"كتابة الأنا"، بمتعلقاته وأشكاله، هي في الأساس شفوية ويومية. كأن يروي أي شخص شيئا من حياته، بطريقة عادية، في أي مكان أو زمان.
إنها التذكر أحيانا والحنين أو التحقيق.. دون أثر يتجاوز الحكاية، وقد عرف العرب الحكواتيين، كبداية للمسرح أو سواه، أو كمن يروي أحداثا مر بها... فالأنا ظاهرة تاريخية، سواء في الأدب أو سواه. يشاهد الشخص معركة في الشارع فيرويها كما هي، ويضيف حالته فيها. فلا شيء ينتمي إلى الفردية في هذا المجال.
لكن، من هنا تحديدا وُلدت "كتابة الأنا"، عند الكتاب والرسامين والفلاسفة والسينمائيين. فكتابة الأنا هي في معظمها كتابة الآخر، لأنها لا تنفصل عن التاريخ، أو الاعتراف...
والسؤال الأساسي في هذا المضمار: هل يمكن أن يقوم أي كان بإسقاط القناع عنه، خصوصا أهل الفن والأدب وسواهم بسهولة. فالمسألة مزدوجة، عند كثيرين ممن "غامروا"، في مروياتهم الأدبية، خصوصا عند كبار الكتاب، أي ينزعون ويتجاهلون الواقع، بتفاصيله ودقائقه وإيحاءاته وحقيقته المقبولة من المجتمع أو المرفوضة من التقاليد ومحرماته.
فالسيرة الذاتية، كما عرفناها عند الكثيرين من الكتاب، توحي بأن أمورا ما مخفية أو مستورة، بمعنى أن أهل السير لا يقدمون أوراقهم كلها، فربما الأهم هو المسكوت عنه. ولهذا قوبل هذا النوع بعدم الثقة أو الشك وحتى "الاحتقار"، وإذا أدخل في مجال الأدب، رد العقل أفكار هذا الإدخال، لا سيما أن له تسميات عديدة: "ذكريات"، "دفاتر" أو "هوامش" وجميعها تنتمي إلى السير.
وترجع هذه النظرة الدونية عند بعض رواد هذا النوع، فالقديس أغسطينوس وباسكال أو الكاتب مونتين، الذين كانوا أول مَن خاضوا هذه الكتابة الذاتية لم توحِ نصوصهم بالثقة، باعتبارهم لم يفصحوا عن سيرهم الحقيقية. لكن ربما تغيرت هذه القراءات، مع الكاتب الفرنسي جان جاك روسو "باعترافاته" التي كتبها بشفافية كلية، سواء في خصوصياته أو أسراره.. لأنه، اختار "الواقع"، على حساب "المتخيل" أو المزيج بين الاثنين (عند سواه)، أو التلاعب بالمعطيات الحياتية، الانتقائية، بمعنى آخر، يمكن تسميته "المتخيل الذاتي سواء في نطاق البوح، أو التورية، وهذا ما نجده حتى عند تولستوي... أما في عالمنا العربي، فقد أوحت عند كتابها، ما أوحت به عند الآخرين: عند المؤلفة لطيفة الزيات، وإدوارد سعيد، وآسيا جبار، وصنع الله إبراهيم، ورضوى عاشور، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، الذين كتبوا سيَرهم الذاتية على نحو يراوح بين التسجيل، والوثائقية (عند نجيب محفوظ ومصطفى لطفي المنفلوطي).
التماهي بين الإبداع والسيَر يعاني مشكلة ما. فكل كتابة إبداعية أو مسرحية أو فنية، تنتمي إلى"المتخيل" الشكلي أو المعنوي
إذن هناك تقاطع لا بأس به، بين الكتاب العرب والأجانب، سواء بالطريقة الفردية أو الاجتماعية أو السياسية والأدبية والفكرية...
لكن بعض الشعراء والروائيين... والمسرحيين والفلاسفة، عندما يسألون لماذا لا تكتبون سيَركم الذاتية يجيبون بأنها "موجودة في قصائدنا، أو أعمالنا الروائية والفكرية".. فهذه أيضا استشفاف لمساراتنا وأنفسنا ودواخلنا، يعنون أن السيَر لا تقتصر على المرويات، بل إلى ما يعتبر ما وراء النصوص وتورياتها وموحياتها. لكن هذه الآراء تنفي بروز السيَر ربما كأحد أنواع الأدب، وخلط الحياة الخاصة والاجتماعية بمسألة الإبداع، والمدارس الفنية والشكلانية كالسيريالية، والدادائية، والرومانطيقية. فهي هُويات خاصة بأفراد وجماعات، وارتبطت إلى حد ما بحياتهم الخاصة، ونجدها في مسارات فلسفية عند جون بول سارتر وألبير كامو، وشعرية عند محمود درويش، ولوركا، وبول إيلويار، وإلياس أبو شبكة، وطه حسين، وغوغول...
لكن هذا التماهي بين الإبداع والسيَر يعاني مشكلة ما. فكل كتابة إبداعية أو مسرحية أو فنية، تنتمي إلى"المتخيل" الشكلي أو المعنوي، لأننا نعتبر أن كل قصيدة أو مسرحية، أو فيلم سينمائي، ما إن ينشر أو يقدم، يصبح "متخيلا"، أي تنتفي عنه الواقعية المباشرة مهما كانت تسجيلية. وهذا سر هذه المفارقات. وهذا يعني أنه تلقائيا ينتمي إلى الفن أو اللغة الأدبية، بينما نجد أن السيَر التسجيلية، والمتخيلة، تبقى في حدودها، حتى وإن عمد بعض الأدباء إلى اعتبارها إبداعية، أي جمالية.
فالسيرة في مراحلها السابقة كانت محصورة بتسجيل التفاصيل الذاتية بطريقة عادية ولهذا كانت "محتقرة" من جانب الكتاب، واخترقت الكتابة الأدبية مع بعض الذين لم يفرقوا بين السيرة وتعبيرها الطليعي، أي جمع ما هو جمالي وما هو حقيقي. ونجد هذا الازدواج عند الكاتب الفرنسي ميشال ليريس في كتابه "عمر الإنسان" متبنيا جان جاك روسو، أي تجمع الواقع والمتخيل. وانتقلت عند كتاب آخرين، تحت اسم "إدراك الحقيقة يمر بأشكال جديدة"، أي ينتزعون الكتابة الذاتية من الأشكال التقليدية والسردية، ويفضلون العمل على اللغة.
في الكتابة الذاتية قوة ليست فقط الأدب. فهي تنفتح على عوالم أخرى خصوصا شهادة الكلمة، وقوة الالتزام لمن يتكلم
لكن نتوقف عند ظاهرة لافتة لا تقل صدقية عن كبار الذين كتبوا سِيَرهم بحرية ودقة، أقصد هنا طه حسين، مقدمة أشهر السيَر في كتابه "الأيام" وهو أول كاتب عربي يدون اعترافا دوليا ويُترجم إلى لغات عديدة، نشر بمسلسل على صفحات مجلة "الهلال" المصرية، يتحدث فيها بضمير الغائب في الجزء الأول، حيث نتابع طرفا من طفولة الصبي الكفيف في صعيد مصر وإرساله إلى القاهرة لكي يتعلم في الأزهر.. وفي الجزء الثاني نقرأ سنوات دراسته هناك وشعوره بالعزلة وهو يتمشى في شوارع القاهرة. أما الجزء الثالث (1973) فيتم بتسجيل بداية ارتباطه بالجامعة المصرية وانفتاحه على ثقافة الغرب حين سافر في بعثة دراسة إلى فرنسا ليعد رسالته في جامعة السوربون، ويعود إلى مصر أستاذا للتاريخ القديم ويثير عواطف في الحياة الفكرية بمحاضراته ونصوصه وكتبه وأشهرها "في العصر الجاهلي"، و"مستقبل الثقافة في مصر"، وغيرها.
ونذكر أيضا لطيفة الزيات في كتابها "حملة تفتيش أوراق شخصية"، تسجل فيه نضالها ضد الاحتلال البريطاني في أربعينات القرن الماضي وتفاصيل سجنها آنذاك، في الإسكندرية عام 1949 ومشاركتها في الحركة الطالبية واعتقالها وزجها في سجن القناطر عام 1981.
ونتذكر كتاب "حبات النفتلين" للعراقية عالية ممدوح، وتحية ابنة جمال عبد الناصر.. وتسجيل سيرة محمود درويش والشاعر مريد البرغوثي (1944)، ونذكر في هذا الإطار المفكر المصري الكبير لويس عوض "أوراق العمر" وسيرة حياته، وكذلك عبد الرحمن بدوي...
وإذا كانت السيَر الأساسية العربية قلما أثارت "سجالات" حولها، فهي في بعض البلدان الأخرى (في مصر والعراق) حركت تناقضات ما، في هذه الكتابات، لكن في فرنسا مثلا اختلف المؤرخون الأدبيون حول زمن بداية هذا "النوع" من الكتابة أو الأدب. ففي فرنسا اعتبر المؤرخ فيليب بوجون، أن هذه الظواهر بدأت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر واعتبر أن جان جاك روسو هو الرائد، محللا مواقف تقول: "لطالما كان هذا النوع موجودا" فيرد عليه في كتابه "الكتابات السيرية"، جورج غوسدور قائلا: "إن هذه الظاهرة تعود بداياتها إلى التوراة"!!
لكن هل السيرة الذاتية "أدب"؟ سؤال ما زال يطرح حتى يومنا هذا. وهناك تحديدات معينة بأنه "نوع أدبي" يساعد على فهم الكائنات البشرية، وعصورهم، من خلال عمل شكلي. فنحن نفكر بالأشكال التي تعلمناها. نحن نفكر ولا يمكننا إدراك الحقائق الجديدة إلا بابتكار أشكال جديدة. فالأدب ينجح ويفشل، ففي الكتابة الذاتية قوة ليست فقط الأدب. فهي تنفتح على عوالم أخرى خصوصا شهادة الكلمة، وقوة الالتزام لمن يتكلم. فهي ليست فقط مرجعية لكن علائقية أيضا، وهي أيضا نص تاريخي، حيث إن الكاتب يلتزم بقول الحقيقة على عكس المتخيل حيث لا يلتزم الكاتب بشيء، بل أيضا إلى التاريخ والذاتية.
فالإنسان الذي يسجل ذاته ويقدمها إلى القارئ، وهو تحد له، في معطياته ويومياته.
كتابة الآخر عن سِيَر الكبار سياسيا أو اجتماعيا، مهنة يتولاها محترفون، تحت رقابة الأحزاب أو العائلات، مصفاة من أي تفصيل يمس "نزاهة" موضوع السيرة
ولهذا فكتابة السيرة لا يمكن أن تكون شعبية. فقارئ اليوميات حساس، وناقد، لا يمكن أن ينفتح دائما على ما يتماهى بتجربته الخاصة. من هنا تناقض مع السير المتخيلة، باعتماد بعض الكتاب الكبار على تبني التغيير أي إدخال مجال تجريب الأنا، وتوسيع أفق المواقف ودفعها إلى أقصى خلفياتها من دون هاجس الخوف من خطاب الحقيقة، والتي هي نسبية من خلال التوغل في تناقضات الأنا التي ترعى وجود الأدب بكل أشكاله، الفكرية، والسياسية والفلسفية... من هنا تبرز قيم وظواهر سيكولوجية وفلسفية وتاريخية، تتوزع داخلها، من دون أن تنتمي إلى هذه الأنواع فحسب، بل تحافظ على مكوناتها المفتوحة...
والمعروف أن كتابة السير شهدت رواجا في القرن العشرين وتوسعت أدواتها، إلى السينما والتلفزيون والمجلات، حتى وصلت بعدها إلى وسائل الاتصال الجماعية والإنترنت، وتوابعهما، فغلب عليهما أسلوب التسجيل (أو الوثائقية)، وعمد بعض كتابها إلى تدوين يومياتهم بطريقة مباشرة: ماذا فعلوا في هذا اليوم، وفيم فكروا، وما أكلوا، وما شربوا ومن قابلوا. فأدركت بواسطة الأدوات إلى جمهور واسع، يقدر أحيانا بمئات الألوف، باعتباره فصل اليوميات عن احتمالاتها اللغوية والأدبية ليتلقاها الناس عارية موثقة، يتعرفون فيها على الحقيقة من دون تعابيرها الجمالية، أو اللغوية.
وهنا تحديدا، وبهذا الانفصال، تراجعت كثيرا علاقتها بالأدب، فكأنها مكتوبة لأنواع شتى من الجمهور، بينما الأدبية منها، تميل إلى النخب كما أسلفنا القول. لكن يبقى السؤال، هل يتسم هذا النوع بالصدق؟ هنا الخلاف.
ومن يكتب على مدار الساعة يستفيد القارئ من طريقته أو نوع كتابته، خارج لغة المدونات: كأنما تبقى "الحشرية" غايتها الأولى والأخيرة. لكن هناك نوع من المذكرات العمومية المهنية، أي كتابة الآخر، وهذا موجود في سِيَر كبار السياسيين والأدباء والفنانين والعائلات، ولطالما شاهدنا في الأفلام سِيَرا لأمثال هتلر، ونيرودا، ولوركا وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمه.. أو أم كلثوم، أو فريد الأطرش، أو صباح، أو الرسام الكبير فان غوخ. وهنا تحديدا نشعر بأن عائلات معظم هؤلاء أو بعضهم يفرضون على هذه السيَر أو كتابها الرقابة، لكي تبدو السيرة خالية من أي مس أخلاقي كان أو سياسي أو أدبي.
لكن، طرأ "حدث" وسائل التواصل الاجتماعي ومواقعها، فصارت السير مسألة يومية، كل مستخدميها، يعرضون حياتهم وأعمالهم وآراءهم وأنفسهم للشاشة، وهنا تحديدا، انفصلت هذه السير عن "جمالية الأدب"، وباتت مجرد تسجيلية لليوميات والتفاصيل، ومن الثرثرات.
وأما كتابة الآخر عن سِيَر الكبار سياسيا أو اجتماعيا، فهي مهنة يتولاها محترفون، تحت رقابة الأحزاب أو العائلات، مصفاة من أي تفصيل يمس "نزاهة" موضوع السيرة. أي إن الحقيقة، أو بعضها صارت تحت رقابة الورثة أو الأقربين.
وأخيرا، يمكن القول إن قلة من هؤلاء "نسفوا" كل شيء عن حياتهم. فالانتقائية، لا تجعل منها مجرد أرشيف مصنوع أو مصطنع... تظنها لأشخاص مثاليين لا وجود لهم في هذه المجتمعات التقليدية أو غير التقليدية.