في ذكرى يوم التأسيس السعودي: جزيرة العرب قلب الحضارات

لم تكن يوما هامشا بل كانت قلبا نابضا في جسد العالم القديم

Lina Jaradat
Lina Jaradat

في ذكرى يوم التأسيس السعودي: جزيرة العرب قلب الحضارات

في مطلع كتابه "مهد العرب" يؤكد المحقق والأديب عبد الوهاب عزام أنه لا بد لكل عربي مهتم بأدب العرب أن يطلع على تاريخ الجزيرة العربية، وأخبارها وسهولها وتضاريسها، "فكثير من الشعر والنثر لا يدرك معناه إلا بمعرفة ما يتصل به من مكان أو قبيلة أو حيوان أو قصة، أو بمعرفة طبيعة بلاد العرب إجمالا". ففي كتابه المختصر عن أوصاف جزيرة العرب وخصالها يتساءل المفكر الكبير: "هل يعرف التاريخ أمة جمعت في سلطانها ما جمع العرب من أمم وأقطار، ثم آخت بينهم وحفزتهم إلى الفضائل والآداب والعلوم والصناعات... وما فعلوا هذا كله إلا ابتغاء وجه الله، وقصدا إلى إصلاح الناس، وعمران الأرض. وقد ربط التاريخ ذكر العرب وتاريخ العرب بهذه المآثر وتلك الفضائل والأخلاق والمكارم، وضمن لهم الخلود ما بقي للناس سيرة في الفضائل والمعالي. وما تزال جزيرة العرب خلاقة ولادة فياضة ممدة لأقطار العرب بالقبيل بعد القبيل، فإن بليت الأمم فهذه الأمة لا تبلى، وإن أفنت الأقوام الحوادث فالعرب لا تفنى، وإن نضب معين الأمم فلن يغيض الدم العربي الخالص ما دامت أنهار الله جارية في أرض الله، وما دامت شمسه وهواؤه ينميان الأجسام، ويطبعان الأقوام".

لم تكن الجزيرة العربية مجرد صحراء شاسعة، وأرض مقفرة، كما تصورها كثير من السرديات الشائعة التي تسللت إلى كتب التراث العربي، ومصنفات التاريخ التقليدية، بل كانت نقطة التقاء الحضارات، ومسرحا لحركة القوافل التي حملت الطيب والعطور، والذهب والتوابل، والنحاس والمنسوجات، وصنعت تاريخا من التواصل والثراء الثقافي، وشهدت قيام ممالك عظيمة سطرت مجدها فوق الجبال، وشيدت مدنا ازدهرت بالتجارة والفكر والفن.

هذه الجزيرة كانت موطنا لإنسان مبدع استطاع تطويع الأرض، وشق الطرق، وبناء الممالك التي ازدهرت لقرون. منذ فجر التاريخ، شكلت المنطقة نقطة التقاء كبرى، حيث تلاقحت الثقافات، وامتزجت الأفكار، وولدت ممالك جعلت من الجزيرة محورا عالميا للحضارة. هنا، خط الإنسان أولى خطواته نحو الاستقرار، فظهرت حضارات تروي شواهدها قصصا عن التطور الزراعي والتجاري والمعماري، وعن ذكاء الإنسان العربي الذي صنع من قلب الصحراء مراكز تجارية وثقافية، حملت بصماتها إلى أرجاء العالم القديم.

لم تكن الجزيرة العربية مجرد صحراء شاسعة، كما تصورها كثير من السرديات الشائعة بل كانت نقطة التقاء الحضارات

واليوم، ونحن نحتفي بذكرى يوم التأسيس السعودي، نعود إلى جذور هذه الأرض، ونستعيد صفحات من تاريخها الضارب في القدم، حيث كانت الممالك العربية القديمة تصنع حضارة استمر أثرها عبر العصور.           

حضارة المقر... البدايات الأولى

في قلب الجزيرة العربية، وتحديدا في منطقة المقر، ظهرت واحدة من أقدم الحضارات الإنسانية التي تعود إلى أكثر من 9000 عام، حضارة عربية نجدية تكشف أن الإنسان العربي القديم بدأ في تدجين الخيول والحيوانات، مما يجعل هذه الحضارة أقدم الثقافات البشرية، وأول مركز لاستئناس الخيول في التاريخ، قبل أن تفعل ذلك حضارات العالم الأخرى بآلاف السنين. وعلى ضفاف الأودية زرع أهل المقر محاصيلهم، واستخدموا الأدوات الحجرية، وأقاموا مجتمعا زراعيا متطورا سبق زمانه، فاستخدمت الزراعة كمصدر رئيس للغذاء، حيث تشير الدراسات إلى أن سكان المقر زرعوا الحبوب كالقمح والشعير، وربما بعض البقوليات، كما استخدمت طرق بدائية لتوجيه المياه، مثل القنوات الصغيرة والآبار، مما يشير إلى فهم مبكر لتقنيات الري والحفاظ على المياه، كما اكتشف الباحثون أدلة على وجود آبار محفورة يدويا، مما يدل على تخطيط متقدم لإدارة المياه، ويعتقد أن السكان استخدموا نظاما بسيطا لتوجيه المياه إلى المناطق الزراعية من خلال الوديان والسهول المجاورة.

وتمثل حضارة المقر تحديا للروايات التقليدية حول الجزيرة العربية، حيث تثبت أنها كانت موطنا لأولى الحضارات البشرية، وبدايات اكتشاف الانسان للزراعة وأنظمة الري.

Lina Jaradat

دومة الجندل... عاصمة العرب الأولى

وفي قلب الشمال، قامت مملكة دومة الجندل، وملكها جندب، ومنها وصلنا أقدم ذكر مكتوب لكلمة "العرب" بالقرن التاسع قبل الميلاد، في نقش خاص بالملك الآشوري شلمنصر الثالث في عام 823 ق.م، الذي يوثق فيها معركته ضد ملك دمشق الآرامي وحلفائه الذين كان من بينهم قبائل عربية على رأسهم جندبو، الذي يوصف بأنه ملك العرب، وتعرف تلك المعركة باسم «معركة قرقر»، عند بلدة تاريخية تقع اليوم شمال غرب سوريا تحمل الاسم نفسه، وكان لهذه المعركة أثر تاريخي مهم لأنها قدمت معطيات ومعلومات بالغة الأهمية في كشف تفاصيل تلك الحقبة، وطبيعة التحالفات القائمة، وأسماء الملوك والحكام، وحملت الإشارة الأولى لشعوب العرب في النصوص الآثارية التاريخية.

تمثل حضارة المقر تحديا للروايات التقليدية حول الجزيرة العربية، حيث تثبت أنها كانت موطنا لأولى الحضارات البشرية، وبدايات اكتشاف الانسان الزراعة وأنظمة الري

مملكة دومة الجندل كانت مركزا سياسيا وتجاريا يشع بالحياة، حيث توافدت إليها القوافل، وتجمعت فيها القبائل، واتخذها العرب الأوائل عاصمة لممالكهم. بأسوارها الحصينة، وأسواقها العامرة، حيث كانت بوابة الجزيرة العربية إلى الشام وبلاد الرافدين، وملتقى الفكر والتجارة، حيث يجتمع كبار التجار والحكماء، في مدينة كانت أشبه بالعاصمة السياسية للعرب في العصور القديمة.

مملكة قيدار... مجد ملكات العرب

في تلك الأزمنة نهضت مملكة قيدار كإحدى أبرز الممالك العربية القديمة، حيث امتد نفوذها بين شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام من القرن التاسع حتى الثاني قبل الميلاد. ارتبطت تسميتها بـ قيدار بن إسماعيل، وكان لها دور سياسي وعسكري مهم، حيث دخلت في صراعات مع الآشوريين والفرس والبابليين.

كانت قيدار تتحكم في طرق التجارة الدولية، فازدهرت تجارة البخور، والتوابل، والأقمشة الفاخرة، والزيوت العطرية. كما اشتهرت بإنتاج الفخار المميز والنقوش الصخرية، إلى جانب اهتمامها بتربية الإبل والخيل.

تميزت قيدار بملكاتها القويات، ومن أبرزهن الملكة يثيعة، التي ورد اسمها في النقوش الآشورية، مما يعكس دور المرأة في الحكم. عرفت الملكات بحكمتهن في إدارة الدولة والتعامل مع القوى العظمى، مما منح المملكة استقرارا سياسيا واقتصاديا. حافظت قيدار على إرثها رغم صراعاتها مع الممالك الكبرى، وظلت شاهدة على حضارة عربية متجذرة، تبقى آثارها ونقوشها دليلا على مجد العرب، ومكانة المرأة العربية.

مملكة دلمون... جنة التجارة وأساطير الخلود

وعلى سواحل الخليج العربي، نشأت مملكة دلمون، بوابة التجارة العالمية، والمركز الاستراتيجي الذي ربط بين حضارات وادي الرافدين ووادي السند ومصر. كان مركزها قبل خمسة آلاف سنة تقريبا في جزر البحرين وجزيرة تاروت في القطيف. وهناك، ازدهرت الأسواق بالبضائع الآتية من الهند وفارس والصين، وعبرت السفن المحملة بالمعادن والأخشاب والعطور، لتصب في شرايين الاقتصاد القديم.

في قلب الشمال، قامت مملكة دومة الجندل ومنها وصلنا أقدم ذكر مكتوب لكلمة "العرب" في القرن التاسع قبل الميلاد

كانت دلمون أسطورة حية، ذكرتها النصوص السومرية بأنها "أرض الخلود"، ذلك المكان الذي يتجدد فيه الشباب، وتبدأ فيه الحياة من جديد، وهي دلالة على ازدهارها، وكونها محط أنظار الشعوب المجاورة.

لحيان والأنباط... نقوش خالدة في العلا

في العلا، حيث تمتد الصخور شامخة، تركت مملكة لحيان بصماتها على صفحات التاريخ، فكانت مملكة زراعية وتجارية متقدمة، تميزت بخصوبة أرضها، وحسن تنظيمها، وإبداعها في النقوش والكتابة. كان اللحيانيون تجارا ومزارعين، ومثقفين أيضا، فقد ابتكروا لغتهم الخاصة، وسجلوا مآثرهم فوق الصخور، لتبقى شاهدة على تقدمهم. كانت العلا مركزا حضاريا نابضا بالحياة، حيث التقت فيها القوافل، وتفاعلت فيها الثقافات، مما جعلها من أهم المراكز التجارية في الجزيرة العربية القديمة.

تروي مدائن صالح قصة عبقرية مملكة الأنباط، التي أتقنت فن العمارة والنحت، فجعلت من الجبال قصورا، ومن الصخور معابد، ومن الصحارى مدنا زاخرة بالحياة

وعلى امتداد درب القوافل، كانت مدائن صالح (الحجر) تروي قصة عبقرية مملكة الأنباط، التي أتقنت فن العمارة والنحت، فجعلت من الجبال قصورا، ومن الصخور معابد، ومن الصحارى مدنا زاخرة بالحياة. شكلت مملكة الأنباط قوة تجارية، وقوة هندسية فريدة، إذ أبدع الأنباط في أنظمة حفظ المياه، فصنعوا حياة وسط القسوة المناخية، واستطاعوا السيطرة على طرق التجارة، ليصبحوا حكام المسارات الاقتصادية بين جنوب الجزيرة وشمالها.

جزيرة العرب وشرايين العالم القديم

نسجت طرق التجارة خيوط الحضارة عبر الجزيرة العربية، فسافرت القوافل حاملة معها الطيب والبخور من الجنوب، والنحاس والذهب من الشرق، والحرير والتوابل من آسيا، لتصل إلى أسواق الشام وروما ومصر. كان طريق البخور أحد أهم المسارات التجارية، فامتدت رحلات القوافل عبر نجران ومكة والعلا، لتصل إلى موانئ البحر المتوسط. أما طريق الحرير البحري، فقد جعل من الخليج العربي بوابة للعالم، فاستقبلت الموانئ العربية السفن الآتية من الهند والصين، لتنطلق منها نحو العالم القديم.

هذه ليست مجرد ذكرى، بل استعادة لتاريخ طويل من العطاء، وإعادة تذكير بدور الجزيرة العربية في صنع الحضارة الإنسانية. فالأرض التي أنجبت الممالك القديمة، واحتضنت طرق التجارة، وصاغت هويتها الخاصة، هي ذاتها التي تشهد اليوم على نهضة لا تقل مجدا عن تلك التي سطرتها الصخور والنقوش قبل آلاف السنين. فالجزيرة العربية لم تكن يوما هامشا، بل كانت قلبا نابضا في جسد العالم القديم، ولا تزال، وستظل، موطنا للحضارة، والتاريخ، والمستقبل.

font change