أوكرانيا: كنز الموارد الطبيعية الذي يلهب أطماع بوتين وشهية ترمب

بين التيتانيوم والليثيوم والغاز، تحولت خيرات البلاد الى ميدان المعارك العسكرية والاقتصادية التي تعيد رسم وجه العالم

Shutterstock
Shutterstock
حقول أزهار عباد الشمس، في أوكرانيا

أوكرانيا: كنز الموارد الطبيعية الذي يلهب أطماع بوتين وشهية ترمب

منذ قديم الزمن، تتمتع أوكرانيا بثروات هائلة من الموارد الطبيعية، مما يجعلها دائما محط طمع الدول الكبرى وأحد مراكز النزاعات الجيوسياسية. تزخر أوكرانيا بموارد معدنية نادرة، مثل التيتانيوم والليثيوم والمنغنيز والنيون وغيرها، وهي مواد تُعتبَر ركنا أساسيا من أركان الصناعات الحديثة، مثل الدفاع والتكنولوجيا المتقدمة والطاقة المتجددة والتطبيقات النووية والطبية. أما موقع أوكرانيا الجغرافي فيجعلها نقطة استراتيجية تتجاوز كون البلاد الواقعة قرب الطرف الشرقي للقارة الأوروبية مجرد خزان للثروات.

تمتلك أوكرانيا ما يقرب من 20 ألف موقع طبيعي معروف، يحتوي على 116 نوعا مختلفا من الثروات. قبل شن روسيا حربا شاملة على البلاد عام 2022، كانت أوكرانيا من بين أبرز بلدان العالم المنتجة لمجموعة واسعة من المعادن والموارد الطبيعية الأخرى.

يبرز، مثلا، التيتانيوم، إذ تمتلك أوكرانيا سبعة في المئة من احتياطياته العالمية، والاحتياطيات الأكبر في أوروبا. يُستخدَم التيتانيوم في صناعات مثل الطيران والطب، مما يجعله موردا أساسيا للصناعات الحيوية.

مناطق الشرق والجنوب، بما في ذلك دونباس وسواحل البحر الأسود، تضم النسبة الكبرى من موارد أوكرانيا المعدنية والطبيعية

إلى جانب ذلك، تُعتبَر أوكرانيا واحدا من البلدان الرئيسة في إنتاج النيكل والليثيوم، وهما معدنان يؤديان دورا حاسما في تصنيع البطاريات وبالتالي السيارات الكهربائية. ووفق تقديرات عام 2021، تحتفظ أوكرانيا باحتياطيات مؤكدة من الليثيوم تصل إلى 500 ألف طن متري، مما يجعلها من أغنى البلدان بهذا المعدن في أوروبا.

أراضي موارد أوكرانيا... مسرح للنزاع

مع بدء الحرب الروسية، تحولت السيطرة على العديد من هذه الثروات إلى مسرح للنزاع. تضم مناطق الشرق والجنوب، بما في ذلك دونباس وسواحل البحر الأسود، النسبة الكبرى من موارد أوكرانيا المعدنية والطبيعية. فهذه المناطق تحتضن 80 في المئة من احتياطيات النفط والغاز الطبيعي، و40 في المئة من احتياطيات المعادن النادرة، ومعظم احتياطيات الفحم التي كانت تدعم الصناعة الثقيلة الأوكرانية.

روسيا، بعد سيطرتها على شبه جزيرة القرم عام 2014، عززت وجودها في هذه المناطق الغنية بالموارد الطبيعية. وأضافت السيطرة الروسية على البحر الأسود بعداً جديداً للنزاع، إذ تضم المياه الإقليمية الأوكرانية احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، وتتراوح التقديرات بين 37 مليار متر مكعب وأكثر من تريليوني متر مكعب. ويعود هذا التفاوت الكبير إلى اختلاف أساليب التقييم، إذ تعكس الأرقام المنخفضة الاحتياطيات المؤكدة، بينما تأخذ التقديرات الأعلى في الاعتبار القدرات غير المستغلة، إلى جانب تأثر إمكانات الوصول والتطوير بعوامل جيوسياسية، مثل ضم روسيا شبه جزيرة القرم.

للمزيد إنفوغراف: ثروة أوكرانيا المعدنية إلى طاولة المفاوضات

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تسعى روسيا إلى الحفاظ على نفوذها في أوكرانيا من ضمن استراتيجياها الساعية إلى السيطرة على "بلدان الجوار القريب". لكن الحرب الروسية في أوكرانيا تجاوزت الأهداف السياسية التقليدية لتشمل أهدافا اقتصادية بحتة. تُعتبَر ثروات أوكرانيا أحد العوامل الرئيسة التي دفعت الكرملين إلى التصعيد، ذلك أن السيطرة على هذه الموارد الطبيعية تعزز قدرات روسيا الاقتصادية وتمنحها نفوذا أكبر على أوروبا.

إدارة ترمب اقترحت أن تورّد أوكرانيا معادن كجزء من شراكة اقتصادية أوسع، تشمل الدعم المالي والعسكري الأميركي لكييف، واستجاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى هذه المبادرات بعرض خطط للتعاون

ليس الغاز الطبيعي إلا مثلا واضحا على ذلك. تُعَد روسيا أبرز البلدان المصدرة للغاز في العالم، وتمنحها السيطرة على البنية التحتية للغاز في أوكرانيا، بما في ذلك شبكة الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، ورقة ضغط استراتيجية.

وتُعتبَر المعادن النادرة مثل الليثيوم والتيتانيوم والنيون من الثروات الطبيعية الأساسية التي تُشعِل النزاع في أوكرانيا. هذه المعادن تُستخدَم في الصناعات التكنولوجية المتقدمة مثل الهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، والطائرات. ويُستخدَم النيون، مثلا، في صناعة أشباه الموصلات، مما يجعل أوكرانيا مورّدا رئيسا للمواد الأولية الخاصة بهذه الصناعة الحيوية. كانت أوكرانيا تنتج نحو 70 في المئة من إمدادات النيون العالمية قبل الحرب، مما يجعل السيطرة على هذا المورد هدفا استراتيجيا لروسيا.

ترمب مهتم بموارد أوكرانيا لشراكة اقتصادية - عسكرية

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تُظهِر الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس العائد دونالد ترمب، اهتماما متزايدا بموارد أوكرانيا. ترمب، الذي تبنى سياسات تهدف إلى تعزيز الصناعات الأميركية وتقليل الاعتماد على الصين، بما في ذلك فرض رسوم جمركية مرتفعة على الشركاء التجاريين والخصوم السياسيين على حد سواء، يرى في ثروات أوكرانيا فرصة استراتيجية. هذا الملف كان من ضمن جملة ملفات حملها وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت إلى كييف التي زارها قبل أيام، وتوقّع محللون أن يكون بيسنت ربط بين الدعم الأميركي لأوكرانيا وبين تزويدها الولايات المتحدة موارد طبيعية تحتاج إليها كمواد أولية في صناعاتها.

.أ.ب
منجم في منطقة كيروفوغراد الأوكرانية، 12 فبراير 2025

تمثّل المعادن النادرة مثل الليثيوم والتيتانيوم والغرافيت جزءا أساسيا من هذا الاهتمام. فهذه المعادن تدخل في الصناعات التكنولوجية والعسكرية، بما في ذلك صناعة الطائرات، الهواتف الذكية، وأنظمة الدفاع الصاروخي. واقترحت إدارة ترمب أن تورّد أوكرانيا هذه المعادن في إطار شراكة اقتصادية أوسع، تشمل الدعم المالي والعسكري الأميركي لكييف. واستجاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى هذه المبادرات بعرض خطط للتعاون مع الولايات المتحدة، مؤكدا أن استغلال هذه الموارد يمكن أن يساعد في إعادة بناء الاقتصاد الأوكراني المتضرر من الحرب الدائرة.

في حال تمكنت أوكرانيا من استعادة السيطرة على ثرواتها واستغلالها بفاعلية، قد تصبح طرفا فاعلا رئيسا في السوق العالمية للمعادن النادرة والطاقة

وعلى رغم الإمكانات الهائلة، تواجه أوكرانيا تحديات كبيرة في استغلال ثرواتها. لقد دمرت الحرب البنية التحتية، وأثّرت في شكل كبير في عمليات التعدين والإنتاج. ومن نافل القول إن الاستثمار في هذا القطاع يتطلب استقرارا سياسيا وأمنيا، وهو ما تفتقر إليه البلاد حاليا.

كذلك تسعى الحكومة الأوكرانية إلى جذب استثمارات من خلال تقديم حوافز إلى الشركات الأجنبية، ولا سيما منها الغربية. لقد أعلنت كييف، مثلا، خططا لتطوير أكثر من 100 موقع تعدين جديد بالشراكة مع مستثمرين دوليين. وتُقدَّر إمكانات الاستثمار في قطاع التعدين بنحو 15 مليار دولار بحلول عام 2033.

Shutterstock
مصنع للتعدين بجانب منجم كبير في جنوب أوكرانيا

وفي سياق متصل، تؤدي أوروبا دورا محوريا في دعم أوكرانيا للحفاظ على مواردها. لقد أطلق الاتحاد الأوروبي شراكات استراتيجية مع أوكرانيا لتطوير قطاع التعدين، بما في ذلك مشروع مشترك لاستخراج المعادن النادرة مثل الليثيوم والتيتانيوم. ولا تهدف هذه الشراكات فقط إلى تعزيز الاقتصاد الأوكراني، بل تسعى أيضا إلى تقليل اعتماد أوروبا على مورّدين خارج القارة مثل الصين وروسيا.

مستقبل أوكرانيا الاقتصادي رهن حماية ثرواتها

إذا تمكنت أوكرانيا من استعادة السيطرة على ثرواتها واستغلالها بفاعلية، قد تصبح طرفا فاعلا رئيسا في السوق العالمية للمعادن النادرة والطاقة. وسيساهم هذا في تعزيز اقتصادها، ويمنحها قدرة أكبر على مقاومة الضغوط الخارجية، سواء من روسيا أو من قوى أخرى. وفي المقابل، سيعتمد مستقبل هذه الموارد في صورة كبيرة على مآلات الحرب والعلاقات الجيوسياسية في المنطقة. ذلك أن أوروبا والولايات المتحدة تؤديان دورا حيويا في دعم أوكرانيا، سواء من خلال فرضهما عقوبات على روسيا أو من خلال تقديمهما دعما اقتصاديا وعسكريا إلى كييف.

موارد أوكرانيا ليست مجرد ثروات طبيعية، بل هي عامل أساسي في تشكيل مستقبل البلاد ودورها في النظام العالمي

ختاما، تظل أوكرانيا محورا رئيسا من محاور النزاعات الدولية لأسباب كثيرة من أبرزها ثرواتها الهائلة من الموارد الطبيعية والمعادن النادرة. وبين الأطماع الروسية والاستراتيجيات الأميركية، تشكّل هذه الموارد عاملا حاسما في إعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية. وبينما تسعى روسيا إلى تعزيز هيمنتها الاقتصادية، ترى الولايات المتحدة في هذه الثروات فرصة لتعزيز صناعاتها وتقليل اعتمادها على المنافسين.

وفي ظل هذه التحديات، يبقى مستقبل أوكرانيا مرتبطا بقدرتها على حماية ثرواتها واستغلالها في شكل يعزز موقفها الاقتصادي والسياسي على الساحة الدولية. ليست موارد أوكرانيا مجرد ثروات طبيعية، بل هي عامل أساس في تشكيل مستقبل البلاد ودورها في النظام العالمي.

font change

مقالات ذات صلة