بين الثورة والدولة... تغير الهندام في السياسة العربية

وحده ياسر عرفات حافظ على لباسه بكوفيته الشهيرة

يسرى نعيم
يسرى نعيم

بين الثورة والدولة... تغير الهندام في السياسة العربية

في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1918 دخل الأمير فيصل بن الحسين مدينة دمشق على رأس جيش من قواته، معلنا تحريرها بالكامل من الحكم العثماني. عرفته دمشق بلباسه العربي، ولكنه لم يخفِ إعجابه بالزي الأجنبي الذي شاهده في زياراته إلى لندن وباريس، وعند سؤاله إن كان يفضل الطربوش أم "البرنيطة" (القبعة) الأجنبية اكتفى فيصل بالقول إنه لا يحب الطربوش. صاح أحد الحضور: "الناس على دين ملوكهم"، فشاع الحديث في الأوساط السورية، ما شجع الكثير من الشباب على خلع الطربوش لصالح القبعة، علما أن فيصل ظل يُهدي كبار زواره الأجانب حطة عقال وكوفية، لتأكيد هويته العربية.

أثارت عبارة فيصل جدلا داخل المجتمع السوري آنذاك، بين مؤيد للفرنجة من الشباب، ومعارض لها من الشيوخ. أبناء دمشق المتعلمون في الغرب كانوا ينظرون إلى اللباس العربي على أنه متخلف، ويجب أن تستبدل به ربطة عنق وبدلة أجنبية وقبعة. وقد كثرت انتقاداتهم لرفاقهم العسكريين من الجيش الفيصلي، الذين ظلوا بعد تحرير دمشق يرتدون الحطة العربية، كما كانوا يلبسون في زمن الثورة العربية الكبرى.

وقد أدى هذا الكلام بحق اللباس العربي إلى تغيير غطاء رأس العسكريين، وتغيرت الكوفية والعقال إلى قبعة عسكرية (سميت بالفيصلية) وكان أول من اعتمرها هو الأمير فيصل نفسه يوم تتويجه ملكا على البلاد في 8 مارس/آذار 1920.

ويكيبيديا
وفد الأمير فيصل في فرساي، خلال مؤتمر باريس للسلام عام 1919

وعند زيارته لندن بعد أشهر من عزله عن عرش سوريا، ظهر فيصل ببدلة أجنبية أمام الملك جورج الخامس، فسأله وزير الخارجية البريطاني: "أين عباءتك الجميلة؟"، قال له فيصل إنه تخلى عنها تعبيرا عن حزنه العميق على الطريقة المهينة التي تعاملت معه بها فرنسا يوم إقصائه عن عرش سوريا. ثم بقي يرتدي البدلة الأجنبية حتى وفاته في العاصمة السويسرية برن سنة 1933، بعد 12 سنة من تنصيبه ملكا على العراق.

التطور الذي طرأ على هندام الأمير فيصل هو نفسه الذي بدأنا نشهده على أحمد الشرع، قائد العمليات العسكرية في سوريا. فبعد ارتداء البزات العسكرية في أثناء وجوده مع الثوار، انتقل الشرع إلى لباس أكثر "سبور" إثر دخوله دمشق فاتحا في شهر ديسمبر الماضي، ثم إلى بدلة غربية سوداء، وأخيرا إلى لباس أكثر تحررا من حيث اللون، تماشيا مع موقعه الجديد في قصر الجمهورية.

كل منهما انتقل من موقع الثورة إلى موقع الدولة، وكأنهما يقولان إن للثورة عادات ومقومات، وللحياة المدنية والحكم مستلزمات ومقومات أخرى. ولكن الفرق بينه وبين الأمير فيصل أن أحمد الشرع كان دمشقيا بالأساس من حيث النشأة والتعليم، أي إنه عاد إلى جذوره سنة 2024، بينما كان الأمير فيصل قد تمدن بلباسه وسلوكه بعد تجاربه في لندن وباريس، ومن ثم في دمشق وبغداد.

"البعث" ولباس "الثورة"

عندما جاء حزب "البعث" إلى الحكم سنة 1963، حارب الحياة المدنية في المدن السورية الكبرى، وقضى على أعلامها، إما بالتهميش الممنهج أو بالتأميم والنفي والاعتقال. أسقطت كلمات "البيك" و"الباشا" من التداول، وحلت مكانها كلمة "الرفيق" ودرج البعثيون الأوائل موضة على لباس "السفاري" الفضفاض، والجاكيت الماوي المستلهم من زعيم الثورة الشيوعية في الصين ماو سي تونغ. ظنوا أن الثورة تقوم بهذه القشور.

البعثيون لم يتمسكوا كثيرا بلباس "الثورة" وغيروه إلى البدلات الأجنبية مع نهاية الستينات ومطلع السبعينات

وقبل وفاته سنة 2020 تحدث الدبلوماسي السوري في حينها عبد الله الخاني، كيف عاد إلى دمشق بعد وصول "البعث" إلى السلطة، وتوجه إلى وزارة الخارجية ببدلته الداكنة وربطة العنق والمحرمة في جاكيتته. هكذا كان يرى الخاني معيار الأناقة، بأنها تعكس موقعه ممثلا عن الدولة السورية، وقد تعلمها في رحاب دمشق وفي جامعتها والجامعة الأميركية في بيروت، ثم في أثناء عمله في الأمانة العامة للرئاسة السورية في مرحلة الخمسينات، مع رؤساء أنيقين مثل شكري القوتلي وهاشم الأتاسي، أوقفه أحد الموظفين على مدخل الوزارة وقال له: "هل تريد أن تدخل على الوزير بهذا الشكل؟"، أجابه الخاني بانزعاج: "وما العيب في ملابسي؟"، قال له الموظف: "هذه الملابس تعبر عن الرجعية وهم (البعثيون) لا يحبونها. عد إلى منزلك، والبس لباس السفاري".

أ.ف.ب
الرئيس السوري حافظ الأسد مغادراً المسجد الأموي في دمشق، سوريا، أكتوبر 1973

غضب الخاني من هذا الكلام وقال: "هذا هو لباسي ولباس كل الموظفين المحترمين في وزارة الخارجية. وإن كان الوزير لا يحبها فهذا شأنه وحده، وأنا على أتم استعداد للاستقالة الآن، ولكني لن ألبس السفاري تحت أي ظرف من الظروف".

ثم أضاف الخاني حادثة مماثلة جرت في نهاية الستينات، يوم حاول رئيس الوزراء البعثي يوسف زعين الدخول إلى قصر الإليزيه بالجاكيت الماوي، باعتباره "رمزا للثورة الشعبية"، ولكن مدير البروتوكول منعه وقال إنه يجب عليه ارتداء بدلة رسمية، إن أراد مقابلة الرئيس شارل ديغول.

عرفات ولباس "الثورة"

البعثيون لم يتمسكوا كثيرا بلباس "الثورة" وغيروه إلى البدلات الأجنبية مع نهاية الستينات ومطلع السبعينات، ولكن الكلام نفسه لم يندرج على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي أصر على ارتداء البزة العسكرية منذ ظهوره الأول في زعامة "فتح"، ووضع على رأسه كوفية كانت تتدلى على كتفه على شكل خارطة فلسطين.

عندما عرفات دُعي إلى البيت الأبيض للتوقيع على اتفاق أوسلو سنة 1993، واجه قسم البروتوكول الأميركي معضلة: بدلة عرفات العسكرية ومسدسه

أصبحت هذه الكوفية، بلونها الأبيض والأسود، رمزا حقيقيا للثورة الفلسطينية، وكانت تزعج إسرائيل للغاية. حتى إن المفاوض الفلسطيني صائب عريقات أغضب الوفد الإسرائيلي في مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991 بدخوله مرتديا الكوفية. اعترض الإسرائيليون، وطلبوا إليه إزالتها، قال إن وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل يرتدي العقال أيضا، الأحمر والأبيض، ولكنهم أصروا وقالوا إن حطة الوزير السعودي لا دلالة سياسية لها بالنسبة للشعب الإسرائيلي.

ومن مستلزمات لباس أبو عمار كان المسدس على خصره الذي لم يفارقه يوما، وقد أثار موجة من الغضب عندما دخل به قاعة الأمم المتحدة سنة 1974 ليلقي كلمته الشهيرة: "جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون في يدي، وببندقية الثائر في يدي، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". تساءلت الوفود الأجنبية كيف يتكلم عن السلام وهو يخطب في محفل دولي والسلاح على مقربة من يده؟

رويترز
زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات يحيي ناشط السلام الإسرائيلي أبي ناثان بعد لقاء الصحافة الإسرائيلية خلال مؤتمر صحفي في القاهرة في 23 فبراير 1989

ولكن عرفات أيضا تغير كما تغير غيره من الثوار، وعندما دُعي إلى البيت الأبيض للتوقيع على اتفاق أوسلو سنة 1993، واجه قسم البروتوكول الأميركي معضلة: بدلة عرفات العسكرية ومسدسه. في مذكراته، يقول السفير الأميركي مارتن إنديك إنه استنجد بطاقم السفارة السعودية في واشنطن، وقال إنه من غير اللائق أن يدخل أبو عمار البيت الأبيض وكأنه داخل إلى أرض معركة. وهنا قامت السفارة بإرسال مجموعة من البدلات الأجنبية إلى غرفة عرفات في الفندق ونصحته بتجربتها. سايرهم في "الاختيار" ولبس البدلة وربطة العنق، فلم يتمكن أعوانه من حبس ضحكتهم لأنهم لم يروه قط إلا بلباس "الثورة".

لم تعجب عرفات البدلة فشلحها وقرر الظهور بزيه التقليدي وكوفيته المعروفة، ورفض تسليم مسدسه، ووعد الجانب الأميركي أنه سيفرغه من الطلقات قبل الدخول. رد الرئيس بيل كلينتون: "إن دخل به سأقتله به"، مكررا كلامه بأن السلاح ممنوع في البيت الأبيض، وهكذا كان.

font change