في واحد من أهم أبعادها ومحدداتها، فإن الثورة السورية، التي استمرت لقرابة 5 آلاف يوم، ودفع المنتفضون خلالها بحرا من الدماء والآلام والخسائر، كانت ثورة المتن المدني/الشعبي الأوسع من المواطنين السوريين، ضد سلطة أمنية/عسكرية قمعية، استولت قبل ستة عقود على سلطة حكم البلاد، عبر انقلاب عسكري، ألغى النظام الديمقراطي المدني الذي كان عليه البلد قبل وقتئذ، ثم بقي يستعمل تلك العسكرة أداة لحكمه ومحقه للسوريين طوال تلك السنوات الطويلة. فالسوريون عبر ثورتهم كانوا يقولون "كفى لهذه العسكرة"، وتاليا كفى لكل عسكرة، ماضية كانت أو حاضرة أو مستقبلية، لأن لكل عسكرة أن تقوض وتحطم حيواتهم، حسب تجربتهم الدموية التي طالت لعقود.
لكن المشهد المفصلي/الأخير من حكاية السوريين كان تراجيدياً للغاية. لأن المنتصرين/المستحوذين على ثمار هذه الثورة أصروا على أن لا يكون كل ذلك ضمن حسابتهم وحساسيتهم ورؤاهم المستقبلية.
فالسلطة الجديدة المُشيدة في البلاد أظهرت نفسها كـ"سلطة عسكرية"، نالت شرعيتها وآليات تشكلها من مجموع الفصائل العسكرية، وعينت قائدا عسكريا كرئيس للبلاد، وأخرجت المشهد الأخير وكأنه انتصار لعسكر ما على عسكر آخرين غيرهم، لا لشعب مدني على نظام عسكري، تجاهلت كل الأحزاب والشخصيات السياسية، حتى أقربها أيديولوجياً وخطابياً لها، لم تعد تبالي بالمؤتمر الوطني "المدني" كمصدر لشرعية السلطة الجديدة، ومجموع ما وعدت به من مؤسسات وآليات حُكم، هي أقرب ما تكون لحالة الطوارئ والحُكم العسكري من أي شيء آخر. حتى الشرعية الدولية المتمثلة بالقرار 2254، صارت تعتبره فعلا ماضيا تماما.
فوق ذلك، فإن السلطة الجديدة مصرة ومستعجلة في استخدام آليات تعامل وحسم عسكرية، سواء عبر تعيين شخصيات عسكرية في مختلف مفاصل الحُكم والحياة العامة، بما في ذلك الإدارات المدنية، أو تصفية الخلافات السياسية حسب منهج عسكري، مع إهمال متعمد لكل المصطلحات والقيم والرؤى السياسية والفكرية غير العسكرية، تحديدا تلك التي تضمنتها أدبيات الثورة السورية منذ بداياتها، وكان بمجملها على مناقضة ومناهضة لكل العالم الرمزي للخطابات والقيم العسكرية.
طوال تاريخها السياسي المعاصر، كانت سوريا الكيان الأكثر دفعا لأثمان العسكرة
طوال تاريخها السياسي المعاصر، كانت سوريا الكيان الأكثر دفعا لأثمان العسكرة، لأنها جمعت ذلك المزيج الرهيب المؤهِل لأن تكون العسكرة "شرعية" وحاضرة وذات سطوة على الذات السورية الجمعية. فسوريا كانت المقر والبيئة الأكثر خصوبة للنزعات القومية العربية، تحديدا في نسختها الأيديولوجية المحافظة المطلقة الثانية، التجربة البعثية تحديدا. كذلك كانت سوريا دولة المواجهة الأكثر التهابا، بحكم موقعها وحجمها الجغرافي مقارنة بدول "الإقليم الشامي" المجاورة والمتداخلة مع القضية الفلسطينية. مع الأمرين، كانت سوريا كيانا مليئا بجراح ما اعتبره السوريون استقطاعا من جغرافيتهم التاريخية، وكانت معها بلدا كثير الشروخ الهوياتية، الدينية والطائفية والعرقية والمناطقية.
كل تلك القضايا دفعت العسكر السوريين لأن يصنفوا أنفسهم كجهة وحيدة قادرة على التعامل معها جميعا بقبضة واحدة، وجزء واسع من النُخب والطيف المجتمعي السوري منحهم تلك الأحقية، غالبا لتلك الأسباب سابقة الذكر.
لحظ السوريين العاثر، كانت تلك القبضة الواحدة تعني "الضربة القاضية"، متمثلة في إغلاق المجتمع، وتأميم الحياة السياسية والمدنية ومحق أية محاولة ساعية لإعادة العسكر إلى مواقعهم الاعتيادية، وسحب الامتيازات والسلطات الاستثنائية التي يتحلون بها على حساب أمة المواطنين السوريين، وتحويل العسكر إلى أناس ومؤسسات وسلطات طبيعية.
سقوط النظام العسكري الذي كان، لا يعني نهاية العسكرة، فهذه الأخيرة تحتاج إلى مكاشفة واضحة وطويلة الأمد
لكن، كما يبدو في الملمح العام للبلاد، فإن سقوط النظام العسكري الذي كان، لا يعني نهاية العسكرة، فهذه الأخيرة تحتاج إلى مكاشفة واضحة وطويلة الأمد، وعلى مختلف المستويات، من السلطة والنُخب السياسية والثقافية، مرورا بقادة الرأي والمؤسسات، متمركز حول إعادة تعريف وتشكيل سوريا نفسها، تحديدا في المواضيع التي شكلت ميولها ونزعاتها العسكرية المعاصرة.
فهل سوريا ما تزال قابلة لأن تكون شيئا مثل "قلب العروبة النابض" مثلا، وما يشابهها من شعارات مطلقة، وما قد يفرضه ذلك البناء الأيديولوجي من أولوية وإمكانية لعودة العسكر. وغير بعيد عن ذلك، هل يُمكن للدولة السورية الجديدة أن تستعيد أراضيها المحتلة بغير مفاوضات سياسية وإيمان مطلق باستحالة مواجهة إسرائيل عسكريا، خصوصا بعدما ظهرت فروق القوة الهائلة خلال الحروب الأخيرة، وقبلها مطولا كيف أن ترسانات الأسلحة التي رُوكمت طوال سنوات وعقود لذلك الغرض، لم تُستخدم إلا ضد المدنيين السوريين ومُدنهم وأشكال حياتهم في المحصلة. وقبلها كلها، هل للسوريين المنهكون بعد سنوات طويلة من الحروب والصراعات والشروخ الأهلية أن يحلوا أيا من قضاياهم بلغة السلاح والعسكرة بعد اليوم.
كل تلك المحددات ستتوقف على تعريف الكيان السوري نفسه، الذي للسوريين أن يتفقوا عليه، لو استطاعوا. فالقائمون على سلطات البلاد راهنا، المحتكرين لكل مؤسساتها وثرواتها ومواثيقها، يطلقون تطمينات ويشبكون علاقات مع كل دول المنطقة والعالم، لكنهم يستنكفون تماما عن تطمين السوريين أنفسهم، ولو بجملة واحدة: "ستكون سوريا دولة مدنية ديمقراطية". هذه الجملة البسيطة التي بقيت غائبة عن سوريا طوال عقودها السابقة، وعلى بساطتها، وبسبب غيابها، كانت مصدرا لكل مآسيها.