عن الحاجة إلى تطوير رؤية عربية موحدة للأمن الإقليمي

حماية المصالح الجماعية

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
أفراد من القوات الخاصة المصرية خلال انتشارهم عند الخط الفاصل للحدود بين مصر وقطاع غزة في رفح

عن الحاجة إلى تطوير رؤية عربية موحدة للأمن الإقليمي

على مدى أكثر من قرن من الزمان، يجسد الشرق الأوسط المثل القائل: "عساك تعيش في زمن مثير". تشير كلمة "مثير" ههنا– بحق– إلى ظروف الاضطراب والفوضى والمشقة، التي تنطبق بشكل خاص على دول المشرق: فلسطين وإسرائيل والأردن والعراق وسوريا.

لقد كابد الشعب الفلسطيني والسوري واللبناني والعراقي معاناة ومشقة لردح طويل، ولكن قمة الشدّة والمشقة كانت من نصيب الفلسطينيين بلا ريب. فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يواجه الفلسطينيون، ولا سيما في غزة، دمارا غير مسبوق، بسبب العدوان الإسرائيلي الوحشي الذي خلّف أربعين ألف قتيل على الأقل، ويرجّح أن العدد الفعلي أعلى من ذلك بكثير. ووفقا لمجلة "لانسيت"، قد تتراوح نسبة الوفيات غير المباشرة ما بين ثلاثة إلى خمسة عشر ضعف عدد الإصابات المباشرة، بينما يشير تقدير متحفظ إلى نسبة وفاة مباشرة واحدة إلى أربع وفيات غير مباشرة، ما يعني أن عدد القتلى يمكن أن يفوق 200,000 فلسطيني– أي ما يقرب من 10 في المئة من سكان غزة. وفوق ذلك، دُمّر حوالي 80 في المئة من المنازل، وتسببت إسرائيل في حرمان الفلسطينيين من الغذاء والكهرباء والرعاية الصحية، محولّة غزة إلى مكان غير صالح للسكن تقريبا.

في هذه الأثناء، تمكن الشعب السوري من التحرر من حكم الحزب الواحد لنظام "البعث" الذي هيمنت عليه سلالة الأسد منذ عام 1970، وطالما أعاق تقدم السوريين. ومع ذلك، فإن هذا الأمل الجديد مصحوب بحالة من عدم اليقين. ويبقى السؤال الرئيس: هل ستتطور سوريا إلى دولة موحدة وتعددية وغير طائفية، أم سيستبدل ببساطة نظام استبدادي بنظام آخر، ربما أكثر قمعا؟

وفي لبنان، تمكن اللبنانيون أخيرا من انتخاب رئيس للجمهورية بعد أن عانى البلد من عدوان إسرائيلي وحشي تسبب في نزوح ودمار واسع النطاق. وللمرة الأولى منذ أكثر من عامين، أصبح للبلاد رئيس جمهورية ورئيس وزراء. ومع ذلك، فإن تحديات إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي هائلة، ويزيد من صعوبتها رفض إسرائيل الوفاء بالتزاماتها، بعد أن أعلنت نيتها الإبقاء على سيطرتها على خمس مناطق داخل الأراضي اللبنانية.

ولا يزال العراق هشا، عالقا في دوامة طائفية تغذيها المصالح المتنافسة لإيران والولايات المتحدة وتركيا. أما خارج بلاد الشام، فقد أدى عدم الاستقرار الداخلي الذي تفاقم بسبب التدخلات الخارجية إلى جعل الأوضاع في ليبيا والسودان واليمن مقلقة للغاية، مع أمل ضئيل في التوصل إلى حل سريع.

لم يسبق أن واجهت دول عربية عديدة تهديدات متزامنة من اتجاهات متعددة، داخلية وخارجية على حد سواء، كما هو الحال اليوم. ولفهم هذه الأزمات لا بد من وضعها في سياق جيوسياسي أوسع. وتتكشف معظم هذه التطورات على خلفية ثلاث رؤى متنافسة لمستقبل الشرق الأوسط.

أولا، هنالك الرؤية الإسرائيلية للمنطقة ليست جديدة، بل هي معروفة منذ أمد بعيد، سوى أنها تسارعت بشكل كبير بعد الحرب على غزة. وتتجلى هذه الاستراتيجية في التوسع المستمر في الضفة الغربية، وتعززت في الهجوم العدواني على لبنان واحتلال المزيد من الأراضي السورية. وتوّج ذلك بالضربات الإسرائيلية على إيران، لتشير إلى بداية هدف أوسع نطاقا– ليس أقل من تغيير النظام في طهران.

وكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد أعلن مرارا أن إسرائيل تهدف إلى "إعادة تشكيل المنطقة"، بما يتماشى مع مصالحها الاستراتيجية. وينطوي جوهر هذه الخطة على التوسع الإقليمي، لا سيما في لبنان وسوريا، وتحييد التهديدات المتصورة من إيران. ومع ذلك، تعتمد إسرائيل في تنفيذ هذه الرؤية بنجاح على الدعم الثابت من الولايات المتحدة.

ثانيا، لتركيا أيضا تطلعاتها الخاصة للهيمنة الإقليمية، والتي تتسم بنفحة دينية وتسعى لتنصيب أنظمة إسلامية صديقة في مصر وليبيا وسوريا. وقد فشل هذا النهج في مصر وواجه انتكاسات في سوريا حتى انهيار نظام الأسد. أما في ليبيا، فبدلا من تأمين النفوذ، لم يؤد التدخل التركي إلا إلى إطالة أمد الصراع الداخلي. ولفترة من الزمن، بدا أن هذه الرؤية التوسعية قد تلاشت، لكنها عادت إلى الواجهة بعد انهيار النظام السوري.

يبقى الأمل في أن تكون أنقرة قد تعلمت من أخطائها السابقة وعدلت نهجها إلى استراتيجية أكثر برغماتية وتشاركية

ويبقى الأمل في أن تكون أنقرة قد تعلمت من أخطائها السابقة وعدلت نهجها إلى استراتيجية أكثر برغماتية وتشاركية. وربما تكون قد خلصت إلى أن تأمين مصالحها على المدى الطويل يتحقق على أفضل وجه من خلال التعاون مع الدول العربية بدلا من محاولات الهيمنة.

والرؤية الثالثة هي الروية الإيرانية، التي– على الرغم من إضعافها بشكل كبير في لبنان وسوريا– لا تزال موجودة وفاعلة، وهي تتمحور حول استراتيجية الدفاع الهجومي، التي لا تختلف كثيرا عن مثيلتها الإسرائيلية. ولحماية أراضيها الأساسية، تفضل طهران خوض معاركها خارج حدودها من خلال وسائل غير تقليدية، ولا سيما من خلال دعم الميليشيات بالوكالة، فتساهم بذلك في زعزعة استقرار كثير من الدول العربية.

وعلى الرغم من الانتكاسات الأخيرة، من غير المرجح أن تكون إيران قد تخلت عن طموحاتها الإقليمية. والأرجح أنها تعيد تقييم موقفها وتفكر في خطواتها التالية. وقد تعمق شعور طهران بانعدام الأمن، خصوصا مع تزايد احتمال توجيه ضربة إسرائيلية– هذه المرة بدعم محتمل من إدارة ترمب.

وعلى الرغم من أن هذه الرؤى الثلاث المتنافسة تخدم أجندات مختلفة، فإنها تشترك في أوجه تشابه مقلقة ينبغي أن تدفع الدول العربية إلى صياغة استراتيجية موحدة لمستقبل المنطقة.

فالشرق الأوسط متورط بالفعل في شبكة معقدة من الصراعات والمصالح المتنافسة. ويتفاقم هذا التعقيد الآن بسبب الشكوك المحيطة بعودة إدارة ترمب في الولايات المتحدة. وفي حين أنه من السابق لأوانه إجراء تقييم كامل لسياسات الإدارة الأميركية، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فإن الإشارات الأولية تبعث على القلق الشديد.

ولعل أفضل ما يلخّص سياسات الرئيس ترمب هي كلماته التي نشرها على موقع "Truth Social" ولاحقا على "X": "من ينقذ بلاده لا ينتهك أي قانون". ويبدو أن هذه المقولة تنطبق على الصعيدين المحلي والدولي، حيث تواجه الكثير من أوامره التنفيذية تحديات قانونية في المحاكم الأميركية. ومن بينها، فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 25 في المئة تتعارض مع التزامات الولايات المتحدة بموجب منظمة التجارة العالمية، وسياساته الصارمة في مجال الهجرة تتعارض بشكل مباشر مع القانون الدولي.

ومن بين أكثر تصريحات ترمب إثارة للقلق نيته المعلنة بإخراج السكان الفلسطينيين من غزة لتسهيل عملية إعادة الإعمار، في انتهاك صارخ للقانون الدولي. وبالمثل، تجاهل نتنياهو بشكل منهجي المبادئ القانونية الدولية من خلال تصرفاته في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا. وقد تصاعدت هذه الانتهاكات إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وربما حتى الإبادة الجماعية.

من الجوانب المثيرة للقلق بشكل خاص في السياسة الخارجية للولايات المتحدة هو تأييدها الواضح، أو على الأقل إذعانها لرؤية إسرائيل طويلة الأمد للمنطقة

ومن الجوانب المثيرة للقلق بشكل خاص في السياسة الخارجية للولايات المتحدة هو تأييدها الواضح، أو على الأقل إذعانها لرؤية إسرائيل طويلة الأمد للمنطقة. وهذا واضح بشكل خاص في مجال الأمن الإقليمي. وتؤكد زيارة نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن، والتي أعقبتها زيارة الوزير روبيو إلى إسرائيل، على هذا التوافق. وفي خطوة فاقت أكثر تطلعات نتنياهو طموحا، قدّم له ترمب هدية سياسية لا مثيل لها، حين طرح فكرة التهجير القسري لجميع سكان غزة، في مبادرة تساير استراتيجية نتنياهو الأوسع نطاقا لإعادة تشكيل المنطقة.

وقد عاد نتنياهو إلى إسرائيل ليحتفل بالتحالف المتعاظم مع أميركا، معلنا أن "أفضل سنوات تحالفنا لم تأتِ بعد"، مشيدا بترمب باعتباره "أعظم صديق حظيت به إسرائيل في البيت الأبيض". وردّد الوزير روبيو هذا الشعور، مؤكدا لإسرائيل أنه "لم يوجد صديق لإسرائيل في البيت الأبيض أقوى من الرئيس ترمب" وتعهد بأن يستمر الرئيس في تقديم دعمه الثابت طالما بقيت إدارته في السلطة.

ولتعزيز هذا الدعم، أعلن ترمب عن تقديم مساعدات عسكرية إضافية بقيمة 8 مليارات دولار لإسرائيل، لتكملة المساعدات الكبيرة التي قدمتها إدارة بايدن. كما وافق على الإفراج عن قنابل تزن 2000 رطل من القنابل التي كانت الإدارة السابقة قد حجبتها، وذلك ردا على الغضب الدولي من تأثيرها المدمر على المدنيين في غزة.

رويترز
صورة ممزقة تجمع الرئيسين السابقين حافظ وبشار الأسد وزعيم حزب الله حسن نصرالله والمرشد الإيراني علي خامنئي في محطة وقود في نبل، وهي قرية شيعية في ريف حلب، سوريا، 11 ديسمبر 2024

وعلى الرغم من هذه التطورات، سعت كل من الإدارتين الديمقراطية والجمهورية تاريخيا إلى تقليص الالتزامات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، وتحويل تركيزها نحو المنافسة الاستراتيجية مع الصين. ومع ذلك، لا تعني إعادة التقويم هذه بالضرورة فك الارتباط، حيث لا تزال المصالح الأميركية في المنطقة راسخة بعمق.

لطالما كانت الولايات المتحدة الضامن الأساسي للأمن في الشرق الأوسط. وهذا الواقع يجعل الانسحاب الكامل من المنطقة غير مرجح دون إطار بديل لحماية مصالحها الاستراتيجية. وبالنظر إلى أنه لا توجد دولة واحدة تمتلك النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي لتحل محل الولايات المتحدة، فإن الحل الأكثر جدوى هو إنشاء نظام أمني إقليمي يتماشى مع الأهداف الأميركية.

عزّزت هذه الحاجة لاستمرار النفوذ الأميركي التقارب بين المصالح الأميركية والإسرائيلية. وكانت إدارة ترمب قد سعت بنشاط لدمج إسرائيل في المنطقة من خلال اتفاقات أبراهام، وهي عملية عززتها إدارة بايدن في وقت لاحق. وامتدت مقاربة بايدن لتشمل دعم مبادرة إسرائيل لتأسيس "منتدى النقب"، وهو تحالف سياسي عسكري يضم إسرائيل والدول العربية ذات العلاقات الطبيعية. وكان الهدف الأساسي لهذا المنتدى هو مواجهة إيران من خلال تعزيز التعاون العسكري، بدءا من تنسيق أنظمة الدفاع الجوي.

وقد أظهرت التبادلات العسكرية الأخيرة بين إسرائيل وإيران الفعالية المحتملة لمثل هذا الترتيب، حيث أفادت التقارير بأن بعض الدول العربية تدخلت لمنع وصول الصواريخ الإيرانية إلى أهداف إسرائيلية. ومع ذلك، من المرجح أن مشاركتها لم تكن مدفوعة بالرغبة في حماية إسرائيل أكثر من مخاوفها بشأن الاستقرار الإقليمي ومخاطر المزيد من التصعيد الذي يؤثر على أمنها القومي.

والحق أن "منتدى النقب" قد بدأ يتعثر بالفعل، حتى قبل 7 أكتوبر 2023. وبالنظر إلى الحرب الدائرة في غزة وعواقبها الإقليمية الأوسع، فمن المحتمل أن يكون المنتدى الآن قد بات نسيا منسيا. ولكن إسرائيل يمكن أن تحاول بالطبع، مع عودة إدارة ترمب، إحياء المشروع. وبالفعل، أعلن نتنياهو صراحة عن نيته فرض رؤيته للشرق الأوسط، مؤكدا بثقة أن العرب والعالم أجمع سيعبّرون في نهاية المطاف عن امتنانهم لها.

وفي حين لا يزال ترمب يؤكد تفضيله لاتفاق نووي جديد مع إيران، إلا أنه تعهد أيضا بإعادة العمل باستراتيجية "الضغط الأقصى"، ولم يستبعد– وهو الأهم– إمكانية القيام بعمل عسكري. وتشير التقييمات الاستخباراتية الأميركية إلى أن إسرائيل تستعد على الأرجح لضرب إيران خلال النصف الأول من عام 2025، مع توقعات بانجرار واشنطن إلى الصراع بشكل ما.

تتمثل الأولوية الأولى في ضمان التنفيذ الكامل لاتفاق غزة، إلى جانب خطة شاملة لإعادة إعمار غزة ترتبط مباشرة بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة

يشهد الشرق الأوسط بالفعل أوقاتا مثيرة. فمن ناحية، تحاول إسرائيل بقوة فرض رؤيتها لمستقبل المنطقة. ومن جهة أخرى، لا تزال الإدارة الأميركية، على الرغم من إحجامها عن التدخل العسكري المباشر، ملتزمة بتقليص وجودها العسكري في المنطقة. وتخلق هذه الديناميكية فرصة لإسرائيل لمناورة الولايات المتحدة لدعم طموحاتها الأوسع نطاقا.

ويعتمد مدى نجاح إسرائيل في هذا المسعى إلى حد كبير على كيفية استجابة الدول العربية. فحتى الآن، لا تزال الدول العربية ترفض بحزم اقتراح ترمب إخراج الفلسطينيين من غزة بالقوة، مما يشير إلى عزمها على وضع خطة بديلة. ولكن يجب تعزيز هذا الموقف بإجراءات ملموسة.

وتتمثل الأولوية الأولى في ضمان التنفيذ الكامل لاتفاق غزة، إلى جانب خطة شاملة لإعادة إعمار غزة ترتبط مباشرة بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن دفع إسرائيل للانسحاب من لبنان أمر بالغ الأهمية.

وفي سوريا، يجب على الدول العربية أن تضطلع بدور أكثر فاعلية في تشكيل العملية الانتقالية، بدلا من ترك الأمر للاتحاد الأوروبي، كما رأينا في مؤتمر باريس حول سوريا الذي عقد في 13 فبراير/شباط. وينبغي أن يكون الهدف الرئيس هو إخراج جميع القوات الأجنبية من الأراضي السورية، بدءا من إسرائيل. فإذا حدث ذلك، يمكن أن تتشكل فرصة فريدة لإعادة تقويم العلاقات مع تركيا بطريقة تتماشى مع المصالح المتبادلة.

أخيرا، يبقى إشراك إيران عنصرا ضروريا للاستقرار الإقليمي، ولكن يتعين على الدول العربية استكشاف الحوافز التي من شأنها أن تشجع طهران على كبح تدخلها في شؤونها الداخلية.

لا بديل عن بذل كل هذه الجهود ضمن الإطار الأوسع لتطوير رؤية عربية موحدة للأمن الإقليمي. وتمثل القمة العربية المقبلة في القاهرة فرصة حاسمة للدول العربية لتأكيد تصميمها على صياغة مصيرها وحماية مصالحها الجماعية.

font change