"سكر الهلوسة" لعلي عبد الله سعيد: رحلة عبثية في ظلال الإنسان

لغة تجريبية تقدم تجربة قرائية مختلفة

"سكر الهلوسة" لعلي عبد الله سعيد: رحلة عبثية في ظلال الإنسان

حين يتلاشى الحد الفاصل بين الواقع والوهم، يغدو الأدب مساحة للبحث عن المعنى وسط العدم. "سكر الهلوسة"، الرواية الجريئة للكاتب السوري علي عبد الله سعيد، تأخذنا إلى عالم تفيض شخوصه بالاضطراب، عالم متشظ تحكمه الرغبات والانكسارات، حيث يصبح القارئ شاهدا على مأساة وجودية تتكشف ببطء. لا تقدم الرواية قصة يعاد عرضها بعنوانها الرئيس بقدر ما تفتح بابا واسعا على دوامة من المشاعر والأسئلة التي لا تجد إجابة واضحة. إنها ليست رواية تقدم حلولا أو قصصا تقليدية، بل عمل أدبي يشبه الحلم، غامض ومتشعب، ومفتوح على احتمالات التأويل.

الصراع الداخلي وتجسيد الاضطراب

تدور الأحداث حول بطل مأزوم، ممزق بين ما يريد وما يعجز عن تحقيقه، رجل يعيش حالة من القلق الدائم والهروب من ذاته قبل أن يهرب من الآخرين. تحيط به شخصيات غامضة ومتناقضة، أبرزها سلام الجزائري، المرأة التي تجسد الهوس والخيبة، والقرين الذي يبدو ظلا يطارده، مذكرا إياه بحقيقته التي يحاول إنكارها. العلاقة بين البطل وقرينه ليست مجرد علاقة بين شخصين، بل هي انعكاس لصراع داخلي يمزق الشخصية الرئيسة، حيث يصبح القرين صوتا داخليا يفاقم العزلة ويعمق الشعور بالضياع.

ليس القرين مجرد شبح أو شخصية هامشية، بل هو في جوهره رمز للوعي المشوه، ذلك الصوت الذي لا يمكن الإنسان التخلص منه، والذي يشكل في الوقت ذاته أداة لسبر أغوار الذات: "وقد دخل الغرفة من مكان غير محدد، دون خربشة، دون بصمة، دون توقيع، أو تأشيرة دخول، مع الهواء، مع الشهيق، مع الكابوس، مع السؤال، مع الصمت، مع الشك، مع الريبة، مع القناعة، مع الاحتمال".

اختارعلي عبد الله سعيد لروايته لغة تشبه نبضا متسارعا يلتقط لحظات التشظي النفسي بأسلوب يجمع بين الشعر والنثر

اختار علي عبد الله سعيد لروايته لغة تشبه نبضا متسارعا يلتقط لحظات التشظي النفسي بأسلوب يجمع بين الشعر والنثر، حيث يسيطر الإيقاع السردي المتوتر على النص بأكمله. الجمل قصيرة، مشحونة بالرموز، مشبعة بالصور الحسية والمجازات التي تدفع القارئ إلى إعادة القراءة والتأمل في كل عبارة. نقرأ في الرواية مثلا: "ينزلق عنه، يقع في ما وراء المعنى... أو حدود الهامش. أتمطى قليلا... أشد أصابعي ومفاصلي وأعصابي تتقلص. عضلاتي، تغزوني. رعشة غامضة، أتقلص، أتمدد، أتمدد حتى أتراخى، حتى أتلاشى". فهناك إحساس دائم بأن الكاتب لا يروي قصة بقدر ما يخلق حالة شعورية يتورط فيها القارئ دون أن يدرك متى دخل عالم الرواية.

Shutterstock
رجل يقف وحيدا على حافة حقل

هذا الأسلوب يرسخ في ذهن القارئ فكرة أن الشخصيات ليست سوى شظايا متناثرة، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والآخر، بين الأنا والهوية الضائعة. عالم الرواية يمضي وفق بنية سردية لا تتبع النسق التقليدي، بل تنحرف عن الخطوط المستقيمة لتأخذ شكلا حلزونيا، كأن الزمن يدور في حلقة مفرغة. حتى الحوارات ليست مجرد تبادل للكلمات، بل تداعيات حرة تأخذ القارئ إلى عمق التجربة الذهنية للشخصيات. تكرار المشاهد بتلاوين مختلفة يعكس شعورا عاما باللاجدوى، وكأن القارئ مطالَب بإعادة تشكيل النص مع كل صفحة، بإعادة تركيب أحداثه داخل مخيلته الخاصة. إنه سرد لا يقدم إجابات، بل يترك كل شيء معلقا بين الحقيقة والوهم، في محاولة لتصوير الاضطراب الداخلي الذي يعيشه البطل.

رمزية الشخصيات الثانوية

وسط هذه الفوضى السردية، تظهر شخصيات ثانوية تحمل رمزية خاصة، مثل سلام الجزائري التي تجسد الرغبة والهوس في آن واحد، وهو ما يظهر بوضوح عند تأمل أسلوبها في الكلام: "لا تسجني في العلاك والتنظير السياسي... أنا امرأة تريد أن تطير في سماوات الكلام وغيره". ومنى شرف التي تبدو صورة مقابلة لسلام أكثر هدوءا لكنها محملة بالخيبة ذاتها.

غلاف "سكر الهلوسة"

هذه الشخصيات ليست مجرد كائنات عابرة، بل تمثل انعكاسات مختلفة لمأزق البطل، كل منها ترسم وجها مختلفا للأزمة الوجودية التي يعانيها. سلام الجزائري ليست مجرد امرأة تشغل حيزا في حياة البطل، بل هي رمز للرغبات المتأججة التي لا تصل إلى غاياتها، بينما منى تمثل الأمل الذي يتلاشى في زحام الخيبات. البطل، في مواجهته مع هاتين الشخصيتين، يجد نفسه ممزقا بين تناقضات لا يستطيع حسمها، وهو ما يعمق شعوره بالضياع.

مزيج بين الواقعية السوداء والوجودية، حيث تسير الشخصيات على خيط رفيع بين الإدراك والضياع

ليس من السهل تصنيف "سكر الهلوسة" داخل قالب أدبي معين. ليست رواية حب، وليست نصا فلسفيا محضا، لكنها مزيج بين الواقعية السوداء والوجودية، حيث تسير الشخصيات على خيط رفيع بين الإدراك والضياع. المدينة التي يعيش فيها البطل تبدو بلا اسم، كأنها مكان مجرد يعكس الضياع الوجودي. محاصرا بذكرياته المتآكلة، يتنقل بين النساء، الخمر، والهروب، وكأن الحياة مجرد سلسلة من الفصول المنفصلة التي لا تفضي إلى نتيجة. هذا الطابع العبثي للرواية يجعلها تنتمي إلى تيار الأدب الذي يصور الإنسان وهو يتخبط في واقع لا منطق له، حيث تصبح الهلوسة جزءا من الإدراك اليومي.

لكن المختلف في "سكر الهلوسة" هو الحس العربي الذي يضفي على النص طابعا خاصا. الرواية ليست مغتربة تماما عن واقعها الثقافي، بل تمزج ببراعة بين تجارب فردية تعكس مأزق الإنسان العربي الذي يجد نفسه حبيس مجتمعه وتناقضاته. هذا البعد الثقافي يظهر في التفاصيل الصغيرة، في الشعور بالخسارة، في محاولات التمرد التي تظل ناقصة، في الإحساس العام بالخيبة التي تتسرب من كل سطر. الرواية ليست فقط صراعا داخليا، بل هي أيضا شهادة على أزمة هوية لا تقتصر على الفرد، بل تمتد إلى الجماعة. إنها تأمل في فكرة الوطن، في المعنى المتلاشي للحياة، في محاولات البحث عن الذات وسط عالم يبدو غير مبال بمعاناة أفراده.

Xavier GALIANA / AFP
رصيف نهر السين في باريس

سوداوية طاغية

رغم هذه القوة السردية كلها، فإن الرواية ليست بلا تحديات. فمن جهة، يمكن اعتبار الجرأة اللغوية والرمزية عامل جذب للقارئ الذي يبحث عن تجربة أدبية متفردة، لكنها في الوقت ذاته قد تجعل النص صعبا على من يفضلون أسلوبا أكثر وضوحا. السوداوية الطاغية تمنح الرواية طابعا كثيفا لا يترك مجالا للأمل، مما قد يكون مرهقا لبعض القراء. كذلك، غياب الحبكة التقليدية يجعل النص أشبه برحلة شعورية أكثر منه سردا مترابطا، وهو ما قد يثير ارتباكا لدى من اعتادوا البناء الكلاسيكي. ومع ذلك، فإن النص ينجح في أن يظل مشحونا بالحيوية، حيث نجد أن الشخصيات، رغم ضياعها، تحتفظ بحضور قوي في ذهن القارئ. هناك شيء ما في هذه الكتابة يجعلها أشبه بموسيقى حرة، حيث لا توجد نوتات ثابتة، بل تدفق مستمر للإيقاع، فوضى تبدو محكمة على نحو غريب.

أعمال مثل "سكر الهلوسة"، بتجريبها اللغوي وعمقها النفسي تمثل تحديا للمفاهيم التقليدية عن السرد العربي

"سكر الهلوسة" ليست رواية للقراءة العجلى، بل تجربة تتطلب قارئا مستعدا للانغماس في دهاليز النفس البشرية، قارئا لا يبحث عن إجابات بقدر ما يقبل بالدخول في متاهة الأسئلة. في عالم الرواية، لا توجد نهايات واضحة، بل انعكاسات دائمة لحياة تبدو وكأنها حلم طويل يتكرر بلا نهاية. الكاتب يضع القارئ أمام حقيقة واحدة لا مفر منها: أن الحياة في حد ذاتها قد تكون نوعا من الهلوسة.

Shutterstock
مكتبة قطر الوطنية في الدوحة

وجود مثل هذا القارئ لا يتأتى بسهولة نظرا الى واقع القراءة في العالم العربي، المرتبط ارتباطا كاملا بمنظومتي الجوائز والأكثر مبيعا، مما يجعل عدم رواجها شعبيا أمرا مفهوما للغاية، لكن غياب الاهتمام النقدي بها، رغم ما فيها من تجريب وتجديد واضحين، يبقى مستغربا. أعمال مثل "سكر الهلوسة"، بتجريبها اللغوي وعمقها النفسي، تستحق اهتماما نقديا أوسع، إذ إنها تمثل تحديا للمفاهيم التقليدية عن السرد العربي. بالطبع يمكن تبرير هذا بنزعة النقاد العرب إلى التصنيفات الواضحة، التي لا تحتاج إلى أي جهد خارق لتفكيكها والإحاطة بها، وبالتالي إلى التميز الإبداعي في النقد، المفضي إلى قدرة الناقد على مسايرة الإبداع الجديد والمتجدد.  أو يمكن إيعاز هذا التجاهل إلى غياب المنصات الداعمة للأدب التجريبي، لكن الذي لا شك فيه هو أن هذه الرواية قدمت مادة ثرية للتحليل الأدبي، وعكست بجدارة ووضوح أزمة هوية معاصرة بأسلوب يجعلها تجربة تستحق إعادة النظر والاهتمام النقدي الجاد.

font change

مقالات ذات صلة