عباس بيضون: العالم مأسوي بطبيعته

روايته الأخيرة "الشيخ الأحمر" تروي جزءا من سيرة عائلته

Joseph EID / AFP
Joseph EID / AFP
الشاعر والروائي والصحافي اللبناني عباس بيضون

عباس بيضون: العالم مأسوي بطبيعته

منذ نشره قصائده الأولى مطالع سبعينات القرن الماضي في بيروت، استدخل عباس بيضون في قصيدة النثر اللبنانية والعربية حساسية مختلفة: العالم في الشعر مادي حي، قبل أن يكون لغة وصنعة أو بلاغة لغوية. وما استدخله بيضون في لغته هو العالم المادي بكائناته وأشيائه وأخلاطه وحركته وأسمائه في حالة فورانها الرحمية وتكونها وولادتها، قبل اتخاذها شكلا وهيئة وسمات وملامح مكتملة وثابتة في الذهن والمشاعر والانفعالات واللغة.

وبيضون هو أحد أغزر شعراء قصيدة النثر إنتاجا (16 مجموعة شعرية)، قبل أن يبدأ في كتابة الرواية التي استهلها بـ"تحليل دم" في العام 2000. وهذا بعدما تقدمت الرواية الشعر في التداول والرواج وغزارة الكتابة والنشر.

وبيضون الروائي استدخل نبض لغته الشعرية المادية في سرده الروائي الحار والحاد. وبعد إصداره 10 روايات، منها "مرايا فرانكشتاين" (2010)، "ساعة التخلي" (2013)، "خريف البراءة" (2016)، "حائط خامس" (2022)... أصدر أخيرا "الشيخ الأحمر" في نهاية العام 2024، عن "دار الشروق" في القاهرة.

"الشيخ الأحمر" هي رواية بيضون الثانية التي تتناول عالم رجال الدين الشيعة في جبل عامل أو الجنوب اللبناني، بعد روايته "حائط خامس". وهذه مرجع زمنها الاجتماعي معاصر وأحدث من "الشيخ الأحمر" التي تروي عالم رجل دين عاملي سافر إلى مدينة النجف العراقية طلبا علوم الدين والمشيخة في نهايات القرن التاسع عشر في الحقبة الأخيرة من الزمن العثماني. ولما عاد إلى قريته العاملية شيخا معمما جاءت معه زوجته النجفية وولداه منها وشقيقتها التي تتحول سيدة بيته بسبب قوة شخصيتها ومرض زوجته.

أنماط العيش الحديثة وقيمها لم تكن عرفت حضورا فعليا في حياة الشيعة في زمن "الشيخ الأحمر" الاجتماعي، ولا سيما في العراق وجبل عامل

"المجلة" التقت عباس بيضون وحاورته حول عالم روايته الأخيرة "الشيخ الأحمر"، وحول الكتابة والشعر.

ثقافة المظهر

  •  من هو "الشيخ الأحمر"، وما نصيب الواقع الاجتماعي ومعرفتك الاجتماعية والشخصية من صناعتك شخصيته الروائية؟

استلهمت عالم رواية "الشيخ الأحمر" من حياتي أو من سيرتي العائلية. كنت في السادسة من عمري عندما توفي جدي لأمي سنة 1951. وهو كان رجل دين في بلدته جباع بجبل عامل، وبقي منه في ذاكرتي طيف غائم وبعيد. أكثر صوره حضورا لدي، مكوثه ممددا في سريره أواخر أيام حياته، بسبب عجزه ومرضه. وكانت زوجته النجفية توفيت قبله بسنوات كثيرة عندما كان بعد في عز رجولته، فيما أقعد المرض زوجته قبل سنوات من وفاتها.

غلاف رواية "الشيخ الأحمر"

طيفية جدي في ذاكرة الطفل الذي كنته، مكنتني من صناعته شخصية روائية. ومن ثم للتخييل الفني دور في استحضاري صور عالمه القديم المعيش من معرفتي الاجتماعية وحساسيتي الاجتماعية اللصيقتين بمجتمع العامليين الذي عايشته طفلا وفتى في أواخر الأربعينات والخمسينات، وقرأت أدبه وسير رجاله، وهم غالبا من رجال الدين. ومنهم حسين مروة الذي ترك المشيخة وثقافتها، وانخرط في نشاط ثقافي وسياسي وفكري دنيوي. وقد سجلت سيرته كما رواها لي في كتاب اختار هو عنوانه: "ولدت شيخا وأموت طفلا". مروة هو واحد من مجايليه المشايخ النجفيين العامليين الذين تركوا المشيخة واعتنقوا "ثقافة مادية" على ما سماها مروة في واحد من مؤلفاته. ثم إن والدي كانت ثقافته عاملية وقد عايشت مجالسه وخبرتها.

  •  لماذا تحضر الحياة العائلية، وكذلك زواج المتعة، حضورا أساسيا ومحوريا في رواية "الشيخ الأحمر؟

كان زواج المتعة، وخصوصا في أوساط المشايخ ورجال الدين العامليين والعراقيين أيضا، عملا أو عرفا دينيا واجتماعيا في الحقبة التي تتناولها رواية "الشيخ الأحمر". وهو واحد من سواه الكثيرين الذين مارسوا هذا العرف. فجدي لوالدي توفيت زوجته مبكرا، فتزوج بعدها زواج متعة. وكثيرا ما سمعت والدتي تروي حكايات عن والدها الشيخ الذي كان محبوبا في بيئته الاجتماعية، ويتمتع بخصال الطيبة والأخلاق الحسنة، فتقول ضاحكة ساخرة: لا بد أن تجدوه مع امرأة ما، عندما كان يغيب أو يختفي مدة من بلدته ولا يجدونه في بيته. وكان البعض يقولون ساخرين أيضا على الأرجح: اختفى مع الإمام الغائب، أي الإمام المهدي.

Joseph EID / AFP
الشاعر والروائي والصحافي اللبناني عباس بيضون

وعندما نقول إن زواج المتعة عرف ديني واجتماعي، إنما نعني أن لا مأخذ عليه. وكان ذاك الزواج جزءا من مهنة رجال الدين، ومن الدين. وفيه نوع من الالتزام والستر للنساء وتحصين الأرامل. لقد كان المجتمع العاملي يعيش آنذاك في ثقافته المتوارثة ولا يستقبل الجديد، الوافد والطارئ من الثقافة ونمط العيش، إلا بصعوبة وفي دوائر ضيقة ومحددة من المجتمع.

ولقد نبهني حسين مروة إلى ذلك، عندما روى لي أن رجال الدين الشيعة كانوا يتحفظون على الأناقة والنظافة. وعندما أرسلوه شيخا معمما إلى بلدة عراقية لم ينجح في عمله ومهمته. ذلك لأن كثيرين لم يستسيغوا نظافته وأناقته. واعتبروا الأمر تزييفا للمشيخة واستدخالا لأمور دنيوية عليها. وكان يسري ذلك على الاستحمام بالصابون المعطر، وخصوصا للفتيات والنساء.

الشيعة لم يكونوا خارج الدولة والسياسة فحسب، بل يقيمون منكفئين على حياة خاصة ويضاعفون خصوصيتها، برفضهم الدخول في التاريخ والحياة العامة

  •  هل ثقافة المظهر مرفوضة لسبب ديني، أم لأنها غير أصيلة في المجتمع، وحديثة ووافدة إليه من الخارج؟

لا أدري بالتحديد، وقد لا أميز بين الأمرين. لكن أنماط العيش الحديثة وقيمها لم تكن عرفت حضورا فعليا في حياة الشيعة في زمن "الشيخ الأحمر" الاجتماعي، ولا سيما في العراق وجبل عامل. وذلك في زمن إنشاء العراق الحديث أو المعاصر، لما انخرطت الجماعة العراقية السنية في بناء دولته، وكانت على صلة بالمال والإدارة والسلطة. أما الشيعة فلم يكونوا خارج الدولة والسياسة فحسب، بل يقيمون منكفئين على حياة خاصة ويضاعفون خصوصيتها، برفضهم الدخول في التاريخ والحياة العامة، وبإصرارهم على مواصلة تاريخهم التقليدي القديم.

Mahmoud ZAYYAT / AFP
أنصار "حزب الله" يلوحون بأعلام تحمل صور قادتهم الراحلين

  •  لكن شخصية روايتك "حائط خامس" ليست على هذه الصورة، رغم أنها لرجل دين شيعي؟

بقدر ما هي رواية "الشيخ الأحمر" على صلة بمرجع اجتماعي وبسيرتي العائلية، فإن "حائط خامس" على خلاف ذلك تماما. فشخصية هذه الأخيرة مختلفة بالكامل، وليس لها مثيل في المجتمع. وقد تتقاطع بعض الشذرات السلوكية من شخصية شيخ "حائط خامس" المختلفة، مع بعض مسالك المشايخ العامليين الجدد الذين تركوا المشيخة في الخمسينات والستينات. لكن هذه الشخصية في مجملها لا مرجع اجتماعيا واضحا لها، وهي تخييل أدبي، وليس من مرجع اجتماعي أو سيري لها في الواقع.

السيرة والفن والندم

  •  هناك شيء ما في مناخ "الشيخ الأحمر" الروائي، ذكرني بمناخ قصيدتك "حجرات". برأيك هل يمكن أن ينبني الشعر والرواية من مادة واحدة في وجه من الوجوه؟

في قصيدتي "حجرات" (المنشورة سنة 1992) هناك مقطع شعري مستلهم من جدي لأمي الذي منه استلهمت شخصية "الشيخ الأحمر". لكن جوابي هذا غير مبني على دراسة وبحث أو على إدراك وقصدية ما، بل مبني على توارد حدسي. ودعني أقول هنا إن شطرا كبيرا من شعري تحضر فيه السيرة حضورا هائلا. غير أن عمل السيرة في الشعر، ليس ظاهرا وليس وقائعيا وغير سوسيولوجي قط، بل هو حدسي بالكامل. وهذا على خلاف حضور السيرة في الرواية.

عمل السيرة في الشعر، ليس ظاهرا وليس وقائعيا وغير سوسيولوجي قط، بل هو حدسي بالكامل. وهذا على خلاف حضور السيرة في الرواية

منذ قصيدتي "صور" حتى آخر مجموعة شعرية أصدرتها، مرورا بـ"حجرات" و"مدافن زجاجية" التي تصور وتروي شعريا اعتقالي في معتقل إسرائيلي سنة 1982، إضافة إلى "الوقت بجرعات كبيرة"، وصولا إلى "بطاقة لشخصين" وهي مرثية لصديقي الشاعر بسام حجار، وإلى "الحياة تحت الصفر" المكتوبة تحت وطأة عزلات تفشي وباء كوفيد19... في هذه المجموعات الشعرية كلها تحضر سيرتي دائما بأشكال وأساليب متنوعة وغير مباشرة، وبدرجات متفاوتة من التأليف والتحوير.

غلاف رواية "حائط خامس"

ولا تغيب سيرتي عن أعمالي الروائية أيضا. أما الفرق بين حضور السيرة في الرواية وحضورها في الشعر، فهو فني أو أسلوبي خالص. وهنا يمكنني القول إنني في الشعر وفي الرواية اشتغلت على حياتي في محاولة مني لتحويلها إلى أدب وفن كتابي، بغية انفصالي عنها لإعادة تأليفها من الصفر. أي على نحو يجعلها ما بعد الواقع أو فوق الواقع الذي يتحول ذريعة للخروج منه أثناء كتابته.

  •  يبدو أن الحياة كلها تتحول في كتابتك إلى ندم كبير، وأعني كتابتك الشعرية بالتحديد. هل هذا ما تعنيه بكتابة ما بعد الواقع وفوقه، أي ما بعد السيرة وتجارب العيش؟

تعزيني هذه النظرة إلى شعري وكتابتي، إذ تمنحهما الوزن والمعنى. نعم أنا لدي شعور أن العالم مأسوي بطبيعته. وهذا ما يمنحه معناه في الفن والكتابة. والحياة فيما نحن نعيشها ونستغرق في عيشها، تستهلكنا ونستهلكها، فيما نحن نخوض فيها، نتحسسها ننفعل بها ونتفاعل معها على نحو نحذف منه وجها عميقا وجذريا فيها قد لا يتكشف إلا لاحقا بعد انقضاء التجارب، فواتها أو انتهائها. وهذا ما يكشف عنه الفن، ومنه الشعر والرواية.

Mahmoud ZAYYAT / AFP
رجل دين شيعي يمر بجانب مبانٍ مدمرة جراء القصف الإسرائيلي في بلدة عيترون الحدودية بجنوب لبنان

الحياة بطبيعتها المتضادة تمتلك دائما عكسها وضدها ونقيضها وما يتجاوزها، كي تتحول إلى واقع فني وأدبي مستقل عنها. خذ الحب مثلا. فما يمنحه المعنى والقوة هو التضاد والازدواج بين الاستسلام للآخر والذوبان فيه وبين الضيق به والحفاظ على الذات. هذا المسار المزدوج، القلق والمضطرب، هو ما يدمر الحب ويحمله على التآكل بمرور الوقت، لأنه قائم في الأصل على اللاتكافؤ.

متعة الجهل وسحره

  •  هل تقوم العلاقة بين الواقع والعمل الفني على التضاد الدائم؟

كل العلاقات الإنسانية تحمل في داخلها، وعلى نحو خفي، سرا لا نعيه فيما نحن نعيشها. هذا السر هو الزمن الذي يدمرها كلما انقضى وتراكم. لدي مثل على ذلك: مؤخرا كتبت رواية لا تزال مخطوطة. ولما أعدت قراءتها كشف لي ما كتبته - وهو عن أختي الراحلة بعد مدة طويلة من عيشنا معا ومعرفتي الواضحة والكاملة بها - أنني كنت أجهلها وأجهل علاقتي بها جهلا تاما.

الأرجح أننا في الحقيقة لا نعرف الآخرين ولا نفهمهم في مجرى الحياة ومجرى علاقتنا بهم، بل نتوهم ذلك

ما أود قوله هنا هو أن معرفتنا الآخرين وأنفسنا، أثناء عيشنا معهم في مسارات الحياة، ليست سوى مزاعم خالصة. الأرجح أننا في الحقيقة لا نعرف الآخرين ولا نفهمهم في مجرى الحياة ومجرى علاقتنا بهم، بل نتوهم ذلك، ونتوهم أيضا أننا نعرف أنفسنا ونفهمها في مجرى تلك العلاقة. أظن أن جهلنا الآخرين، وجهلنا أنفسنا في مرايا علاقتنا بهم، وجهلهم هم أيضا إياها وأنفسهم مرايا علاقتهم بنا، أظن هذا الجهل كله هو ما يجعل الحياة والعلاقات ممتعة وساحرة، إلى حين نفاد الجهل الذي يكشف لنا وللآخرين نفاده ذواء المتعة والسحر وزوالهما. وهذا ما يعمل العمل الفني والأدبي على تجسيده.

Joseph EID / AFP
الشاعر والروائي والصحافي اللبناني عباس بيضون

وإذا كان العمل الفني، شعرا ورواية، ينطلق من الواقع، فإنه يفعل ذلك للخروج من الواقع وعليه، بل لإبطاله، والاستقلال عنه استقلالا تاما وناجزا، ليصير واقعا جديدا قائما بذاته.

لكن أليس نفاد الجهل أو الغموض الذي يكتنف الحياة والعلاقات الإنسانية ضرب من ضروب الوهم أو المزاعم أيضا؟

لا أدري. أتخيل في ما يتعلق بتجربتي المباشرة عيشا وكتابة، إن العيش شكل من أشكال اللامعرفة. كأن العيش هو بديل عن معرفته وفهمه. وما أنا على يقين منه أن الكتابة هي حق عليّ وشكل من أشكال الاعتراف. وعندما بدأت أكتب عن أختي مثلا، أحزنني أنني كنت أجهلها.

لا أدري إن كان يسعني القول إن الفن، وأعني الشعر والرواية في هذا السياق، يزيلان السحر عن الحياة التي نعيشها. وربما، بل الأرجح أنهما يمنحانها ضربا آخر وجديدا من السحر الفني.

font change

مقالات ذات صلة