الصعود اليميني في أوروبا على محك استحقاق الانتخابات الألمانية 

بالتزامن مع الموجة الترمبية وراء الأطلسي وامتداداتها العالمية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
تظاهرة ضد اليمين المتطرف في تيريزينفيس تحت شعار "الديمقراطية تحتاجك!" في ميونيخ، 8 فبراير 2025

الصعود اليميني في أوروبا على محك استحقاق الانتخابات الألمانية 

يتوجه الألمان اليوم الأحد ٢٣ فبراير/شباط إلى صناديق الاقتراع في انتخابات مبكرة، ساد حملتها استقطاب حاد، طغى عليه حسب استطلاعات الرأي صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" الممثل لأقصى اليمين، واحتمال وصول اليميني المحافظ فريدريش ميرتس، لتبوؤ منصب المستشارية.

يأتي ذلك على خلفية صعود اليمين المتطرف في القارة القديمة، وزيادة تنظيم صفوفه، بالتزامن مع الموجة الترمبية وراء الأطلسي، وامتداداتها العالمية. لذا ستكون الانتخابات في برلين محطة مهمة لقياس حجم القوى، ومدى ثأثير ذلك على بلورة المشهد السياسي في ألمانيا وأوروبا.

اليمين المتطرف في قلب المشهد الأوروبي

وكانت العاصمة الإسبانية مدريد قد احتضنت في السابع والثامن من فبراير، تجمع زعماء أحزاب اليمين المتطرف في تحالف "وطنيون من أجل أوروبا"، الذي تعتبر كتلته الكتلة الثالثة في البرلمان الأوروبي (اليمين المتطرف له كتلة أخرى تحت اسم المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين التي تضم بشكل أساسي حزب "إخوة إيطاليا" (فراتيلي دي إيتاليا) بزعامة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني وحزب "القانون والعدالة" البولندي).

وبالرغم من استبعاد حزب "البديل من أجل ألمانيا" من الكتلتين، يعتبر تجمع مدريد نقلة نوعية في تاريخ هذا التيار الطامح للاستفادة من التحول الأميركي، وهكذا كان شعار التجمع على النسق ذاته "لنجعل أوروبا عظيمة من جديد". وقد شارك في هذه الفعالية رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ونائب رئيسة الوزراء الإيطالية ماتيو سالفيني، بالإضافة إلى زعيمة حزب "التجمع الوطني الفرنسي" مارين لوبان، وزعيم حزب "الحرية الهولندي" خيرت فيلدرز، وزعيم حزب "فوكس الإسباني" سانتياغو أباسكال.

رفع المشاركون في هذا التجمع سقف طموحاتهم لأن "إعصار ترمب غيّر العالم في غضون أسابيع قليلة"، حسبما قال فيلدرز. والذي أضاف: "بالأمس كنا منبوذين، واليوم أصبحنا التيار الرئيس". تبعا لذلك أصبح هدف اليمين المتطرف التمركز في قلب صناعة القرار الأوروبي في البلدان المعنية ومؤسسات "الاتحاد"، ويمر ذلك عبر نسج تحالف مع اليمين التقليدي تمهيدا للعمل على احتوائه أو تهميشه. ينطلق هؤلاء من نجاحاتهم في الانتخابات الأوروبية الأخيرة في يونيو/حزيران 2024، ومن إعادة انتخاب دونالد ترمب، حيث يتم استنساخ شعاراته وأساليبه.

لا ينفصل هذا المد الأوروبي عن الثورة المحافظة على النسق الترمبي، إذ ركز عشرة قادة من المجموعة الملتقية في مدريد على بلورة استراتيجيات تفكيك "الميثاق الأخضر الأوروبي"للتنصل من مكافحة تغيير المناخ، وكذلك إلغاء تشريع حقوق المثليين، وضرب السياسات المؤيدة لعدم التفريق بين الجنسين.

يندرج التكتل اليميني الأوروبي في إطار"أممية ترمب المرتسمة" والتي تضم الأرجنتيني خافيير مايلي والهندي ناريندرا مودي، والأوروبيين جورجيا ميلوني وفيكتور أوربان، والإسرائيلي بنيامين نتنياهو

واللافت أن "قمة مدريد" استضافت كيفن روبرتس، رئيس "مؤسسة التراث الأميركية المحافظة"، وأصغى الحضور إلى رسائل فيديو من السياسية الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، والرئيس الأرجنتيني خافيير مايلي. وكل ذلك يوضح أن "حزب الوطنيين الأوروبيين" هو حزب عابر للأطلسي في خياراته، لكن تفاعله لا يقتصر على "الشمال" ( الولايات المتحدة) بل يتفاعل مع بعض "الجنوب العالمي" عبر حزب "فوكس" الإسباني، وصلاته مع أقرانه في الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا وغيرها. 

يندرج التكتل الأوروبي في إطار"أممية ترمب المرتسمة" والتي تضم الأرجنتيني خافيير مايلي والهندي ناريندرا مودي، والأوروبيين جورجيا ميلوني وفيكتور أوربان، والإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وغيرهم من عصبة القوميين الشعبويين واليمينيين المتطرفين. بالطبع، لا يمكن مقارنة هذه الأممية التي لا هياكل لها كالأمميات الشيوعية، أو الاشتراكية أو الفاشية أو اليمينية الديمقراطية المسيحية، لكنها تجسد المعركة الأيديولوجية بين الليبراليين والمحافظين، وتشهد على تصدع العولمة، وانفجار الغرب لناحية مقاربة منظومات القيم، التي شكلت سلاحه التقليدي تاريخيا. 

أ.ف.ب
خلال اجتماع لـ "الوطنيين من أجل أوروبا"، أكبر كتلة يمينية متطرفة في البرلمان الأوروبي، مدريد في 8 فبراير 2025

المؤشرات المحتملة للاستحقاق الألماني 

من هنا تكمن أهمية الانتخابات التشريعية المبكرة في ألمانيا، البلد الأكبر في أوروبا الغربية والبلد المحوري في الاتحاد الأوروبي، نظرا لموقع برلين الحالي، ولثقل التاريخ النازي الذي لم تمحَ آثاره. 

يجدر التذكير أنه في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 2024 تمخضت أزمة سياسية نادرة عن تفجر الائتلاف الحكومي الهش وغير المتجانس، الذي قاده الديمقراطي الاشتراكي أولاف شولتز، والذي ضم الديمقراطيين الاشتراكيين، والمدافعين عن البيئة من "الخضر" مع الليبراليين من الحزب "الديمقراطي الحر"، وذلك بعد إقالة وزير المالية وزعيم الليبراليين كريستيان ليندنر، إثر خلاف على معالجة التدهور الاقتصادي. وأتى ذلك على خلفية تداعيات الحرب الأوكرانية وتعاظم التنافسية الدولية، وتراجع التصدير الألماني.

المستشار الألماني المحتمل ميرتس، الأوروبي الملتزم والأطلسي عن قناعة، يبدو مصمما على اختبار قوة مع أميركا من خلال زيادة عناصر القوة، وعدم بقاء ألمانيا وأوروبا في موقع دفاعي

ولا يمكن فصل الملف الاقتصادي- الاجتماعي عن موضوعي الهجرة والإرهاب، اللذين يشكلان أبرز عناصر دعاية العنصريين أو جماعات أقصى اليمين في ألمانيا، التي ازداد فيها حجم المهاجرين أو ذوي الأصول المهاجرة منذ موجة (2014-2015)، وهكذا يزداد الترابط، وإمكان الخلط السلبي بين الهجرة واللجوء والإسلام والإرهاب، وصعود اليمين المتطرف، وهذا يشكل أخطر وصفة سياسية في بلد مثل ألمانيا.

تجري انتخابات الأحد 23 فبراير في سياق الأزمة الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي والاستقطاب القوي بشأن مسألة الهجرة والعنف السياسي والإرهاب، والدعم الواضح من إدارة ترمب- جيه دي فانس- إيلون ماسك، لليمين المتطرف.

وحسب آخر استطلاعات الرأي، يتقدم "التحالف اليميني الديمقراطي المسيحي- الليبرالي" بفارق كبير (حوالي 30 في المئة) على حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، الذي يحقق تقدما قويا (20 في المئة)، فيما سيتراجع "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" إلى المركز الثالث (15-16 في المئة) وتحل بعد ذلك أحزاب "الخضر" و"الليبراليين" و"اليسار".

على الأرجح، سيقع على عاتق حزب "الاتحاد المسيحي الديمقراطي" التعامل مع حزمة من التحديات التي تواجهها ألمانيا، أولها الركود الاقتصادي، ثم المجتمع المنقسم، وسياسات إدارة دونالد ترمب، خصوصا حول مستقبل الحرب الأوكرانية و"الحرب التجارية".

أ.ف.ب
المستشار الألماني أولاف شولتز والمرشح لمنصب المستشار فريدريش ميرتس

وسيحتاج فريدريش ميرتس زعيم حزب "الاتحاد المسيحي الديمقراطي"، في حال الفوز، إلى العثور على شريك ائتلافي واحد أو أكثر، في عملية تستغرق عادة أسابيع، إن لم تكن أشهرا، حتى في الأوقات الأقل اضطرابا. لكن في مطلق الأحوال، تعهد ميرتس بعدم التحالف مع حزب "البديل من أجل ألمانيا" وهذا يبعد شبح هذا التيار، الذي يذكر الأوروبيين بمرحلة ما بين الحربين العالميتين. إلا أن الزعيم اليميني التقليدي، يقترب من أفكار اليمين المتطرف عبر وعده بالإجابة على المخاوف العامة، بشأن الهجرة غير النظامية، واعتقاده أنه يمكن للأحزاب الوسطية، عبر هذا النهج وقف صعود المتطرفين اليمينيين، الذين اخترقوا المشهد السياسي في الكثير من الديمقراطيات الغربية.

وبالرغم من رسوخ ثقافة "الائتلاف السياسي المتنوع" (حكومات الوحدة الوطنية) في النظام الفيدرالي الألماني، لا تبدو مهمة ميرتس يسيرة بسبب الأجواء المشحونة في الأسابيع الأخيرة، التي تهدد بتعقيدات جمة في تأليف الحكومة المقبلة مع برلمان قد يضم ما يصل إلى ثمانية أحزاب. لكن ذلك سيذلل مع الوقت.

يدلل المشهد الألماني أن مخاطرالصعود اليميني المتطرف، ورسوخه داخل المشهد الأوروبي آخذة بالازدياد، وقد شكل خطاب نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس أمام "مؤتمر ميونيخ للأمن"، منعطفا في تاريخ العلاقة الأميركية-الألمانية، والأميركية-الأوروبية، نظراً لأطروحاته الشعبوية المتشددة و"دروسه" حول فهم حرية التعبير، ودعم حزب "البديل من أجل ألمانيا" وإشهاره معركة أيديولوجية من دون هوادة.

بيد أن المستشار الألماني المحتمل ميرتس، الأوروبي الملتزم، والأطلسي عن قناعة، يبدو مصمما على اختبار قوة مع الجانب الأميركي من خلال زيادة عناصر القوة، وعدم بقاء ألمانيا وأوروبا في موقع دفاعي سواء لناحية حرب التجارة والرسوم الجمركية أو لجهة الخيارات الاستراتيجية المتصلة بالأمن الأوروبي.

font change

مقالات ذات صلة