خطة مصر لغزة... إعادة الإعمار دون تهجير

تنشغل القاهرة في الوقت الراهن بوضعها بين أيدي العرب

رويترز
رويترز
فلسطينيون يسيرون بين أنقاض المباني المدمرة خلال الهجوم الإسرائيلي، في مخيم جباليا للاجئين، شمال قطاع غزة في17 فبراير 2025

خطة مصر لغزة... إعادة الإعمار دون تهجير

تتوالى المعلومات حول خطة مصر الهادفة لإعادة إعمار قطاع غزة، والتي من المفترض أن تُقدَّم كبديل للخطة التي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

وأبرز ما يميز الخطة المصرية أنها ستعيد بناء الأراضي الفلسطينية التي دمرتها الحرب دون الحاجة إلى تهجير سكانها الذين يتجاوز عددهم 2.2 مليون نسمة. وهي في ذلك تختلف عن مخطط الرئيس الأميركي، الذي يسعى إلى التخلص من قطاع غزة باعتباره مصدرا للإزعاج الأمني لإسرائيل، من خلال طرد سكانه وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، وهو مشروع عقاري ضخم من شأنه، كما يتصور السيد ترمب، أن يغير وجه المنطقة بأكملها.

وتسعى مصر من خلال طرح هذه الخطة البديلة إلى إرسال رسالة مهمة مفادها: إعادة إعمار قطاع غزة ممكنة دون تهجير سكانها. والأهم أنها تجدد رفض القاهرة القاطع لفكرة استقبال لاجئين من قطاع غزة، التي ترى فيها تهديدا أمنيا لها، يعرض معاهدة السلام الموقعة مع إسرائيل عام 1979 للخطر، ويغير التركيبة السكانية لمصر، ويفتح الباب على مصراعيه أمام تصفية القضية الفلسطينية برمتها عبر القضاء على حلم إقامة دولة فلسطينية، ولا سيما في ظل الحملة الإسرائيلية الجارية حاليا في الضفة الغربية المحتلة.

البقاء في غزة

تَعِد الخطة المصرية بإعادة إعمار كامل قطاع غزة خلال خمس سنوات. وبحسب معلومات سربتها مصادر مصرية إلى وسائل إعلام عربية خلال الأيام الماضية، ستُنفَّذ الخطة بالتعاون بين 24 شركة مقاولات محلية وعالمية و18 مكتبا استشاريا محليا وعالميا.

يبدو أن الحركة التي تحكم قطاع غزة، لا تزال تسيطر على الأوضاع حتى بعد مرور 15 شهرا من الهجمات التي استهدفت أيضا بنيتها التحتية وأنفاقها ومقاتليها

وستمنح الخطة سكان غزة بصيص أمل من خلال تحويل أجزاء من القطاع، الذي لا تزيد مساحته على 360 كيلومترا مربعا، إلى مناطق آمنة وصالحة للعيش. وستتكفل الخطة بإنجاز ذلك خلال الأشهر الستة الأولى من خلال تأمين المنازل المتنقلة ومياه الشرب والكهرباء للسكان. 

ووفقا للخطة المصرية، ستُزال ملايين الأطنان من الأنقاض خلال الثمانية عشر شهرا المقبلة، بدءا من الجزء الجنوبي لقطاع غزة، مرورا بوسطه، وانتهاء بشماله، لتبدأ بعد ذلك عملية إعادة البناء الفعلية للقطاع، وسيستغرق الأمر السنوات الثلاث المتبقية حتى تُبعث الأراضي الفلسطينية كمكان صالح ليعيش فيها سكانها مرة أخرى.

القضايا الشائكة 

وفي ظل استمرار تدفق المعلومات حول الخطة المصرية، تثير هذه المعلومات عددا من الأسئلة الجادة. وقد يؤدي غياب الإجابات على هذه الأسئلة إلى إفشال المشروع بأكمله، وجعل خطة السيد ترمب تبرز باعتبارها السبيل العملي الوحيد للمضي قدما، وهو الأمر الذي قد يفتح الباب أمام عدد لا حصر له من الشكوك لدى الفلسطينيين، والمنطقة، والعلاقات بين مصر من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى. 

ومن أبرز التساؤلات التي أُثيرت حول الخطة هو مصدر تمويلها، ولا سيما أن إعادة إعمار قطاع غزة تتطلب عشرات المليارات من الدولارات. فقد أصبح معظم قطاع غزة في حالة دمار، وهناك مؤشرات واضحة على أن إسرائيل دمرت كل شيء فيه عمدا وبطريقة مدروسة مسبقا خلال هجماتها التي استمرت 15 شهرا على هذه الأراضي الفلسطينية. 

أ.ف.ب
شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية تمر عبر رفح في جنوب قطاع غزة بعد دخولها من معبر كرم أبو سالم في 18 فبراير 2025

وقد استهدفت الهجمات الإسرائيلية على نحو خاص كل ما من شأنه أن يجعل قطاع غزة منطقة صالحة للحياة: المنازل والمستشفيات والمدارس ومراكز ومكاتب الأمم المتحدة. ويتحدث سكان شمال قطاع غزة، الذين عادوا إلى منازلهم منذ دخول وقف إطلاق النار الحالي حيز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، عن غياب أبسط مقومات الحياة. بل إن بعضهم اضطر إلى العودة إلى جنوب غزة، الذي لا يزال يحتوي على بعض مقومات الحياة الضعيفة. 

ويخدم فقدان الأمل السائد في معظم أنحاء قطاع غزة المخططات الإسرائيلية الرامية إلى إتاحة خيار وحيد أمام سكان هذه المنطقة: ألا وهو المغادرة الطوعية. وهذا هو الرأي الذي تبناه الرئيس ترمب أيضا بعد أن أخبره المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، الذي زار قطاع غزة في 29 يناير/كانون الثاني، بأن هذه الأراضي الفلسطينية ليست سوى "ركام".

مستقبل يلفه الغموض 

أما السؤال الآخر الملحّ والأهم فيتعلق بوضع حركة "حماس" في الفترة المقبلة. ويبدو أن الحركة التي تحكم قطاع غزة، لا تزال تسيطر على الأوضاع حتى بعد مرور 15 شهرا من الهجمات التي استهدفت أيضا بنيتها التحتية وأنفاقها ومقاتليها. 

حتى اللحظة التي تتمكن فيها مصر من سد جميع الثغرات المتبقية في خطتها، من المرجح أن تواجه صعوبة في إقناع "حماس" بالتخلي عن حكم القطاع والانسحاب من المشهد

وتشير العروض العسكرية التي تنظمها الحركة بمناسبة عمليات الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين كل يوم سبت، ونوع الأسلحة الموجودة بحوزة مقاتليها، إلى أن تنظيم "حماس" ما يزال سليما ومعافى.

وربما لم تعد الحركة بالقوة نفسها التي كانت عليها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكن استمرار "حماس" في فرض سيطرتها على المشهد في قطاع غزة قد يُثني الممولين المحتملين لخطة إعادة الإعمار عن المساهمة، كما سيمنح إسرائيل مبررا لاستئناف القتال. 

وتحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ووزير خارجيته ماركو روبيو، مرارا في الأيام القليلة الماضية، عن رفضهم القاطع لسيطرة "حماس" على قطاع غزة. كما أشار بعض المسؤولين الأوروبيين إلى أنهم لن يكونوا مستعدين لتقديم أي أموال لإعادة إعمار قطاع غزة طالما ظلت "حماس" هي القوة المهيمنة في القطاع الفلسطيني. ويبدو أن هناك اتفاقا عالميا يقضي بضرورة تنحي "حماس" جانبا ومنح سكان غزة فرصة لبناء مستقبل لا تكون الحركة جزءا منه. فهل ستستجيب "حماس" لهذا الاتفاق؟ 

وسيكون فقدان السيطرة على قطاع غزة بمثابة حكم بالإعدام يصدر بحق "حماس"، لكن الإبقاء على هذه السيطرة سيكون حكما بالإعدام ليس بحق قطاع غزة وحده، بل بحق القضية الفلسطينية بأكملها. ولكن من غير المؤكد ما إذا كانت "حماس" تدرك هذا الأمر، ولا سيما مع استمرار الحركة في تقديم الدليل تلو الآخر على أن رؤيتها لليوم التالي في غزة تتمحور فقط حول بقائها في سدة الحكم.

دعم عربي وإسلامي ودولي

وحتى اللحظة التي تتمكن فيها مصر من سد جميع الثغرات المتبقية في خطتها الرامية لإعادة إعمار قطاع غزة، من المرجح أن تواجه صعوبة في إقناع "حماس" بالتخلي عن حكم القطاع والانسحاب من المشهد في مستقبله.

تريد مصر الاستفادة من المواقف القوية التي عبرت عنها دول أخرى ضد رؤية ترمب، وعلى رأسها السعودية، الدولة ذات الثقل الإقليمي والحليف المهم للولايات المتحدة

وتنشغل القاهرة في الوقت الراهن، بوضع خطتها الوليدة الرامية لإعادة إعمار قطاع غزة بين أيدي العرب، وربما بين أيدي المسلمين والمجتمع الدولي في المستقبل، ولكنها لا تريد أن تكون الطرف الوحيد الذي يعارض خطة ترمب بشأن غزة، لأنها تدرك تماما العواقب الوخيمة المترتبة على معاداة الرئيس الأميركي في وقت مبكر من رئاسته. 

ولعل هذا يفسر سبب تأجيل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي زيارته إلى واشنطن، والتي كانت مقررة في منتصف فبراير/شباط الحالي، إلى ما بعد القمة العربية الطارئة التي ستعقد في القاهرة يوم 27 فبراير. ففي نهاية المطاف، لا يريد السيسي السفر إلى الولايات المتحدة قبل الحصول على موافقة قادة عرب آخرين على خطته بشأن إعادة إعمار قطاع غزة.

ولهذا السبب، ينظر السيسي بإيجابية إلى القمة العربية المصغرة التي سيستضيفها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الجمعة المقبل، باعتبارها فرصة سانحة لإرسال رسالة مبكرة تهدف إلى دعم الخطة المصرية.

أ.ب
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في القاهرة، 25 أكتوبر 2023

وتريد مصر، في سعيها للحصول على الدعم العربي والإسلامي والدولي لخطتها البديلة بشأن قطاع غزة، الاستفادة من المواقف القوية التي عبرت عنها دول أخرى ضد رؤية ترمب، وعلى رأسها السعودية، الدولة ذات الثقل الإقليمي والحليف المهم للولايات المتحدة. كما أن دعم هذه الخطة يجعل مصر في صلب حملة ضغط كبرى متجذرة في صراع بين إرادتين: إرادة تصفية القضية الفلسطينية، وإرادة إبقاء هذه القضية حية ونابضة.

المخاطر 

تبدو مصر حريصة أيضا على أن يتبنى ترمب رؤيتها الخاصة لإعادة إعمار غزة. وفي الوقت الذي تعارض فيه بشدة كلا من تهجير سكان غزة وإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين داخل حدودها، لا يتوانى الرئيس عبد الفتاح السيسي عن التأكيد على استعداده للتعاون مع الرئيس الأميركي في سبيل تحقيق السلام في الشرق الأوسط.

إذا انهار وقف إطلاق النار، فمن المرجح أن تقصف إسرائيل قطاع غزة بشكل مكثف باستخدام القنابل الثقيلة التي تسلمتها مؤخرا من الولايات المتحدة

ولكن من الصعب معرفة ما يفكر فيه ترمب أو التنبؤ بخطواته المقبلة. وحتى الآن، لم يفعل الرئيس الأميركي شيئا سوى طمأنة السياسيين الإسرائيليين من اليمين المتطرف ومؤيدي الضم، من خلال التخطيط لإخلاء غزة من سكانها والتغاضي عن الحملة الإسرائيلية في الضفة الغربية. 

ومع ذلك، تنطوي محاولة مصر تقديم خطة بديلة لخطة ترمب بشأن غزة على مخاطر كبيرة، ولا سيما إذا فشلت. وهناك مؤشرات تدل على أن إسرائيل تأخذ خطة ترمب على محمل الجد. فقد حظيت الخطة باهتمام كبير في المحادثات التي جرت بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في 16 فبراير. 

أ.ف.ب
عنصر من الشرطة العسكرية المصرية أثناء زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لمعبر رفح في 20 أكتوبر 2024

وكان نتنياهو قد أمر جيشه في وقت سابق بالاستعداد لتنفيذ الخطة ذاتها. كما يبدو أن إسرائيل تستعد أيضا لاحتمال انهيار وقف إطلاق النار الحالي في قطاع غزة، على الرغم من تأكيد المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط على أنه "ستكون هناك بالتأكيد" مرحلة ثانية من وقف إطلاق النار. 

وإذا انهار وقف إطلاق النار، فمن المرجح أن تقصف إسرائيل قطاع غزة بشكل مكثف باستخدام القنابل الثقيلة التي تسلمتها مؤخرا من الولايات المتحدة.

ومن شأن هذا أن يؤدي إلى فرار جماعي لأهل غزة نحو الحدود المصرية، وهو الأمر الذي سيضع الجيش المصري المتمركز حاليا في سيناء أمام أحد خيارين: إما السماح لهم بالدخول وإما منعهم والرد على مصدر النيران. وهنا يكمن الخطر.

font change