روائيات يمنيات يسردن المتغيرات المحلية في العقود الأخيرة

أعمال تنشغل بالإشكاليات الاجتماعية

Mohammed HUWAIS / AFP
Mohammed HUWAIS / AFP
بائع يتحدث مع يمنيات في معرض قهوة بصنعاء

روائيات يمنيات يسردن المتغيرات المحلية في العقود الأخيرة

تنشغل الروائيات اليمنيات بالإشكاليات الاجتماعية العامة أكثر من انشغالهن بما هو ذاتي أو وجودي يتعلّق بحيواتهن وأسئلتهن الخاصة. وإذا ما وُجدت هواجس خاصة، فإنها تظل غير بعيدة عن الهاجس العام. فقارئ روايات سهير علوي وفكرية شحرة وسهير السمان يخرج بهذا الانطباع من القراءة الأولى، وهو أمر لافت إذا ما عرفنا أن الكاتبات الثلاث يعشن خارج اليمن.

في روايتها الأولى، "جنازة واحدة لموت كثير"، الصادرة حديثا عن دار "المصرية اللبنانية" في القاهرة، تسرد الروائية سهير السمان، عبر شخصية الرواية الرئيسة، جانبا من التحولات التي شهدتها اليمن منذ قيام الوحدة اليمنية في 1990 حتى وقتنا هذا. فمع إعلان الوحدة يجيء ابن عمة الراوية من عدن إلى صنعاء، وتتعرّف إليه بعدما كانت الصور والمراسلات الوسيلة الوحيدة للتواصل بين العائلة الموزعة على جنوب اليمن وشماله. فتربط وصوله إلى صنعاء، وسط همسات صديقاتها اللواتي يرقبنه معها من بعيد، بمشهد خروج معظم الناس "لاستقبال الموكب الرئاسي القادم من الجنوب بعد اتفاق إعلان الوحدة "، وكيف كانت تترقب مع معلمتها مرور الموكب الرئاسي ورؤية يد رئيس الجمهورية الملوحة للجماهير. إلا أن الرواية لا تتخذ السرد التصاعدي أسلوبا لحبكتها، إذ تبدأ من خبر وفاة ابن العمة الذي كان أصبح زوجا للساردة في الرواية، بل وصار منفصلا عنها بعد طلاقهما.

على إثر هذه الوفاة، تتلقى الشخصية الرئيسة التعازي من صديقاتها وأبناء حارتها بحكم أنه من أقربائها، فتقرر الذهاب مع أخويها لمرافقة الجثمان إلى عدن تلبية لرغبة أمه بأن يدفن هناك. وفي الطريق المليئة بالحواجز الأمنية والنقاط العسكرية تستذكر الساردة علاقتها بالمتوفي خلال العقود التي عاشاها معا في ظل التغيرات الاجتماعية. فتنتقل من زمن إلى آخر وهي تراقب الجثة، في طريقة سردية عرفناها من قبل منذ وليم فوكنر حتى خالد خليفة. في هذه التداعيات نتعرّف الى الأطفال الذين صاروا يلتحقون بالميليشيات وجبهات الحرب بدلا من المدارس والتعلم. يقولون إن "البندقية أشرف من القلم" ويرددون الشعارات التي تدعو الى الموت والملصقة على كل جدران المدينة والنقاط المرورية، حيث الجنود القبليون الذين يقومون بتفتيش الهواتف النقالة بحثا عن أي صور أو تسجيلات فيديو أو منشورات تعارض الميليشيا وزعيمها أو تنتقد نهجها.

مرافقة جثة

لا تكتفي سهير السمان في روايتها بتتبع إشكاليات نشوء هذه الميليشيات وتسلطها بعد الانقلاب على مؤسسات الدولة، بل تعود بنا عبر بطلتها الساردة إلى تحرك حزب ديني نشط مع الوحدة اليمنية، في رعاية الحزب الحاكم، ووجد في العائدين إلى اليمن أثناء حرب الخليج فرصة لاستقطاب المزيد من الأعضاء إلى صفوفه. وقد لوحظ أن القادمين من المهجر اختلفوا عن سكان الحارة بآرائهم الدينية المتشددة وبملابس النساء التي تغطي كل تفاصيل الجسد، وهو حال سنجده أكثر تفصيلا في رواية "بالألوان الرمادية" لسهير علوي.

تسرد سهير السمان، عبر شخصية الرواية الرئيسة، جانبا من التحولات التي شهدتها اليمن منذ قيام الوحدة اليمنية في 1990 حتى وقتنا هذا

مع هذا، ليست السياسة، ولا المعلومات التقريرية التي تبدو أحيانا زائدة في الرواية، هي ما سيثير اهتمام القارئ بهذه الرواية، وإنما تلك الانتقالات الفنية التي تجمع بين أسلوب الأنا في السرد والمشاهد الحوارية، إلى جانب مخاطبة الجثة التي ترافقها في رحلتها النهائية "أهذا أنت حقا؟ جسد لا حياة فيه؟ يخيّل إليّ أنك ستنفض عنك هذا البياض البغيض وتجلس إلى جانبي ولو قليلا مستمتعا بهذه العتمة المقلقة. هل تشعر بهذه الطريق الممتلئة بالغيض؟ هل تتذكر حين قطعتها قبل خمس وعشرين سنة بعد أن أزيلت عنها النقاط؟ ها هي تعود مرة أخرى منذرة بقادم سيئ".

غلاف رواية جنازة واحدة لموت كثير للكاتبة اليمنية سهير السمان

وإذ لا يستكشف القارئ الكثير من حياة الزوجين المنفصلين في الرواية، فإنه سيجد فيها شخصيات أخرى تعيش تجاربها الخاصة وتكتشف الحياة من زوايا مختلفة. فهناك من ترى أن "اليتم قد يكون نوعا من الحرية"، حيث يكون وجودنا في الحياة غير مشروط بأحد. وهناك من ينشغلن بأيامهن المعتادة غير عابئات بكل ما يجري حولهن، وإن كن لا يستطعن، في الأخير، الفكاك من آثار الأحداث المحيطة ومطالبة المجتمع منهن بالتقيد بشروط عامة في اللبس والسلوك والحياة.

لحى زهرية

رواية الكاتبة اليمنية فكرية شحرة الخامسة "لِحى زهرية"، الصادرة حديثا عن دار "جدل" في السعودية والكويت، تبدأ بمشهد حميمي لافت، إذ تطلب أمّ من ابنها وطفلتها أن يذهبا إلى الوادي ليرميا ملابس أخيهما الصغير، الذي توفي، في مجرى السيل، وهناك تشم الطفلة رائحة الملابس المكسوة بالأعشاب العطرية قبل أن تناوله إياها ليرميها، لكنها حين تصل إلى القطعة الأخيرة تتمنع عن إعطائه إياها إلا بعد حيلة.

AHMAD AL-BASHA / AFP
امرأة يمنية تعمل في سوق بمدينة تعز، ثالث أكبر مدن اليمن

تسرد الرواية قصة الطبيبة النفسية علياء، التي عشقت البحث في الذات الإنسانية وتباهت بقدرتها على استكشاف مسببات المشاكل وربطها بالأحوال العامة. لكنها تصل إلى حال متعب يتحتم عليها أن تضع نفسها، هي أيضا، على طاولة البوح النفسي، وهو ما نقرأه في 140 صفحة. هذا البوح، لا يغوص كثيرا في شخصيتها بقدر ما يغوص في مشكلات المجتمع اليمني، الذي واجه العديد من العواصف السياسية والاجتماعية خلال العقد الماضي. وبين تشخيصها للآخرين وتشخيصها لذاتها، هي الأرملة التي لديها ثلاثة أولاد (ص15) [تذكر الساردة في موضع آخر من الرواية أن لديها طفلين ص32]، سنكتشف جوانب من هذه القصة "غالبا لا أجد صعوبة في اختراق مجال من أهتم بهم. وإن كنتُ لا أستطيع السماح لأي كان فعل ذلك معي. أجهد كثيرا لحجب أعماقي لأني أدرك كم هو صعب انتزاع شوكة من هذه الأعماق. أو لعلي كنت أظن أني استطعت ذلك". فعادتها اليومية التي تقضيها بين العيادة ومراجعة أسرارها على سرير النوم يعصف بها رجل أربعيني وسيم يجذبها من أول وهلة، لتتسع الحكاية ويطول البوح. وفي النهاية، تكتشف علاقة انفصامية تظهر عبر شخصيتين، تتسلل إحداهما، باسم امرأة، إلى مجموعات النساء السرية في مواقع التواصل الاجتماعي. لكن هذا التواصل لا يأخذ مساحته الكافية مقارنة بالإشكاليات العامة، فهذا الرجل كان من بين عدد من السياسيين الذين استمعوا إلى تقرير أعدته حول الآثار النفسية للحرب، وجاء ليناقشها حوله. وخلال هذا النقاش، كما في غيره، تعلو نبرة الهجاء للحالة السياسية و"السياسيين المحنطين"، الذين يديرون البلد عبر تطبيق "واتساب".

قصص مؤثرة تعكس معاناة اليمنيين خلال الحرب، مثل محاولة أمّ قتل ابنها، أو رجل يقتل زوجته وأطفاله الأربعة قبل أن ينتحر

يلاحظ أن الكاتبة، رغم منحى روايتها النفسي من خلال اختيارها شخصية رئيسة تعمل في هذا المجال، لا تغوص كثيرا في الجوانب الذاتية لهذه الشخصية. فهي إذ تشير إلى حالتها النفسية المأزومة بسبب وحدتها كأرملة ومكابدتها في تربية أطفالها، إلا أنها لا تذهب بعيدا في البوح عن حياة هذه الشخصية الخاصة، وإن بدت في حالات نادرة في وصفها للرجال الذين يجذبونها بأشكالهم مثل طلال وسليم. ونجدها عوضا من ذلك تغوص في الإشكاليات الاجتماعية العامة المعروفة لدى اليمنيين ويعايشونها يوميا، كما فعلت سهير السمان في روايتها "جنازة واحدة لموت كثير". فهناك قصص مؤثرة تعكس معاناة اليمنيين خلال الحرب، مثل محاولة أمّ قتل ابنها، أو رجل يقتل زوجته وأطفاله الأربعة قبل أن ينتحر. إضافة إلى الإشكاليات التي ظهرت مع انتشار الوسائط الاجتماعية، وصارت علياء تتلقاها يوميا في بريدها، أو تلك السائدة في الواقع كقمع الأطفال، ومكانة المرأة "في أرض قبائل البدو الأشاوس"، حيث تعاني من القسوة والعنف، سواء من الأسرة أو من سلطات الميليشيات، مع عدم إغفال ردود فعلها العنيفة هي الأخرى.

غلاف رواية لحى زهرية للكاتبة اليمنية فكرية شحرة

 وفي كل الأحوال، تقدم الرواية آراء محكمة من خلال شخصياتها، كالقول بضرب المرأة و"المرأة عدوة المرأة" و"الرجل الشرقي الذي يقلل من قيمة المرأة". أو من خلال إعادة استخدام المقولات الشائعة في المجتمع، كاعتبار المرأة فضولية بطبيعتها، حيث تسأل إحداهن عن علاج نفسي للفضول "تعرفين أن الفضول يعد جزءا من شخصيتنا، نحن النساء، هل رأيت امرأة لا يقتلها الفضول؟".

بالألوان الرمادية

تبدو رواية "بالألوان الرمادية" للروائية اليمنية سهير علوي، الصادرة عن دار "أبجد" في بغداد، تشخيصا لأصحاب لحى آخرين طغوا، في فترة زمنية، على معظم الحياة الاجتماعية في اليمن خلال تسعينات القرن العشرين. فهذه الرواية تتميز بأنها تسرد قصة أشخاص محددين في زمن ومكان معيّنين. حيث تعود بنا إلى ذلك الزمن الذي اكتظت فيه مناطق يمنية بالعائدين بسبب حرب الخليج. فتتناول الجوانب المتغيرة التي حدثت في المجتمع نتيجة هذه العودة الكثيفة، التي تزامنت مع نشوء  حزب ديني متشدد يمارس نشاطه المعلن في المجتمع. وتتكشف هذه المتغيرات من خلال ما كان يُرسم ويُكتب على جدران الحي، فتقرأ آيات قرآنية وكلمات وعظ وإرشاد، إلى جانب عبارات حب وغزل ورسومات لقلوب تحتوي على أسماء بعض العشاق "كانت الجدران عبارة عن فضائح موثقة ممهورة بتوقيعات".

الرواية تنتهي بخطاب هجائي للجماعات المتطرفة يكشف بعض الجوانب الشاذة المرتبطة بهذه الجماعات

يلاحظ بداية في هذه الرواية أنها تبتعد عن أجواء الروايات الثلاث الأخرى للكاتبة، التي عادة ما كانت تدور في فضاءات رومنسية. ففي هذه الرواية، نجد منحى واقعيا في السرد يُظهر الأحوال المتبدلة في حارة يمنية تواجه المتغيرات التي تؤثر في كل جوانب الحياة، ومنها العلاقات الاجتماعية بين النساء والرجال، وبين شيوخ الدين والمجتمع. تكشف الرواية عن علاقات مأسوية تستهدف النيل من الأطفال الذين يجدون أنفسهم وقد أصبحوا لعبة بيد رجال قساة يستغلونهم لملذاتهم.

MOHAMMED HUWAIS / AFP
امرأة يمنية ترفع العلم الوطني خلال احتجاج في صنعاء

لا تغيب الاختلافات المذهبية والسياسية والجهوية (المناطقية) في شخصيات الرواية، فإلى جانب هؤلاء المتطرفين، هناك من يسمون بفئة "السادة"، الذين يفضلون حكام الزمن الغابر على حكام الزمن الحاضر، ويواصلون تذمرهم من المتغيرات "تذكرتُ كلام جدتي وتأكيدها على أن الثورة لم تنجب لنا سوى أمثال هذه العاهات". وهناك من يلجأ إلى "أولياء الله الصالحين" والمشعوذين لينقذوهم من الأمراض. ويبقى سلوك الجماعات الإسلامية طاغيا على معظم الممارسات، حيث تنتشر التوترات بين أفرادها "حتى الإخوة صاروا أعداء يتناوبون العداء فيما بينهم بسبب توجه كلّ فرد إلى جماعة معادية للأخرى". ففي حارة واحدة، صارت هناك ثلاث جماعات إسلامية تختلف حتى في طريقة قراءة القرآن وتؤثر في سلوكيات الفتيان والفتيات تجاه آبائهم.

غلاف رواية بالألوان الرمادية للكاتبة سهير علوي

ومن خلال خيط سردي يجمع بين الجدة فتون وحفيدتها عزة، تدور معظم قصص نساء الحارة ورجالها: عادل، أشواقة/ أسماء، سعود الجبلية، مهند وأمه، نسمة، أم عماد، أمينة، رويدا، خاصة أولئك الذين يعيشون المراوغة المخادعة كجزء من الحياة، أو الذين يندمجون مع الخطابات السياسية والدينية ويستغلونها لتقوية مراكزهم الاجتماعية وتلبية رغباتهم الخاصة. هناك عطش للحب، لكن الخوف منه أكثر، ولهذا تأتي أخبار الزواج والطلاق والخيانات، ومعها جراح لا تشفى "مرت عشر سنوات منذ تزوجنا، عشر سنوات تخلو من الفرح والسرور، عشر عجاف جعل هذا التافه مني امرأة فارغة، حزينة، بائسة لا تقوى على شيء، لا تثق بنفسها ولا بتصرفاتها".

الرواية تنتهي بخطاب هجائي للجماعات المتطرفة، حيث يعلو صوت عزة، بعد زواجها بأحد أفرادها، ليكشف بعض الجوانب الشاذة المرتبطة بهذه الجماعات، كل ذلك في خطاب مغلق لا يقبل الاحتمالات المفتوحة.

font change

مقالات ذات صلة