في الصراع على "منظمة التحرير الفلسطينية"، أي على شرعيتها السياسية ومكانتها التمثيلية ودورها الكفاحي في إدارة الشعب الفلسطيني، وفي قيادة كفاحه الوطني ضد إسرائيل، يجدر التذكير بكثير من المسائل التي يغفل عنها كثر، عن قصد أو من دونه، وأهمها الآتي:
أولا، "المنظمة"، أصلا، هي وليدة النظام السياسي العربي في الستينات (1964)، بقيادة مصر في ظل الرئيس جمال عبد الناصر، إذ إنها نشأت قبل انطلاق الفصائل، وضمنها حركة "فتح".
أيضا، فقد أصبحت "المنظمة" إطارا للحركة الوطنية الفلسطينية، وكـ"جبهة وطنية" تضم كل الفصائل (1969) فقط، بعد أن فرضت "فتح" وجودها، بمبادرتها بإطلاق الكفاح المسلح، وحيازتها شعبية كبيرة في أوساط الفلسطينيين، بعد معركة الكرامة (1968).
إضافة إلى ذلك فقد احتلت "المنظمة" مكانتها، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني من مؤتمر القمة العربي (الرباط 1974)، بعد نيلها شرعية دولية، تمثلت بصعود الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة، وللتذكير، أيضا، فهذا حصل بعد أن تماهت "المنظمة" مع النظام السياسي العربي، وتحولها من برنامج التحرير، إلى البرنامج المرحلي، المتضمن إقامة دولة في جزء من فلسطين، والانزياح من سردية النكبة (1948) إلى سردية إنهاء احتلال 1967.
ثانيا، الشعب الفلسطيني مجزأ، ويفتقد لإقليم مستقل، وهو يخضع لسلطات ومداخلات مؤثرة متعددة، في الداخل والخارج، لذا فإن حيازة كيانه السياسي على الشرعية تتطلب، أساسا، قبولا من النظامين العربي والدولي، فحتى "الهيئة العربية العليا"، قبل "المنظمة"، أنشئت بقرار من جامعة الدول العربية (بلودان 1946). والفكرة هنا أن "منظمة التحرير"، بغض النظر عن الموقف من قيادتها، أو واقعها، تخضع لشروط وقابلية النظامين العربي والدولي، بحيث لا يمكن منازعتها الشرعية في مؤتمر هنا أو هناك، من هذه الجهة أو تلك.
في التجربة التاريخية، كانت "فتح" قد أخذت "المنظمة"، بعدما فرضت ذاتها كقيادة للحركة الوطنية وللشعب، وأيضا لأنها باتت حاجة عربية، إثر هزيمة يونيو/حزيران 1967. وقد شهدنا مرارا عقم وقصور محاولات انتزاع شرعية "المنظمة"، في الانقسام السياسي في السبعينات، على خلفية رفض البرنامج المرحلي، وفي أواسط الثمانينات بعد الخروج من لبنان، ومجددا حصل مع صعود "حماس" في المشهد الفلسطيني، في الصراع على المكانة والقيادة، بخاصة بعد الانقسام (2007). وعموما فقد كان الفشل مزدوجا، فالفصائل التي قدمت نفسها كقيادة بديلة، لم تنجح في إثبات ذاتها، على كل الأصعدة، وأيضا، المعطيات العربية والدولية لم تؤيد ذلك.
الحركة الوطنية الفلسطينية تعيش أزمة شاملة وعميقة، بدأت في أواسط السبعينات
ثالثا، في الواقع فإن مشكلة الأطراف الفصائلية، ومن يدور في فلكها، أنها تختصر أزمة العمل الوطني الفلسطيني، بمجرد تغيير القيادة، أو فرض ذاتها في المشاركة معها، في حين أن الحركة الوطنية الفلسطينية تعيش أزمة شاملة وعميقة، بدأت في أواسط السبعينات، أي بعد أن استطاعت تلك الحركة تحقيق ما يمكن لها تحقيقه، على حامل الكفاح المسلح، وفقا لقواها الذاتية، وتبعا للظروف العربية والدولية، وضمن ذلك استنهاض الشعب الفلسطيني، وإقامة كيانه الوطني (المنظمة)، وفرض الأجندة الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي.
أما بعد ذلك، فقد كفت الحركة الوطنية الفلسطينية عن إضافة أي إنجاز جديد، إذ فقدت وجودها في الأردن ثم في لبنان، وبعدها تحولت إلى سلطة في جزء من الأرض لجزء من الشعب بجزء من الحقوق، مع تهميش "منظمة التحرير"، وإزاحة السردية الوطنية الجامعة، المتأسسة على النكبة، وقضية اللاجئين وإقامة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، مع ذلك فإن تلك الحركة لم تقم ولا مرة بمراجعة طريقها، وأشكال عملها، وخطاباتها وعلاقاتها.
على ذلك فإن المسألة لا تتعلق بالصراع على الشكل، أي على شرعية التمثيل، أو الموقع في القيادة، وإنما على شرعية الدور، أي الشرعية أو المكانة النضالية، وهو بالضبط ما فعله ياسر عرفات، بعد معركة الكرامة (1967)، في الظرف المواتي عربيا ودوليا. وبالمقارنة لا يبدو أن معركة "طوفان الأقصى"، مع كل التقدير للتضحيات والبطولات، تشكل صنوا لمعركة "الكرامة" وقتها، إذ نجم عنها نكبة مهولة، بسبب استغلال إسرائيل لها لشن حرب إبادة جماعية، دمرت فيها قطاع غزة، وخربت عيش أكثر من مليوني فلسطيني فيه. أيضا، لا يوجد في الظرف العربي والدولي ما يواتي معركة "الطوفان"، أو ما يفيد بقبول حركة "حماس"، أو غيرها، لذا فإن النزاع على "المنظمة"، على الشرعية أو التمثيل، هو نزاع عبثي، وغير مجد، لأن النزاع أو التنافس يفترض أن يكون على الدور والمكانة إزاء الشعب، وفي مواجهة إسرائيل، مع توافر ظرف عربي ودولي يتوافق مع ذلك، والمعنى أن "منظمة التحرير" ليست يافطة أو مكتبا أو قاعدة أو سفارة، يمكن أخذها وتنتهي المسألة، كما يعتقد البعض في ظل الحماس للتغيير.
القصد استراتيجية ممكنة ومستدامة تعزز صمود الفلسطينيين، ويمكن الاستثمار فيها بإنجازات سياسية، بدلا من تقديس الكفاح المسلح، بعد تجربة ستة عقود، ثبت فيها عقم هذا الشكل، وكلفته البشرية والمادية والسياسية الباهظة
رابعا، المشكلة راهنا أننا في ظرف انتهى فيه الزمن الفصائلي، مع التحول إلى سلطة، ووجود فصيلين كبيرين هما "فتح"، كسلطة في الضفة، و"حماس" كسلطة في غزة، يتحكمان في المشهد الفلسطيني، مع إضافة لصالح "فتح" كونها تسيطر على "المنظمة".
المشكلة الثانية، تكمن في أن معظم الذين يتحدثون عن البديل، يحصرونه في أشخاص، أو هيئة ما، في حين يطمس أو يخفت الحديث عن بديل للمسيرة التي تأسست عليها الحركة الوطنية الفلسطينية، التي قامت على حامل الكفاح المسلح، من نفق عيلبون (1965) إلى عملية "طوفان الأقصى" (2023)، مع كل الخيبات من الأردن إلى لبنان إلى الانتفاضة الثانية، وصولا لحرب الإبادة ضد فلسطينيي غزة، والتي باتت بعض وجوهها تظهر في الضفة، في محو مخيمات اللاجئين، مع هيمنة إسرائيل على الفلسطينيين من النهر إلى البحر.
وبالضبط فإن أي بديل يفترض أن يتأسس على القطع مع التجربة السابقة، أو على الأقل إجراء مراجعة نقدية مسؤولة لها، وتاليا التأسيس لاستعادة التطابق بين الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، ولقيم الحقيقة والحرية والعدالة والكرامة، والحقوق الفردية والجمعية، بالتوازي مع صوغ استراتيجية كفاحية، تعتمد على الذات، وعلى قدرة الشعب على التحمل.
القصد استراتيجية ممكنة ومستدامة تعزز صمود الفلسطينيين، ويمكن الاستثمار فيها بإنجازات سياسية، بدلا من تقديس الكفاح المسلح، بعد تجربة ستة عقود، ثبت فيها عقم هذا الشكل، وكلفته البشرية والمادية والسياسية الباهظة، خاصة بعد أن اختفت إمكانياته وحاضنته العربية والدولية، وبواقع أن إسرائيل وضع دولي لا مجرد دولة في الشرق الأوسط، ما يفترض اجتراح أشكال نضالية مواتية للفلسطينيين، مثلا على غرار الانتفاضة الأولى وهبة "الشيخ جراح" (2021).
الآن، بغض النظر عن تلك الملاحظات، فلنفترض أن هذا الفصيل أو التجمع أو ذاك، أخذ "المنظمة"، ففي هذه الظروف والمعطيات، ما الذي سيفعله إزاء إسرائيل، أو ما الذي سيقدمه للفلسطينيين في الضفة وغزة و48 واللاجئين، أو كيف سيستحوذ على شرعية عربية أو دولية؟ وفي ظني فإن من لديه قدرة على فعل شيء في "المنظمة"، يفترض أن لديه ذات القدرة على فعله خارجها للاستحواذ عليها، أليس هذا ما فعله الزعيم الراحل ياسر عرفات؟
الفكرة أن المسألة ليست، فقط، في "المنظمة" أو في القيادة، ولا في إعادة إنتاج تجارب فصائلية ثبت فشلها، وإخفاقها، من كل جوانبها، فالأزمة الفلسطينية أعمق وأشمل من كل ذلك.