يوم التأسيس: اقتصاد السعودية... أصالة تتجدد وحداثة تقودها إرادة تصنع التاريخ

نمو مستدام على طريق "رؤية 2030" وسياسة التنويع تمضي ولا تعوقها تقلبات النفط

AL_MAJALLA
AL_MAJALLA

يوم التأسيس: اقتصاد السعودية... أصالة تتجدد وحداثة تقودها إرادة تصنع التاريخ

عند ذكر المملكة العربية السعودية قبل بضع سنوات، كانت الكعبة المشرفة أول ما يتبادر إلى الذهن، ومن ثم برج المملكة الشهير في الرياض، والمنشآت النفطية ذات الكثبان الرملية الضخمة في خلفيتها وناقلات النفط العملاقة وهي تجوب البحار.

أما اليوم، فتضاف إلى المشهد الكثير من المشاهد والصور الجديدة، كالمعالم الأثرية الخلابة لمدينة العلا، وكريستيانو رونالدو يلعب في "نادي النصر"، والمنتجعات المطلة على المياه الفيروزية للبحر الأحمر، وموقع مدينة "نيوم" الحديثة، والأخبار حول استضافة المملكة معرض "إكسبو 2030" وكأس العالم 2034.

كلمتان تلخصان هذا التطور: "رؤية 2030"، خطة ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان، الطموحة لتنمية اقتصاد مستدام ومتنوع بعيدا من النفط، الثروة التي اكتشفت في المنطقة الشرقية عام 1938، والتي بفضل حسن استغلالها أضحت المملكة أكبر اقتصاد عربي ومن بين الاقتصادات الـ20 الكبرى في العالم.

تقدر قيمة المشاريع العقارية والبنى التحتية التي أعلن عنها خلال السنوات الثماني الماضية بأكثر من 1,3 تريليون دولار

وكالة "بلومبيرغ"

تعتبر الخطة الجاري تنفيذها ضخمة بكل المعايير، حيث قدرت وكالة "بلومبيرغ" قيمة المشاريع العقارية والبنى التحتية التي تم إعلانها خلال السنوات الثماني المنصرمة بأكثر من 1,3 تريليون دولار. وتؤكد الحكومة السعودية التزامها الراسخ المضي قدما في إنجازها، بغض النظر عن تقلبات أسعار النفط التي تؤثر بشكل كبير على دخلها.

للمزيد إقرأ أيضا: ديناميكية الاقتصاد السعودي تحت المجهر

يعتبر الاقتصادي السعودي البارز والعضو السابق في مجلس الشورى الدكتور إحسان بو حليقة، أن "رؤية 2030 ليست مجرد مشروع تنويع اقتصادي، هي مسودة لحياة عصرية، مزدهرة من خلال تحفيز مساهمة المجتمع ككل في العملية الاقتصادية".

غيتي
طائرة مقاتلة سعودية في معرض الطيران، في منطقة الثمامة، 12 مارس 2019

من أبرز الأمثلة على ذلك، سلسلة الإصلاحات الهادفة الى تمكين المرأة، من رفع حظر القيادة ووصاية الرجال عليهن، ومنح المرأة قدرا أكبر من الاستقلالية. وبحسب بو حليقة، هذه الإجراءات "قد وسعت دور المرأة الاجتماعي والاقتصادي، وشملتها في الحراك الطموح لتشارك على نحو كامل في تحقيق مستهدفات 'رؤية المملكة 2030'، مشاركة نوعية وازنة ساهمت في تعزيز مكانها في العملية الإنتاجية وتحفيز النمو الاقتصادي من خلال زيادة الاستثمارات والإنفاق الاستهلاكي، وأدت إلى مزيد من الاستقرار والعدالة الاجتماعية".

مُنحت عقود لمشاريع عقارية وأخرى للبنى التحتية بقيمة تقدر بنحو 164 مليار دولار منذ عام 2016، منها 35 مليار دولار لتلك التي يجري تنفيذها في الرياض

وكالة "بلومبيرغ"

وأكد الاقتصادي السعودي أن تبني الرقمنة على مستوى الخدمات الحكومية كافة هو أيضا من العوامل الأساس المساعدة في تعبئة طاقات المجتمع في عملية التحول الاقتصادي، حيث أنه ييسر حصول أهالي المناطق النائية على الخدمات ويسهل مشاركتهم في الاقتصاد، ويعزز الاندماج الاجتماعي، ويحسن أداء القطاع العام.  

البناء في وطن بحجم قارة

يعتبر تقدم الأداء الحكومي عاملا أساسيا للتطور الاقتصادي كونه يرتكز بشكل كبير على تنفيذ مشاريع في بلد مترامي الأطراف، تعادل مساحته مجموع مساحات دول أوروبا الغربية - من إيطاليا إلى إيرلندا، ومن البرتغال إلى ألمانيا. ووفقا لـ"بلومبيرغ"، مُنحت عقود لمشاريع عقارية وأخرى للبنى التحتية بقيمة تقدر بنحو 164 مليار دولار منذ عام 2016، منها 35 مليار دولار لتلك التي يجري تنفيذها في الرياض.

طيران الرياض
الرحلة التجريبية الأولى لطيران الرياض مصحوبة بسرب من الطائرات الحربية السعودية، سبتمبر 2023

ومن المتوقع أن تشهد العاصمة زيادة كبيرة في الطاقة الاستيعابية السكنية والسياحية، مع تشييد نحو 29 ألف غرفة فندقية جديدة، و4,6 ملايين متر مربع من المساحات المكتبية، و340 ألف وحدة سكنية جديدة بحلول العقد المقبل، بالإضافة الى مشروعين سياحيين أساسيين، هما بوابة الدرعية، وهي وجهة تاريخية وثقافية، والقدية، وهي مدينة ترفيهية.

تطوير النقل من "مترو الرياض" الى النقل الجوي

ويشكل "مترو الرياض"، الذي افتتحه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي الملك سلمان بن عبد العزيز، أحدث هذه الانجازات، وهو من أكبر مشاريع سكك الحديد المدنية في العالم، بطول إجمالي يبلغ 176 كيلومترا (109 أميال). ومن المفترض أن يليه هذا العام إطلاق شركة جديدة للنقل الجوي، "طيران الرياض"، الذي من شأنه أن يربط العاصمة بأكثر من 100 وجهة، باستخدام طائرات "بوينغ 787 دريملاينر" و"إيرباص A321 نيو".

تعتبر المملكة حاليا أكبر سوق للبناء في العالم، بالنظر إلى هذه المشاريع وإلى استعداداتها لاستضافة معرض "إكسبو الدولي 2030" و"كأس العالم" لكرة القدم 2034، اللذين يتوقع أن يجذبا ملايين الزوار

ويشهد الساحل الغربي أيضا تطورا كبيرا، حيث تم استثمار أكثر من 54 مليار دولار في ما لا يقل عن 17 مشروعا عملاقا، بما في ذلك "نيوم"، المدينة المستقبلية الواقعة على شمال ساحل البحر الأحمر.

وتعتبر المملكة حاليا أكبر سوق للبناء في العالم، بالنظر إلى هذه المشاريع وإلى استعداداتها لاستضافة معرض "إكسبو الدولي 2030" و"كأس العالم" لكرة القدم 2034، اللذين يتوقع أن يجذبا ملايين الزوار من الخارج. كذلك، شكل انتقال رونالدو إلى "نادي النصر" لكرة القدم في الرياض، في عام 2023، حدثا إعلاميا مدويا، عزز صورة المملكة السياحية والرياضية وقد يلهم العديد من المواهب الشابة قبيل استضافة "كأس العالم".

ديون منخفضة واحتياطيات مهمة

تمضي خطة التنويع الاقتصادي إلى الأمام على الرغم من تقلبات أسعار النفط، مدعومة بنمو القطاعات غير النفطية وبقدرة الحكومة على الاقتراض اليسير. ففي عام 2024، نمت القطاعات غير النفطية بنسبة 4,3 في المئة، في حين سجلت القطاعات النفطية انخفاضا بنسبة 4,5 في المئة، بسبب تدني أسعار النفط إلى نحو 70 دولارا للبرميل. وبشكل عام، نما الاقتصاد بنسبة 1,3 في المئة في عام 2024، وحقق في الربع الرابع من العام نفسه نموا بنسبة 4,4 في المئة، وهو الأعلى منذ عام 2022، عندما تخطت أسعار النفط 120 دولارا للبرميل.

إكسبو الرياض 2020
التصميم الأولي لـ"إكسبو الرياض" 2023

وقد أدى انخفاض أسعار النفط في العامين المنصرمين إلى عجز في الموازنة، الا أن الحكومة حافظت على التزامها استراتيجيا التنويع الاقتصادي الطويلة الأجل، مستفيدة من قدرتها على الاقتراض بتكلفة منخفضة نظرا الى انخفاض مستوى ديونها وارتفاع احتياطها من النقد الأجنبي وحجم الأصول المملوكة للدولة وصندوق الاستثمارات العامة السيادي.

تتمتع السعودية بوضع مالي قوي، وتحظى بتصنيف ائتماني مماثل للمملكة المتحدة، هو Aa3 بحسب تصنيف وكالة "موديز"

وتوقعت مونيكا مالك، كبيرة الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري، أن تكون لدى السعودية "قدرة كبيرة على التقدم في برنامج الاستثمار، وأن تسجل نموا قويا في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي".

تتمتع المملكة العربية السعودية بوضع مالي قوي، حيث تحظى بتصنيف ائتماني مماثل للمملكة المتحدة، هو Aa3 بحسب وكالة "موديز". وتقل نسبة دينها العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عن 30 في المئة، وهي الأدنى بين دول مجموعة العشرين، وأقل بكثير من نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة التي تقترب من 100 في المئة واليابان التي تتجاوز 200 في المئة.

.أ.ف.ب
حصن خيبر شمال السعودية، 12 ديسمبر 2022

ووفقا لمالك، توفر نسبة الاقتراض المتدنية، إلى جانب احتياطيات المملكة الكبيرة من النقد الأجنبي، "حيزا ماليا كبيرا" لبرامج الاستثمار. كما أن للبلاد قدرة كبيرة للحصول على التمويل من خلال الاكتتابات العامة الأولية، وبيع حصص في الشركات الحكومية والشركات المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة. ويعتبر صندوق الاستثمارات العامة المؤسسة المكلفة القيام باستثمارات استراتيجية في مختلف القطاعات محليا ودوليا، ويلعب دورا محوريا في تنفيذ "رؤية 2030". على سبيل المثل، الصندوق مستثمر رئيس في "لوسيد موتورز" الأميركية، التي افتتحت مصنعا لها في السعودية عام 2023، وهو أول مصنع للشركة خارج الولايات المتحدة، لإنتاج سيارات كهربائية متطورة للسوق السعودي وللتصدير إلى دول أخرى.

استراتيجيا شاملة للثروة المعدنية

تتضمن "رؤية 2030" استراتيجيا شاملة لتطوير قطاعات الطاقة النظيفة والمتجددة بالارتكاز على صناعة التعدين المتقدمة لديها. فقد اكتشفت "أرامكو" السعودية، عملاق الطاقة العالمي، في حقول النفط والغاز رواسب واعدة من الليثيوم، وهو مكون رئيس في بطاريات السيارات الكهربائية وأجهزة الكومبيوتر المحمولة والهواتف الذكية، وتتوقع البدء في إنتاج هذه المادة على نحو تجاري في عام 2027.

تنفذ شركة "معادن" المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، خطة استثمارية بقيمة 12 مليار دولار تشمل توسعات كبيرة في إنتاجها من الذهب والفوسفات والألمنيوم وفي التنقيب عن المزيد من النحاس

وأكد وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان في يناير/كانون الثاني الماضي أن استراتيجيا التعدين السعودية تهدف إلى الاستفادة المالية من جميع المعادن المتوفرة في أراضيها، بما في ذلك اليورانيوم الذي يمكن تكريره جزئيا ليصبح ما يسمى بالكعكة الصفراء، تستخدم في مفاعلات الطاقة النووية. وتمتلك السعودية مناجم من المعادن الثمينة (الذهب والفضة) والمعادن الأساسية (الرصاص والنحاس والزنك) والمعادن الصناعية (الفوسفات والبوكسيت وخام الحديد) والأتربة النادرة ذات الأهمية الحيوية لقطاع التكنولوجيا. وتنفذ شركة "معادن" المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، خطة استثمارية بقيمة 12 مليار دولار تشمل توسعات كبيرة في إنتاجها من الذهب والفوسفات والألمنيوم وفي التنقيب عن المزيد من النحاس.

تحديات كبيرة

تواجه الخطة السعودية الطموحة تحديات كبيرة من حيث اضطرابات سلاسل التوريد العالمية ونقص العمالة وتصاعد التكاليف، مما قد يعيق قطاع البناء والتشييد بشكل خاص وقد يؤثر أيضا على تنمية السياحة. فالمملكة تستهدف جذب 150 مليون سائح سنويا من الخارج بحلول عام 2030 بعد أن حققت مستهدف الـ100 مليون سائح السابق في نهاية عام 2023. ولتحقيق ذلك، تعمل الحكومة بنشاط على جذب استثمارات من القطاع الخاص المحلي والأجنبي، بما يقدر بنحو 110 مليارات دولار.

shutterstock
مركز الملك عبد الله المالي في وسط العاصمة الرياض، خلال احتفالات اليوم الوطني، 23 سبتمبر 2021

خطت السعودية نهاية يناير/كانون الثاني خطوة كبيرة في هذا الاتجاه عندما سمحت للأجانب بالاستثمار في الشركات المساهمة التي تمتلك عقارات في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بنسب لا تتعدى 49 في المئة. تبقى الملكية العقارية المباشرة في المدن المقدسة محظورة لغير المسلمين، إلا أن هذا الإجراء يفتح طريقا استثماريا جديدا في سوق يرتفع الطلب عليه باستمرار.

ويقول الاقتصادي بو حليقة إن المملكة قد "تبنت توجها جديدا من حيث الانفتاح على العالم والترحيب بالسياح والمستثمرين والمواهب العلمية". ويضيف: "قبل انطلاق الرؤية لم يكن قدوم السياح إلى المملكة يسيرا لتعدد الاجراءات ذات الصلة بالحصول على تأشيرة وسهولة التنقل والإقامة ومحدودية المنتجات السياحية والفجوات في تجربة السائح. أما الملموس حاليا، ففي كل موقع هناك لافتة ترحيبية، حقيقة ومجازا، تقول: أهلا وسهلا بالزائرين".

font change

مقالات ذات صلة