تعاني أوكرانيا هذه الأيام ما يصح تسميته "عارض الانسحاب الأميركي". فبعد اعتماد شبه كامل على المساعدات العسكرية والمالية والاستخبارية التي قدمتها الولايات المتحدة إلى كييف منذ اندلاع الحرب عليها في فبراير/شباط 2022، بات على الحكومة الأوكرانية البحث عن وسائل لتقليص الخسائر التي ستنجم عن تضاؤل أو توقف الدعم الذي قالت الإدارة الأميركية الجديدة إنها تريد من الشركاء الأوروبيين مساهمة أكبر فيه.
الظاهرة ليست جديدة. واللائحة التي لا تحتاج إلى بحث كثير وتشمل حلفاء الولايات المتحدة في فيتنام الجنوبية مثلا، عندما قررت واشنطن إنهاء تورطها العسكري المباشر هناك في أعقاب اتفاقيات باريس مع حكومة فيتنام الشمالية في 1973 في الوقت الذي كان الأميركيون يعرفون أن سلطة سايغون لن تستطيع الصمود بقدراتها الذاتية أمام التقدم الشمالي المدعوم من قوات "الفيتكونغ" الجنوبية.
أمر مشابه حصل في كردستان العراق عامي 1996 و1997 أثناء الحرب الأهلية الكردية بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني".
وسبق ذلك الخروج من لبنان في 1984 بعد شهور قليلة من تفجير مقر المارينز هناك، ما ترك السلطة اللبنانية التي كان يترأسها أمين الجميل في وضع حرج ومهد لخروج العاصمة بيروت عن سيطرة الجيش اللبناني.
أما الانسحاب الأميركي الأحدث فهو ذلك الذي شهدته أفغانستان في 2021 ومثّل ذروة في عمليات التخلص الأجنبي من الحلفاء المحليين وإلقائهم في أيدي خصومهم، مع استثناءات قليلة. في وقت هربت فيه السلطات المحلية الموالية للولايات المتحدة كيفما اتفق.
وقد جرى تكرار عبارة "ليس للدول أصدقاء أو أعداء دائمون. بل مصالح دائمة"، حتى الثمالة. وباتت من الحكم السائرة على وسائل "السوشيال ميديا" والبرامج الحوارية. لكن يتعين التدقيق هنا. ذلك أن الأسلوب الذي تتعامل به الإدارات الأميركية المختلفة وتعريفها لمصالحها والأسلوب الذي تقره لتحقيقها يتغير من عهد إلى آخر.
لم تتغير لائحة "المظالم الأوكرانية" منذ شن بوتين "العملية العسكرية الخاصة". فالأراضي التي احتلتها وضمتها روسيا ما زالت تحت سيطرة الجيش الروسي
جلي أن معطيات عدة تدخل في وصول أي إدارة أميركية إلى قرارها بالانسحاب وخذلان الحلفاء المفترضين. أهمها الوضع السياسي الداخلي في الولايات المتحدة الذي يتشكل بدوره من عوامل مختلفة كالخشية من سقوط عدد كبير من الضحايا الأميركيين ما يؤثر على فرص الإدارة في الفوز بالانتخابات التالية. ومنها الكلفة المالية والاعتقاد بأن دعم فريق ما في الحرب يضيع على واشنطن فرصا استثمارية ومالية، إضافة إلى إلحاق أضرار غير مبررة بمالية الولايات المتحدة.
أوكرانيا تقع ضمن الخانة الأخيرة. فالولايات المتحدة لم تخسر من الضحايا سوى عدد قليل من المتطوعين (أو "المرتزقة" بالتعبير الروسي) الذين توجهوا إلى أوكرانيا للقتال ضد الروس. في مقابل كلفة مالية تقول إدارة الرئيس ترمب إنها وصلت إلى 177 مليار دولار، وهو رقم يقول خبراء إنه إلى جانب وجود بعض المبالغة فيه، يتجاهل القائلون به أن القسم الأكبر منه ذهب إلى تحريك الصناعات العسكرية الأميركية...
مهما يكن من أمر، لم تتغير لائحة "المظالم الأوكرانية" منذ ذلك اليوم في فبراير/شباط 2022 عندما شن الرئيس فلاديمير بوتين "العملية العسكرية الخاصة". فالأراضي التي احتلتها وضمتها روسيا على الرغم من أنها تتشكل من الأراضي الأوكرانية المعترف بها دوليا، ما زالت تحت سيطرة الجيش الروسي. وما ترى كييف أنه تهديد جسيم لوجودها من قبل الكرملين وأنها مضطرة إلى طلب الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لبقائها كدولة ذات سيادة، قائم ومستمر.
في المقابل لم تتراجع موسكو عن مطالبها بضمانات لعدم شمول مظلة الحلف الأطلسي كييف التي يجب أن تشكل جزءا من الدرع الخارجي الحامي لروسيا.
الإدارة الحالية خطت أكثر من خطوة في اتجاه التخفف من أعباء الدعم لأوكرانيا منها اتصاله ببوتين ولقاء وزيري الخارجية الأميركي والروسي في الرياض
لم ينجح ترمب في "إنهاء الصراع في الساعات الأربع والعشرين الأولى من ولايته" كما تعهد أثناء حملته الانتخابية. ولا يغيب عن لبيب أن الأمور لا تورد بهذه السرعة وأن الكلام قيل في إطار إظهار "فاعليته" أمام ناخبيه. لكن الإدارة الحالية خطت أكثر من خطوة في اتجاه التخفف من أعباء الدعم لأوكرانيا منها اتصاله ببوتين ولقاء وزيري الخارجية الأميركي والروسي في الرياض.
كل ذلك أثار استياء الرئيس فولوديمير زيلينسكي الذي يحاول منذ أكثر من عام العثور على بدائل للمساندة الأميركية السخية. والأرجح أنه سينضم إلى لائحة الذين أصابهم عارض الانسحاب الأميركي.