روايات تركها أصحابها غير مكتملة فشقّت طريقها إلى الضوء

من فلوبير وكافكا إلى نابوكوف وماركيز

John MACDOUGALL / AFP
John MACDOUGALL / AFP
صفحات من المخطوطة الأصلية لرواية "المحاكمة" لفرانز كافكا

روايات تركها أصحابها غير مكتملة فشقّت طريقها إلى الضوء

استطاعت أعمال روائية غير منتهية، لهذا السبب وذاك، أن تحقق أثرا فنيا ذائع الصيت، ضاهت به قيمة أعمال روائية كاملة، للروائي نفسه أو غيره من أقرانه وأترابه من مجايليه أو من شتات الأجيال السابقة واللاحقة بحسب تعاقب الحقب والعصور.

حين نعمل النظر في النماذج اللافتة للروايات غير المكتملة نجد مفارقات بالغة الإثارة، سواء مصنفة السبب ضمن من أدركهم الموت أو أنهكهم المرض المزمن ولم يتمكنوا من استئناف كتابة عملهم السردي، أو مصنفة السبب ضمن من تخلوا أو توقفوا بالأحرى عن الاستمرار في عملهم الفني بسبب إكراهات تعدد اهتماماتهم وإنجازاتهم المتزامنة في أكثر من نص بهوية سردية أو أخرى، وفي ألطف الأحوال تعسر المضي الى الأقصى مع الانقطاع المفاجئ لخيط السرد، على أمل العودة إليه لاحقا، أو مصنفة السبب ضمن من توقفوا عن اختيار وقناعة، إذ أن عدم الرضى هو اليقين الدامغ لمبررهم في عدم مواصلة إنهاء العمل.

في كل الأحوال، ألا يعني توقف العمل الروائي عند هذا الحدّ وذاك، رافضا أن يكتمل بأيما سبب، خارج المسألة القدرية، أنه هو نفسه ما شاء لنفسه أن ينحسر عند ذلك الطور، أن يتمرد العمل غير المكتمل ويصنع لنفسه مصيرا غير المصير الذي أراد له كاتبه؟ أو بصيغة أخرى، أليس جمال غير المكتمل هو أن يستوفي كماله الخاص بشروط النقصان؟

وسواء خلدت معظم هذه الأعمال رغم عدم اكتمالها بقدرتها على الإبهار أو لم تنجح في أن تبهر كما ينبغي، فهي بصورة من الصور خلقت حولها هالة جدل وإثارة لا يمكن إلغاؤهما إطلاقا، وهذا السر في جاذبيتها على مرّ الأزمنة.

سواء خلدت معظم هذه الأعمال رغم عدم اكتمالها بقدرتها على الإبهار أو لم تنجح في أن تبهر كما ينبغي، فهي خلقت حولها هالة جدل وإثارة

أما الطريف في المسألة فهو أن ينبري كتاب آخرون، بدلاء، لمحاولة إنهاء الأعمال غير المكتملة بطلب من الناشر أو بمبادرة من كتاب سير هؤلاء الروائيين، أو بتجاسر من ورثة هؤلاء الكتاب، وشتان بين أصالة معدنها النادر وبين اللاحق الزائف.

Wikicommons
فرانز كافكا

كافكا وغسان كنفاني

ما أن نصادف اللافتة التجنيسية "رواية غير مكتملة" حتى يعن في البال فرانز كافكا الشهير برواياته الأربع غير المنتهية: "أميركا"، "القلعة"، "المحاكمة"، و"تحضيرات عرس في الريف".

وتعقب الطيف الكافكاوي، الحالة العربية شبه الوحيدة ذات الصدى الهائل والشهير هو الآخر برواياته الثلاث غير المكتملة، الكاتب غسان كنفاني: "العاشق"، "الأعمى والأطرش"، و"برقوق نيسان".

والحال أن تاريخ الرواية غير المكتملة حافل بالكثير من العلامات والنماذج، كلاسيكية وأخرى معاصرة، يمكن أن نقف عند بعضها على سبيل المثل لا الحصر.

Reuters
أطفال فلسطينيون يجلسون بجوار جدارية للكاتب غسان كنفاني

ديكنز وفلوبير وسوسيكي

"لغز إدوين درود" للإنكليزي تشارلز ديكنز هي الرواية الأخيرة في رصيده، نشرت بعد وفاته عام 1870، ويشغل حيز سردها جون جاسبر، قائد جوقة الكاتدرائية في مدينة كلويسترهام، المستغرق في إدمان الأفيون، فضلا عن انجرافه في حب تلميذته، أما مجرى الإثارة فموقد غموضه هو اختفاء إدوين درود، ابن أخي جون جاسبر.

"لغز إدوين درود"

وفي حوزة الروائي الياباني ناتسومي سوسيكي رواية غير مكتملة أيضا بعنوان "النور والظلام"، إثر وفاته عام 1916، ومدار وقائعها يستحوذ عليه ارتياب الزوجة أونوبو في أحوال زوجها تسودا، المرجح أن حبه لاعج في امرأة أخرى. وبالاستناد إلى هواجسها الحادة تتحرى حول هذه الحقيقة، ثم تتشابك الحكايات لحظة إجرائه عملية جراحية بسيطة، ويفضي مجرى المصائر إلى ضفة ثالثة حينما يلتقي تسودا حبيبته السابقة، وهي مقترنة برجل آخر.

ملفيل وفيتزجيرالد وموزيل

"البحّار" للكاتب الأميركي هرمان ملفيل، رواية قصيرة نشرت عام 1924 بعد وفاته عام 1891، ومدارها حول بيلي بود، البحار الإنكليزي الوسيم على متن سفينة حربية، المحاط بإعجاب أفراد الطاقم، في حين يكن له قائد السفينة العداء ويتهمه بالتآمر والتمرد ويقيم له محاكمة عسكرية تسفر عن الحكم عليه بالإعدام.

"النور والظلام"

كذلك رواية "بوفار وبيكوشيه" للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير نشرت عام 1881 بعد سنة من وفاته، وتنسج وقائعها حول مصادفة لقاء في الميناء بين شخصين هما بوفار وبيكوشيه امتهنا ويا للغرابة حرفة الناسخ، وألفيا نفسيهما يتشاركان حدّ التطابق الاهتمامات ذاتها. وفق ذلك يقرران معا العيش في الريف، متقاسمين ميراثا سيكون له أثر التغيير الجذري في حياتهما. وإذ يجربان أساليب عيش جديدة كمزارعين يفشلان، فيتحولان إلى الاهتمام بعلم الكيمياء والطب وعلم الحيوان والجيولوجيا، بل ينفتحان حتى على الهندسة المعمارية، وهكذا من حقل معرفي إلى آخر، يؤول بهما المطاف التعيس إلى خيبة كاسحة، فيؤوبان إلى حقيقة بدئهما كناسخين لا غير.

لعل أشهر رواية ملحمية غير مكتملة في القرن 20 هي "رجل بلا صفات" للنمساوي روبرت موزيل

الكاتب الأميركي سكوت فيتزجيرالد هو الآخر ستصدر له رواية غير مكتملة بعنوان "الزعيم الأخير" سنة 1941 بعد عام من وفاته 1940، وتتعقب أحوال مونرو ستار، الملقب بفتى العجائب، الشغوف بالعمل في الاستديو السينمائي كمنتج أفلام شاب، تتأرجح به المصائر بين سطوة السلطة، وألق الطموح واستشراء الفساد.

OFF / AFP
الكاتب فرنسيس سكوت فيتزجيرالد

ولعل أشهر رواية ملحمية غير مكتملة في القرن 20 هي "رجل بلا صفات" للنمساوي روبرت موزيل التي استغرقت كتابتها الفترة ما بين 1930 و1943، وترصد حياة أولريش مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، فيما يسعى لكي يكون ذا شأن عظيم، وهذا ما لا يجد له سبيلا بسبب جهله الطريقة أو الدليل. إذ فشل كضابط وكمهندس، وآل به الحال إلى الانسلاخ عن عمله لفترة كيما يعمل تأملاته في الوجود، بحثا عن العظمة المفقودة.

"رجل بلا صفات"

كابوت وكامو ونابوكوف

نشرت رواية "الصلوات المستجابة" للكاتب الأميركي ترومان كابوت غير مكتملة هي الأخرى عام 1986 بعد سنتين من وفاته 1984، ومجمل سردها المحتدم يرصد حيوات الطبقة الرفيعة المبتذلة مقابل الطبقة السفلى، فيما وقائعها تفصح بصخب حميم عن مصادر تخييلها المستندة إلى تجاربه الذاتية كصديق لامع لأجمل نساء المجتمع الأميركي في أربعينات القرن العشرين.

"الصلوات المستجابة"

أما "الرجل الأول" للكاتب الفرنسي ألبير كامو فهي سيرة روائية، صدرت عن دار "غاليمار" عام 1994 بعد 34 سنة من وفاته إثر حادث سير في 1960، وترصد مسعى الشاب جاك إلى معرفة من يكون والده الذي قضى نحبه في الحرب بعد عام من ولادته، وفي سبيل ذلك يقرر السفر إلى الجزائر كي يتحرى عن الضائع من حقيقته الغامضة.

لا ريب أن السبب الدامغ وراء توقف ماركيز عن مواصلة كتابة روايته هذه هو ذاكرته التي تكالب عليها النسيان

بخلاف الأعمال الروائية الآنفة، تأخرت رواية "لورا الأصلية" للروسي الأميركي فلاديمير نابوكوف في الصدور حتى عام 2009 بعد 30 عاما من وفاته في 1977، وموجز وقائعها ذات النزوع الأيروتيكي يتجاذبها طيش لورا المقترنة بعالم مفرط البدانة يدعى فيليب، منهوب البال الدائم بقضية موته على نحو وجودي.

غبريال غارثيا ماركيز

تبرز أخيرا في هذا السياق رواية "موعدنا في أغسطس" للكولومبي غبريال غارثيا ماركيز المنشورة من طرف ابنيه عام 2024 بعد 10 سنوات من وفاته عام 2014 وقد أدركه الخرف في آخر العمر، ولا ريب أن السبب الدامغ وراء التوقف عن مواصلة كتابة روايته هذه هو ذاكرته التي تكالب عليها النسيان، بل إنه أوصى بإتلافها كما يفصح ابنه الأصغر.

REUTERS/Edgard Garrido
الكاتب الكولومبي غبريال غارثيا ماركيز

ترصد الرواية تعاقب زيارات آنا ماجدلينا باخ إلى قبر أمها في إحدى جزر الكاريبي المجهولة الإحداثيات، ويحدث أن تتزامن زياراتها الموسمية هذه في شهر أغسطس/ آب بالذات، لكن الطارئ في إحدى زياراتها بعد 8 سنوات أن تتعرف الى رجل وترافقه إلى مرتع حميميتها. ثم يتحوّل الأمر إلى تقليد، عقب كل سنة، مع كل زيارة جديدة ثمة رجل جديد تغنم معه المتعة مع أنها متزوجة، متأرجحة بين غرابة سلوكها الطارئ البعيد عن طبيعتها وبين عدم إخلاصها لزوجها، قائد الأوركسترا، غير أن سخرية الأقدار تكشف لها بأن زوجها هذا ضالع في خيانتها هو الآخر منذ سنوات.

font change