "واحدا من أبناء هذه الجماعة"، بينما كان العلويون مثل باقي السوريين، خاضعين لكل فروض وجبروت وفظائع النظام السابق.
تستعيد الذاكرة السياسية الجمعية السورية على الدوام ما حدث في ربيع 1936، حينما زار الوجهاء العلويون العاصمة دمشق، واستقبلوا باحتفاء بالغ من قِبل "زعماء سوريا الوطنيين"
بالتوازي يجد العلويون صعوبة في خلق مسافة واختلاف بينهم وبين النظام السوري السابق في ذهنية أبناء الجماعات السورية الأخرى، تحديدا أبناء وذوي الضحايا، أو أعضاء التنظيمات السياسية والعسكرية المحافظة/الطائفية، الحاكمة راهنا. ففي الذهنية السورية العامة، وتحديدا بالنسبة لهاتين الطبقتين الصاعدتين في المتن السياسي السوري الحالي، ثمة ربط محكم بين الجماعة العلوية والنظام السوري السابق، بالذات فيما ارتكبه من جرائم، وسيسعى هؤلاء غالبا لأن يدفع العلويون أثمانا جراء ذلك، أثمانا سياسية على الأقل.
تحطيم العزلة
خلال السنوات الأولى لتشكيل الدولة السورية الحديثة، عاش العلويون السوريون مخاضا سياسيا مطولا إلى أن اندمجوا سياسيا في الكيان الجديد. فالعلويون عاشوا قرونا كثيرة من المحق السياسي والديني في ظل الإمبراطورية العثمانية ومن قبلها الدويلات المملوكية، أجبرهم ذلك على عزلة سياسية وتقية طائفية وحذر اجتماعي وحياتي مستدام، أصبحت بالتراكم بنية نفسية واجتماعية وسياسية لدى عوام أبناء هذه الجماعة السورية، وشكلت المؤثر الأكثر حيوية في نمط علاقتهم مع الكيان السوري الحديث.
ومع تأسيس الدولة السورية الحديثة، في أوائل العشرينات من القرن المنصرم، كانت نسبة العلويين إلى مجموع السكان تتراوح بين 12-15 في المئة، ويشكلون أغلبية أرياف الجبال الساحلية والسهول الغربية لمحافظتي حماة وحمص، ومثلها قرى ومناطق متفرقة ممتدة حتى هضبة الجولان. كان العلويون بذلك التموضع يشكلون أقلية سكانية واضحة، منتشرة بشكل مطلق في المناطق الريفية الأقل تحديثا وتعليما وتواصلا مع العالم الخارجي، وطبعا الأكثر فقرا والأفقر بالخيرات الاقتصادية. معها كلها، كان العلويون الجماعة المذهبية السورية الوحيدة الخالية من أي هيكل سياسي ديني/طائفي، كما لدى الطوائف الإسلامية أو المسيحية الأخرى، ودون تجربة سياسية كيانية سياسية تاريخية، كما كانت أحوال الدروز أو الموارنة أو حتى الإسماعيليين في بلدان المشرق العربي.
الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد يلوح بيده للطلاب في دمشق في الجلسة الافتتاحية لاتحاد الطلبة السوريين، 16 مايو 1990
وبناء عليه، غلبت الريبة والقلق في موقف "النخبة السياسية والاجتماعية العلوية" من الكيان السوري الحديث في سنوات تشكله. إذ تراوحت مواقفهم بين طلب الاستقلال/الانفصال عن الدولة المزمع تأسيسها من قِبل الفرنسيين، عبر ما سمي "وثيقة الاستقلال" حسب الموقعين عليها من الوجهاء العلويين عام 1926، والتي أرسلوها لسلطات الانتداب الفرنسي، طالبين منها "بقاءهم خارج سوريا المسلمة"، معتبرين أن ضمهم إلى الكيان الجديد سيعني "الموت والإبادة".
بعد قرابة عشر سنوات، تبدل المزاج العام للنخبة الاجتماعية/السياسية العلوية السورية تماما، وأصدروا في عام 1936 ما أسموه "الوثيقة الوحدوية"، التي طالبت السلطات الفرنسية ذاتها بإدماجهم في الكيان السوري، وكان من بين الموقعين شخصيات كانت قد وقعت على الوثيقة الأولى، أو من أبنائهم.
حسب ذلك السياق، تستعيد الذاكرة السياسية الجمعية السورية على الدوام ما حدث في ربيع عام 1936، حينما زار الوجهاء العلويون العاصمة دمشق، واستقبلوا باحتفاء بالغ من قِبل "زعماء سوريا الوطنيين"، يتقدمهم الرؤساء شكري القوتلي وهاشم الأتاسي وساسة مثل فارس الخوري وجميل مردم بيك، في تظاهرة حاشدة شهدتها مدينة دمشق، ونعتتهم الصحف المحلية وقتئذ بـ"الوفد العلوي".
خلال هذه السنوات، كان العلويون قد مروا بتجربة سياسية استثنائية تماما، لم يشهدوا مثلها طوال تاريخهم. فمع فرض الانتداب الفرنسي لسلطته على سوريا عام 1920، بعد الإطاحة بالملك فيصل الأول، أصدر الحاكم الفرنسي الجنرال غورو مرسوما بالانتداب على "إقليم العلويين" في الساحل السوري، بعد يوم واحد من إعلانه تأسيس "دولة لبنان الكبير"، ذات الجذر السياسي المسيحي/الماروني. كان ذلك بمثابة انبلاج سياسي لهذه الجماعة في مسرح التاريخ، إذ صارت لهم تسمية وموقع جغرافي ذو دلالة عليهم، وفوق ذلك حماية عليا من دولة منتصرة في الحرب العالمية الأولى الطاحنة.
تبدلت هوية وشكل هذا الكيان/الإقليم المستحدث عدة مرات خلال السنوات التالية، من إقليم منتدب في عام 1920 إلى دويلة ضمن ما كان يعرف بـ"الاتحاد السوري" في صيف عام 1922، والذي كان يضم دويلتي حلب ودمشق وقتئذ، وصار للعلويين ممثلون سياسيون ضمن هذا الاتحاد. وصولا إلى إعلان "الدولة العلوية" من قِبل فرنسا في أواخر عام 1923، والتي حددت مدينة اللاذقية عاصمة لها، ومجلسا تمثيليا مؤلفا من 16 نائبا، ثمانية منهم علويون. وليس انتهاء بإعلان فرنسا تشكيل "حكومة اللاذقية المستقلة" في أواخر عام 1930، وانتهاء بالإدماج الكامل لهم بالدولة السورية الحديثة في عام 1936 والتي تذهب أغلب التحليلات إلى أن صعود النازية في ألمانيا، وبروز ملامح الحرب العالمية الثانية كانت الدافع الرئيس لأن تشيد فرنسا دولا مركزيا في مناطق انتدابها واحتلالها، تأمينا لما قد تحتاجه أثناء سنوات الحرب القادمة.
يعيش العلويون راهنا لحظة انتهاء المسار التاريخي الذي أخرجهم من تموضعهم التاريخي التقليدي
صحيح، فقد العلويون في المحصلة كل هوية كيانية حظوا بها خلال السنوات القليلة تلك، لكن التجربة أكسبتهم طاقات ومهارات وموقعا وطنيا عموميا، خرجوا بسببه من "العزلة التاريخية"، وصاروا، ولو نسبيا وبتقادم بطيء، جزءا من المتن العام، خصوصا بعدما تلقوا مساهمة موضوعية من ثلاثة عوامل متراكبة:
الفرنسيون مثلا شجعوا العلويين على الانخراط في الجيش السوري، لما كانوا يعتقدون أنه عامل مساعد على خلق توازن مع السنة السوريين، الرافضين للانتداب الفرنسي، ولاعتقاد الضباط الفرنسيين بأن العلويين سيكونون "مقاتلين شجعانا"، لطبائعهم الجبلية والقروية والعشائرية. وخلق الانخراط في الجيش ثقة للعلويين في ذاتهم، وأمن لهم أعضاء في طبقات اجتماعية كانوا محرومين منها طوال قرون، ومنحهم أمانا داخليا استثنائيا بسبب عضوية أبنائهم في الجيش.
على المنوال ذاته، ساعدت الخطابات والتنظيمات القومية واليسارية "الشعبوية" خلال السنوات التالية للتأسيس، ساعدت العلويين على مغالبة "شعور وحالة العزلة". فتلك التنظيمات وخطاباتها ونوعية الوعي والتطلعات التي تبشر بها، كانت متعالية على الحساسيات الأهلية، بل وتنبذها وتشيد بتمايزها بالتضاد معها. فإرث الحركة القومية العربية المناهضة للعثمانيين، تسرب إلى كل التنظيمات اللاحقة، كجهات ترى في الصراعات الدينية والمذهبية مصدرا لما اعتبرته "تفتت الأمة". فخلا حركة "الإخوان المسلمين"، لم تغلق أي من التنظيمات السياسية السورية طوال عقود الحيوية السياسية بعد الاستقلال أبوابها أمام العلويين، لينتموا إليها وحتى يصعدوا ضمن جهازها التنظيمي والسياسي. حتى أن نسبة العلويين في أي من هذه التنظيمات، كانت تزيد عن نسبتهم الكلية إلى عموم السكان، بسبب تلهفهم للمشاركة في مساحات من العمل العام غير المتعالي والنابذ لهم.
وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم، أعطى العلويين قيمة مضافة في كسر العزلة، ليس لتحولهم إلى طائفة حاكمة، فالعلويون في المحصلة كانوا مطابقين لباقي السوريين في ظروف حياتهم العامة، وإن كان بعض أعضاء النخبة الأمنية والعسكرية الحاكمة من أبنائهم. لكن نظام الأسد خلق للعلويين مظلة أمان كلية، منحتهم قدرة على الثقة بالذات وعدم الخشية من باقي المكونات والفضاء العام. بسبب من ذلك، أنتج "المجتمع العلوي"- لو صح التعبير– طبقات جديدة ما كانت متوفرة ضمنه سابقا، إذ ارتفعت نسبة التعليم ضمن أوساطهم، وغادر مئات الآلاف منهم القرى الجبلية النائية، وصاروا يعيشون في مراكز المدن، وبرزت ضمنهم أصوات ثقافية وفنية رائدة، وانخرطوا بكثافة في الجهاز البيروقراطي للدولة، وصار الكثير منهم يزاولون مهنا ما كانت متوفرة في بيئتهم المحلية من قبل، كالعمل في التجارة والصناعات الحرفية، والقضاء والسلك الدبلوماسي، واقتصاد الخدمات ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية.
عودة العزلة
يعيش العلويون راهنا لحظة انتهاء المسار التاريخي الذي أخرجهم من تموضعهم التاريخي التقليدي. فالاستراتيجيات والحسابات الدولية التي فككت "دولة جبل العلويين" عام 1936، دفعت العلويين وقتئذ للاختيار بين الاعتزال ومقاومة سيادة الدولة السورية عليهم، أو الاندفاع نحو سوريا الجديدة والتفاعل مع فضائها المتشكل حديثا، وقد نزعوا للمسار الأخير بكل حيوية وقتئذ. الحسابات والاستراتيجيات الدولية ذاتها التي أسقطت النظام السوري السابق تبدو راهنا، وكأنها تطرح السؤال ذاته على العلويين مجددا.
سوريا في المحصلة "دولة سنية"، تقوم كل المؤسسات العامة والمواثيق الدستورية والقوانين الناظمة، والعالم الرمزي والقضاء والتعليم فيها على ذلك الأساس، حتى نظام الأسد لم يستطع أو يتجرأ على محاولة تغيير ذلك المعطى
لا تبدو الخيارات كثيرة أمام أفراد هذا المكون السوري، ونخبه الاجتماعية والسياسية القليلة راهنا، ويمكن تصنيفها على ثلاثة مستويات:
إما على العلويين أن ينخرطوا في تنظيمات سياسية واجتماعية ذات خطاب وهوية مدنية/ديمقراطية كلية ومنظمة على مستوى البلاد، ويبدو هذا الطرح مبشرا، لكن دونه الكثير من أشكال العطب. فكل التنظيمات المدنية، ستبدو هشة وغير ذات جدوى في المستقبل المنظور، بسبب التشكل العصبياتي/الطائفي للفضاء السوري الراهن، وتاليا على العلويين أن ينتظروا طويلا حتى تبرز في سوريا أحزاب سياسية مدنية حقيقية، ذات ثقل وقدرة على استيعابهم وقضاياهم باعتبارهم مواطنين سوريين، وتاليا طرحها، ونيل مواقف من السلطات الحاكمة حيالها.
اجتماع لرجال دين ووجهاء علويين في القرداحة، مسقط رأس آل الأسد، بهدف إقامة آليات حوار مع السلطات الجديدة في دمشق، 16 ديسمبر 2024
هذه التنظيمات التي ستحمل "قضايا العلويين"، ومثلهم كل الأقليات المذهبية السورية الأخرى، من منطلق التخفيف من هوية وخطاب السلطة الحاكمة لسوريا، لتكون "أقل طائفية" وأكثر مدنية، لن تتمكن من منح العلويين، وغيرهم من أبناء الطوائف، أي اعتراف بخصوصياتهم الدينية، وحقهم بالحضور في المتن العام. فسوريا في المحصلة "دولة سنية"، تقوم كل المؤسسات العامة والمواثيق الدستورية، والقوانين الناظمة والعالم الرمزي والقضاء والتعليم فيها على ذلك الأساس. حتى نظام الأسد لم يستطع أو يتجرأ على محاولة تغيير ذلك المعطى.
المسار الآخر قائم على تأسيس العلويين لتنظيمات سياسية ذات واجهة وخطاب مدني، لكن على بنية تنظيمية ووعي داخلي بتمثيلها للعلويين فحسب، شيء مثل الأحزاب السياسية العراقية أو التركية، شديدة الوعي والانغلاق الطائفي على ذاتها، لكن بواجهة وخطاب مدني/وطني عمومي.
السؤال الأهم بالنسبة لعلويي سوريا راهنا هو كيفية مغادرة مرحلة الأسد، مع الحفاظ على ميزة عصره الوحيدة بالنسبة لهم: "الخروج من العزلة"؟
يشكل الشعور بالهلع العام ضمن الأوساط العلوية راهنا مانعا أمام اجتراح مثل تلك التنظيمات، لكن انفتاح الحياة السياسية السورية مستقبلا، وتمركز جماعات أهلية أخرى، مثل الدروز والأكراد على مثل تلك التنظيمات، سيدفعهم لتأسيس ما هو مشابه لها. لكن نقطة ضعف العلويين في ذلك السياق، هي الغياب شبه التام للمؤسسة الدينية "الأكليروس" ضمن أوساطهم. فهذه الأخيرة عادة ما تكون حليفة النخبة السياسية في تشكيل مثل هذه الأحزاب متعددة الأوجه والأدوار.
أخيرا، فإن العلويين أمام امتحان تاريخي، لتجاوز مرحلة الأسدية السياسية، بمزيج من التصالح مع الوقائع شديدة القسوة التي حدثت، وإدراك عميق باستحالة الحصول على أي دعم خارجي ذي مردود سياسي و"ميداني" له قيمة. فالسؤال الأهم بالنسبة لعلويي سوريا راهنا هو كيفية مغادرة مرحلة الأسد، مع الحفاظ على ميزة عصره الوحيدة بالنسبة لهم: "الخروج من العزلة"؟