إيفلين عشم الله لـ"المجلة": ممارسة الفن بحرية كسر لكل المحظورات

مدرسة الفنان هي ذاكرته الشخصية

إيفلين عشم الله لـ"المجلة": ممارسة الفن بحرية كسر لكل المحظورات

"إيفلين عشم الله- طفولة أبدية"، كما يقول عنوان أحد معارضها. عبارة تختصر هذه الفنانة التشكيلية المصرية، إذ لا يمكن انتزاعها من تلك الطفولة، كما لا يمكننا نزع الطفولة عنها خلال سنوات طويلة تلك كونت لديها المخزون البصري الذي نراه في لوحاتها، بتفاصيل متعددة. ما نراه في لوحاتها، هو انعكاس للحب والجمال اللذين أعطتهما إياها حارة الملاحين في دسوق، محافظة كفر الشيخ، وهي كانت الأمينة عليهم فأخرجت ما اختزنته عنهم على شكل لوحات تروي حكاية بداخلها. عن تلك الحكاية، كان لنا معها هذا الحوار.

  • في 2021 احتضنت قاعة "كريمسون" للفن بالقاهرة معرضا لك تحت عنوان "إيفلين عشم الله-طفولة أبدية"، ماذا تخبريننا عن هذه الطفولة؟

كل إنسان، أيا تكن مهنته، إذا فقد طفولته فهو يفقد إنسانيته، يفقد روحه وخياله وكل شيء. يقال في علم النفس إن الطفل لغاية الأربع سنوات يكون قد تشكل. فإذا ما أبقينا طفولتنا هذه، فسيبقى لدينا الشغف بالحياة، والشغف بالناس وحبهم، ستبقى لدينا رواية التاريخ والذاكرة الخاصة بنا ونحن أطفال، ستبقى هذه الذاكرة خضراء وحية ومزهرة، هذه الطفولة إذا ما فقدناها، فقدنا أنفسنا، وتحولنا إلى شجرة دون جذر، والجذر هو الأساس.

محظورات

  • في ذلك العام أيضا معرض "الكلام الذي لا يقال"، إلى أي حد يستطيع الفن كسر المحظورات؟

المسألة تخضع لوجهة نظر الفنان للأمور، على سبيل المثل، حين شاهدنا إسرائيل وهي تضرب غزة، لم يكن الموضوع موضوع تدمير فحسب، فالقصة أعمق وأكبر من ذلك، وهي تستمر طويلا في نفوسنا، هذا الموضوع سيبقى في نفوس الفلسطينيين لأزمان طويلة، الحرب العالمية انتهت لكن آثارها محال أن تنتهي، هذه التحولات الكبرى تدخل في الجينات. من وضع المحظورات هي مؤسسات، حتى تتمكن من تحريك خيوط البشر. القصة هي في امتلاك بعضهم وسائل القوة ليحكموا بها. في رأيي أن امتلاكنا القدرة على ممارسة الفن بحرية كاملة، هو كسر للمحظورات جميعها.

إذا فقد الإنسان طفولته فقد إنسانيته وروحه وخياله وكل شيء وتحول شجرة دون جذر

  •  كيف تصفين رحلتك في الفن، ومعه؟ فهناك مرحلة سميتها بـ"الجد والهزل"، وأخرى "كائنات الحب حروفا"... بناء على ماذا قسمت مراحلك الفنية؟

جميع المراحل هي امتداد لبعضها، وبين مرحلة وأخرى، أتوقف شهورا عدة، أتأمل فيها الحياة وأعمالي. أنا شخص استبطاني، أعرف أن مرحلة من المراحل انتهت حين أفرّغ كل ما في داخلي على اللوحات. ما في داخلي أخرجه إلى السطح، وأخرجه بسهولته وصعوبته وطفولته، في نهاية المرحلة أستعين بالمقربين مني حتى يعطوني آراءهم. وعلى العموم أرى أننا طالما نحن أحياء، فلا ماضي هناك. أمي بكل تفاصيلها بحنانها وضحكتها لا تزال تعيش معي.

اللوحة والسيرة

  •  في 2015 بدأت بإضافة الكتابة إلى لوحاتك، ما كان السبب؟

نشأتْ هذه النزعة بعد توقف سنوات عن الرسم، وكان هناك تجاذب بين أن أكتب أو أن أرسم، والرغبتان أوقفت إحداهما الأخرى. كانت حالتي النفسية مضطربة، ولم أكن قادرة على إنجاز شيء ما. الحروف بالنسبة إليّ هي كائنات، لأن الناس تخلق الحروف من الأشكال التي تراها، شكل الحشرات وشكل النباتات، وجميع الكائنات. وكما سقطت التفاحة على نيوتن، باغتتني فكرة، لماذا لا أسرد حكايتي على سطح اللوحة، لماذا لا أرسم الحكاية، فبدأت بتنفيذ ذلك. أكتب جملا قصيرة، لكنها بداخلي كالشلال المتدفق الذي لا بد من إخراجه. ثم بدأت أرسمها بتراتبية عشوائية، يمكن الناظر إليها أن يكوّن منها جملته الخاصة كيفما يريد، أن يختار منها. أنا أحب اللعب في الحياة، فلعبت مع الحروف.

  •   هناك اتجاه فني ظهر في مصر بعد 1967، ينحو نحو الفانتازيا الشعبية، وقد اتبعت خطى من سبقوك في هذا الاتجاه، مثل عبد الهادي الجزار وحامد ندا، هل شهدنا في العالم العربي في فترات لاحقة مناخا أكثر إيجابية جعل الفنانين يعودون الى الواقع، أم ان الهروب الى عالم الخيال لا يزال هو المسيطر؟

لطالما رسم الفنانون الشعبيون انطلاقا من واقعهم، شخصيا نبعي ليس الجزار (تقصد التشكيلي عبد الهادي الجزار، رائد في الفن التشكيلي في مصر 1925-1966)، بل الحياة نفسها، فقد تأثرت بالطين الذي وقعت عليه وأنا أرتدي لباس المدرسة، وتأثرت بالناس، بضحكهم ومشاكساتم بعضهم بعضا. كل هذا يتحول إلى تراث، فلماذا أترك هذا التراث وأتبع اتجاها فنيا سائدا. أنا أمسك بالوردة والشجرة التي كنت أتسلقها لآكل الثمرة. ليس هناك شيء اسمه خيال مطلق، لكل خيال تربة ينبت فيها. وأنا لدي أصولي التي ترويني وأرويها كل يوم.

الذاكرة

  •  ما الذي شكل ذاكرتك ومخزونك البصري، وكيف أثر بك انتماؤك الى حضارة أتقنت وأنتجت الرسم والنحت وأشكال الفنون؟

أرسم الجمال الذي عشته، بما فيه من بساطة، الفقراء وجمالهم وفطنتهم، الفطنة هي وليدة الحاجة الى الأشياء، تنمو وتزدهر. لم أذهب في فني إلى الأقصر ولا أسوان، ونحن هنا لا يعلموننا تاريخنا، لم أتعلم عن مصر القديمة في تاريخنا، فلم أتأثر بها. التأثر الحقيقي هو ما يلمسه المرء بيديه، ما يعيشه. ألعاب الأطفال تنم عن عبقريتهم، تاريخ مصر هو بألعابها، مثلا يوم الخبيز لا يزال حاضرا لدي، وفي داخلي هو أشبه بعجين أخبزه.

الحروف كائنات، لأن الناس تخلق الحروف من الأشكال التي تراها، شكل الحشرات والنباتات وجميع الكائنات

امتلكنا في دسوق مولد إبراهيم الدسوقي، صاحب الطريقة الصوفية، وله أتباع حتى في المغرب العربي، كنا نشاهد هذا المولد وكان احتفالية كبرى يفوق حجمها ما تشهده أعياد هذا الوقت. كنت أعيش ضمن هذه الحالة، ضمن أغاني طفولتي ورفاق تلك الطفولة، فكنت أرسم عن هذه الحالة في المدرسة، لم تخطر ببالي التقنيات، بالنسبة إليّ من يرسم، يرسم باندفاعه.

تعلمت من تلك الحارة ومن رفقتها وأناسها الكثير، حتى من الوقائع التي كانت مزعجة في وقتها، إلا أنها مع الزمن تتحول إلى فلسفة أعمق، وأنا أرسم هذه الفلسفة الخاصة بالفرح. لدي القدرة على النهل من هذا المخزون، حتى لو وصل عمري ثلاثمئة عام، لن ينضب، فهي مشاعر صغيرة متصل بعضها ببعض.

  •  قلت مرة "لا أتجنب شيئا في الرسم وأدلق نفسي على اللوحات"، كيف شذبت تلك الروح لتتصالحي مع كل ما تطرحينه على اللوحة دون حساب؟

الإنسان ينمو، لا يشذب. القيود التي تحيط بنا هي للإنسان الذي لم يدرك المكان الذي نشأ فيه والأشخاص الذين احتضنوه وأحبوه، ولم يدرك من هم الذين يتعامل معهم. نشأت في حارة الملاحين في دسوق كفر الشيخ، وهي حارة فقيرة جدا، منزلنا الوحيد الذي امتلك الماء والكهرباء. لعبت مع أطفال الحارة مختلف الألعاب. في ليالي رمضان كان هناك فتى اخترع لنا سينما، صنع أشخاصا من الكرتون، كان يضعهم على عيدان الجريد (النخل) واستعان بولدين آخرين يحركان النماذج بينما يحكي الحكاية. كنا نجلس ساعات ونحن نشاهد. المطر مثلا كان شديدا في دسوق ويأخذ مجرى، الأولاد كانوا يأخذون قشر البرتقال ليأكلوه من المياه، لا تكون الطفولة سعيدة إن كانت غنية أو بالعكس، ما يهم هي العين التي ترى. هذا المخزون الذي احتفظت به في داخلي، هو الذي كبرني ونماني. هو الذي جعلني أرسم، وجعلني أمّا بكل ما فيها من حالات جيدة أو غير جيدة.

هذه هي طفولتي، فلماذا وكيف أشذب؟ بالعكس تماما أدلق نفسي لأن ما في داخلي مخزون جميل جدا.

الفن والتاريخ

  •  إلى أي مدى يعكس الفن تاريخ المجتمع؟

إذا عدنا إلى الوراء، تاريخ إيطاليا مثلا، فسنجد أن التاريخ الروماني، ينعكس من خلال فن النحت والعمارة والتصوير، المدرسة الكلاسيكية نشأت في روما. الرسام حينذاك أو في أي وقت يعيشه، يرسم الأزياء الخاصة بزمنه، فنرى تأريخا للمجتمع. فمهما كان الفن خياليا، إلا أنه يعكس طريقة فهم المجتمع وقتها للكون والعالم والحياة، ويعطينا صورة عن طريقة تفكير الناس. فالفنان ليس خارجا عن السياق، بل هو يأتي من نسيج المجتمع.

مهما كان الفن خياليا، إلا أنه يعكس طريقة فهم المجتمع وقتها للكون والعالم والحياة، ويعطينا صورة عن طريقة تفكير الناس

يمكن أن نستنبط التاريخ من مذكرات كاتب مثلا، هذا هو التاريخ الحقيقي بعيدا عما يكتبه الساسة. فإذا فقد الإنسان طفولته فقد إنسانيته وروحه وخياله وكل شيء وتحول شجرة دون جذر. الطبيعي لأي بلد يظهره فنانوه. ولو لم يبن المصريون القدماء فنهم، ولو لم يصنعوا زهرة اللوتس ويكتبوا على المسلات بلغتهم، ما كنا لنتعرف اليهم. إذن، الفن هو مرآة التاريخ الحقيقية.

  •  ما المشروع الذي تعملين عليه حاليا؟

المشروع الحالي هو لوحة ثلاثية لأمي، مترين بمتر، وعدتها قبل وفاتها أنني سأكملها. لم أكملها بعد لكنني أعتقد أنها ستكون فاتحة مرحلة جديدة. ستفتح لي المجال لكي أعمل من جديد.

font change