قنبلة بحجم بالون... لوحات رسمها أطفال غزيون خلال الحرب

لوحات تروي المعاناة ومحاولات التغلب على قسوة الواقع

REUTERS/Ramadan Abed
REUTERS/Ramadan Abed
أطفال فلسطينيون يشاركون في جلسة فنية مع الرسامة ميساء يوسف وسط أنقاض مرسمها في دير البلح

قنبلة بحجم بالون... لوحات رسمها أطفال غزيون خلال الحرب

تلعب الفنون في حياة الطفل دورا بارزا في محاكاة المأساة، والتعامل مع الندوب التي تخلفها الحروب والأزمات، وتساهم في تخفيف وطأة الألم، أو التحايل على الواقع، ليصير أكثر مقبولية.

في غزة انتهكت حرب الإبادة، أكثر المساحات براءة داخل عالم الطفل، ولم تدع القنابل مساحة آمنة له، بل أحالتها إلى مختبر للجرائم والتنكيل وهشمت الأنامل الصغيرة، التي لربما لا تفهم مخططات العسكر البغيضة، ووحشيتهم في سفك الدماء.

تحولت حياة أطفال غزة إلى عالم من الخوف والألم والترهيب، بما تعرضوا له من مشاهد قصف ودمار وتهجير قسري، وصاروا شهودا على مقتل أهلهم. وتفيد بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بأن 18 ألف طفل استشهدوا خلال الحرب، بالإضافة إلى 27 ألفا آخرين فقدوا الأب أو الأم أو كليهما.

مبادرات

على مدار الحرب، نشطت مبادرات فنية مع الأطفال، تبنتها مؤسسات محلية ودولية في وقت تتزايد الضغوط النفسية على الأطفال الناجين من القصف. فعدد كبير من الأطفال، انتشل من تحت الأنقاض، ومنهم من تعرض لبتر أحد أطرافه، أو احتراق جلده. وتعرض آخرون كثر لمشاهد مروعة، خلال مرورهم على حاجز نتساريم، وعلى طول طريق الرشيد غرب غزة.

ترسم أماني حجو، 11 عاما، تجربة شخصية مع اللعب وسط الحرب، تقدم خلالها التداخل ما بين الأمان والخوف، والتناقضات الإشكالية بين الحياة والموت

خلال ورش الرسم، ضمن مشروع "هنا نبقى"، الذي أقامته "مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي" بغزة، أنتج أطفال مخيمات النزوح لوحات فنية، عبروا فيها عن مشاعرهم باللون والريشة. وقد حصلت "المجلة" على بعض تلك اللوحات، التي تشكل شهادات بصرية على ضراوة الحرب التي مورست على أطفال غزة وأهلهم.

يفهم الطفل الحياة بالشكل وحدوده، باللعب والتجريب والاكتشاف. وحين يجلس بجسده الطري فوق بالون بلاستيكي، فإنه يجرب الطيران، أو تمرير التوازن إلى جسده. تلك لحظات يبحث من خلالها عن الأمان والطمأنينة، بعيدا من صخب العالم الكبير.

لوحة الطفلة أماني حجو

ترسم أماني حجو، 11 عاما، تجربة شخصية مع اللعب وسط الحرب، تقدم خلالها التداخل ما بين الأمان والخوف، والتناقضات الإشكالية بين الحياة والموت. من خلال الدوائر، والكرات بالرسم، تعبر حجو عن متاهتها، وعدم وضوح الطريق خلال الحرب.

في الرسم قنبلة تسقط من السماء، بحجم البالون البلاستيكي الذي تجلس عليه الطفلة. إنها معايشة شخصية مع المجهول الذي لا تراه، وتجريب لخلق سبيل للطيران، بحجم الرعب الذي تشعر به خلال الحرب. هكذا يفهم الطفل الحياة، ويقسمها أكبر وأصغر ومساو. وفي لحظة تتساوى الأحلام والمآسي، بل يصبح التمييز بينهما صعبا.

على يسار اللوحة في الأسفل، زرعت حجو وردة صغيرة، إنه الهامش المضيء الذي رأته خلال الحرب، هو صغير لكنه يبث بعض الأمل في العالم، برغم كل ما يحدث، ويمنح إضاءة للطريق المعتم.

اللونان الأحمر الداكن والأسود، شكّلا تعبيرا نفسيا عميقا عن الخوف والحزن، أخرجته الطفلة دون تجميل، لتجسيد حالتها الداخلية.

لوحة الطفلة أريج عاشور

كلب ينهش جثة

لوحة أخرى للطفلة أريج عاشور، 12 عاما، تستعرض خلالها تفاصيل مرهقة تعكس حجم الألم والخراب. ترصد عينها كلبا ينهش جثة طفل. إنه مشهد واقعي، شاهدناه عبر فيديوهات مصورة من غزة. تخزّن الطفلة هذه المشاهد، وتنقلها بكل قسوتها، وهذا ما لا يمكن تخيّل أنه لا يترك فيها آثارا نفسية فادحة.

لربما يستطيع الفن في مثل هذه الحالة أن يعمل كمنظار معدة، يكشف عن العلة، لكنه لا يستأصلها. في اللوحة أيضا، جندي إسرائيلي، يلوح ببندقيته، ويعارك طفلا لا يعرف كيف يستخدم السلاح، أو حتى معنى الموت الذي يدفعه إليه دون رحمة.

يتلقى الطفل التهجير بالصدمة، ويراقب دونما حول ولا قوة، متخيلا فعل المستحيل للنجاة بأحبائه

كما تزدحم في لوحة عاشور تفاصيل التدمير والتخريب، كتعبير عن حالة الفوضى والضجيج الذي عاشه الأطفال خلال الحرب. لقد سرقت إسرائيل ذكريات الغزيين، وألقت بمصائرهم الى المجهول، من خلال تهجيرهم من منازلهم. يتلقى الطفل التهجير بالصدمة، ويراقب دونما حول ولا قوة، متخيلا فعل المستحيل للنجاة بأحبائه ومقتنياته وألعابه.

حصار وخطر

في لوحة أخرى، رسمت الطفلة  حنين الحرازين، 11 عاما، لوحتها، بطريقة ذكية، مدججة بالبراءة. فقد حاولت النجاة بكل ما تملك، حين حملت بيتها في حقيبة صغيرة. هنا صنع الخيال لها معجزة، وحلّ لها عقدة لم يستطع الكبار التعاطي معها. لكن الجانب المؤلم من اللوحة، أن أفكارها للنجاة، هي مجرد أمنيات.

REUTERS/Ramadan Abed
أطفال فلسطينيون يرسمون خلال جلسة فنية في مرسم مدمّر للفنانة ميساء يوسف في دير البلح

جرّبت الحرازين أن تهرب بعائلتها من الموت والدمار. وكانت قدماها  -في مخيلتها- أقوى وأكثر ثباتا، مما مكنها من تخيل حمل ثقل البيت، وثقل أحلامها وذكرياتها. فيما ترسم الطفلة ديما أبو ستة، 11 عاما، لوحة هزلية، تسخر خلالها من العالم، باللعب أيضا.

إنها لعبة كبار هذه المرة، تتساءل فيها: هل تستطيع عصا البلياردو أن تقتلني وتدمر منزلي، وتمسح هويتي؟ وتجيب ساخرة: نعم، ضعها في يد الجندي الإسرائيلي.

تبدو حياة الفلسطينيين، حسب مخيلة أبو ستة، أدوات تسلية بيد الجيش الإسرائيلي، كما رأته تماما، وهو ما شاهدناه فعلا على منصة "تيك توك"، لقد تسلى الجنود الإسرائيليين بدماء الفلسطينيين، وهجروهم من بيوتهم على مرأى العالم.

لوحة ديمة أبو ستة

في اللوحة استعراض ساخر أيضا، لمخرجات الجنود. فنجد صورتين على الحائط توضحان منجزات إسرائيل خلال حرب الإبادة، أطفال بأقدام مبتورة، وآخرون يحملون ألعابهم ومقتنياتهم، ذاهبين بها إلى المجهول.

معظم الأطفال بدوا مصدومين بما مروا به خلال الحرب، ومعظمهم بكى وهو يرسم لوحته، أو ظل صامتا مصدوما

لميس الشريف

في مشهد آخر تعكس الطفلة روان النباهين، 12 عاما، معاناة النازحين على ضفاف البحر، حيث يهيج الموج ويبتلع خيامهم. فتصارع الخيمة بكل مقتنياتها، دوامات الموج، وتختفي في البحر. الشكل الدائري للموجة، يعكس المتاهة التي عاشها الأطفال خلال الحرب، والإحاطة الكاملة للموجة بالخيمة، تدلل على فراغ الحلول، والمحاصرة بالخطر من كل جانب.

تقول لوحة النباهين بطريقة فلسفية: لقد أصبح الغرق مصير الفلسطينيين وحدهم. فهم يواجهون فيضان الرصاص من جانب، وفيضان الطبيعة من جانب آخر، دون مغيث.

لوحة الطفلة روان النباهين

بكاء وتوقف عن الرسم

ترى الفنانة لميس الشريف، منظمة ورشات الفنون مع الأطفال، أن هذه الأنشطة يمكنها إعادة شيء من دورة حياة الأطفال، عبر التفريغ النفسي. تنقول: "نبحث عن استعادة هوية فقدها الأطفال خلال الحرب، ويعمل الفن بشكل غير مباشر على العلاج والاستشفاء".

احتضن المجتمع المدني أطفال المخيمات، في ظل غياب العمل المؤسساتي الحكومي في غزة طيلة الحرب، وصارت تلك التجمعات هي الوسيلة الوحيدة للترفيه عن الأطفال: "عملنا بالفنون وفق خطة ممنهجة، وبذلنا كل جهدنا للوصول الى الأطفال الناجين من المجازر المروعة".

عن الورش تتحدث: "كان لدى الأطفال رغبة في الرسم وسرد قصصهم كتابة وشفهيا، ولقد بدا ذلك بالنسبة لهم أمرا ملحّا... واجهنا خلال العمل مواقف كارثية، فكان للأطفال مع الرسم، سرد لمواقف، وشهادات مفجعة عما رأوه، وجربوه خلال القصف والنزوح".

الفنانة لميس الشريف

تخبرنا الشريف متأثرة: "معظم الأطفال بدوا مصدومين بما مروا به خلال الحرب، ومعظمهم بكى وهو يرسم لوحته، أو ظل صامتا مصدوما، لقد توقف بعض الأطفال خلال الرسم، بينما كانت أيديهم ترتجف، ووجوههم يغلب عليها الشحوب. كانوا يفسرون ما حدث معهم بألم عظيم... أخبرتني طفلة، أنها لا أستطيع إكمال الرسم، مبينة أنها كلما تذكرت ما حدث خلال رحلة النزوح، شعرت بالمزيد من الرعب".

هذه المخرجات، هي قصص شخصية، من بين آلاف القصص، التي رُصدت خلال الحرب. وهؤلاء الأطفال عدد قليل ممن تمكن الناشطون والعاملون في المجتمع المدني، من الوصول إليهم. وهنالك المزيد من القصص التي محيت بالكامل، فقد قضى أصحابها من الأطفال، دون أن يتحدثوا عما شهدوه خلال الحرب، فمن يسرد عنهم قصصهم؟

font change