10 سنوات على رحيل إدواردو غاليانو... صوت المضطهدين الصارخ

كتاباته ترمم الذاكرة وتفتح ثغرات في الأفق المسدود

REUTERS/Andres Stapff
REUTERS/Andres Stapff
الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو

10 سنوات على رحيل إدواردو غاليانو... صوت المضطهدين الصارخ

"إيقاظ روح الحرية فينا، سرد قصص صغيرة تساعدنا على رؤية تلك الكبيرة، تحسيسنا بالأسباب التي تدعو إلى البكاء، وبتلك التي تدعو إلى الضحك، في قلب واقعنا المشترك، الترويج للثقافة الشعبية والاحتفاء بالآفاق التي يجب ابتكارها"، تلك كانت الأهداف التي شكلت حياة إدواردو غاليانو (1940 - 2015)، الكاتب الأوروغواياني الذي عرف أكثر من أي كاتب آخر كيف يجمع بين النفس الغنائي والخطاب السياسي، وكرس وقته وطاقات ذهنه المتقد للدفاع عن حقوق المضطهدين، مستعينا بكلمته المدوية فحسب. عملاق بقلب طفل، لم يفقد عمله الكتابي شيئا من قيمته وراهنيته، نظرا إلى كشفه أهمية الذاكرة في عالم فقد ذاكرته، وانخراطه في نضال شرس من أجل العدالة في عالم لا عدل فيه. من هنا واجب الاحتفاء به والتذكير بأبرز منجزاته، في مناسبة مرور عقد على رحيله.

نثر حارق

كاتب لامع وغزير الإنتاج، تألق غاليانو خصوصا بنثره الحارق، الذي يقع دائما على شفير السخط والإدانة، وأيضا بتأريخه نضالات التحرر في أميركا الجنوبية، الذي بدأ مع كتابه الشهير، "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية" (1971). كتاب تحول فور صدوره إلى نص مرجعي لليسار في مختلف أنحاء المعمورة، وكان يجب أن ينال غاليانو عليه وحده جائزة "نوبل"، لو كلفت لجنة هذه الجائزة نفسها عناء قراءته. لكن هذا التكريم سيناله عام 2010 من لجنة جائزة أدبية سويدية أخرى (جائزة "ستيغ داغرمان") لم تفتها قيمة عمله الأدبي، ولا "وقوفه طوال حياته إلى جانب الملعونين في عالمنا، من دون أن يسعى إلى أن يكون المتحدث باسمهم".

أعمال تعج بالاستعارات والمقاطع الشعرية، ويلمع صاحبها فيها بمزجه الأنواع الأدبية بمرح وبهجة، بغية الإمساك بأفضل طريقة ممكنة بالتجربة الأميركية اللاتينية

مسيرة غاليانو مرآة لحقبة عنيفة لم يكن السلاح فيها وسيلة الالتزام والنضال الوحيدة، بل القلم أيضا. لذلك بدأها داخل الصحافة في سن مبكرة جدا، كناقد ورسام كاريكاتور، ثم كرئيس تحرير الأسبوعية اليسارية المرجعية في أميركا اللاتينية، "مارشا"، في سن الـ 21، فصحيفة "إيبوكا". أثناء الانقلاب العسكري عام 1973، رمي في السجن بسبب مقالاته النارية، فاضطر فور إطلاق سراحه إلى الاستقرار في الأرجنتين، حيث أسس مجلة "أزمات"، قبل أن يُجبر من جديد على المغادرة، فيختار الإقامة في برشلونة حتى عودته إلى وطنه عام 1985. عودة تسمح له باستعادة مقاهيه القديمة في مونتفيديو، التي كان يعتبرها "مدرسته".

Eitan ABRAMOVICH / AFP
رجل يسير بجوار جدارية تصور الكاتب الأوروغوياني الراحل إدواردو غاليانو في مونتيفيديو

الصاخب الخصب

طوال هذه المسيرة الإعلامية الصاخبة بقدر ما هي خصبة، لم يتوقف غاليانو عن خط أعمال أدبية باهرة تستمد قيمتها من جمعه فيها بين الجمال الأدبي والإدانة السياسية. أعمال تعج بالاستعارات والمقاطع الشعرية، ويلمع صاحبها فيها بمزجه الأنواع الأدبية بمرح وبهجة، بغية الإمساك بأفضل طريقة ممكنة بالتجربة الأميركية اللاتينية، وكشف مختلف وجوه الظلم فيها. أعمال تشكل بذلك كما من الشهادات على التزامه الثابت بمكافحة جميع أشكال الهيمنة (الاستعمار، النظام البطريركي، الرأسمالية، الديكتاتوريات العسكرية، وسائل الإعلام...) وفضح نتائجها الخطيرة على البشر والطبيعة على حد سواء.

غزارة هذه الأعمال تضطرنا إلى التوقف هنا عند أبرزها فقط، بدءا بكتاب غاليانو الأشهر، "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية"، الذي هو عبارة عن قراءة مضادة لتاريخ الاستعمار تفضح النهب الذي تعرضت له دول أميركا الوسطى والجنوبية من قبل القوى الأوروبية والولايات المتحدة. كتاب تطلب من صاحبه خمس سنوات من العمل لجمع المعلومات عن هذا النهب الذي امتد من بداية الاستعمار الأوروبي للقارة الأميركية، في نهاية القرن الرابع عشر، حتى عصرنا الراهن، ولم يكتف مقترفوه بتجريد أبناء هذه القارة الأصليين من ثرواتهم (الذهب والفضة والماس أولا، ثم السكر والكاكاو والقطن والمطاط والفواكه، وصولا إلى البترول)، بل أقدموا أيضا على استغلالهم بأبشع الطرق في المناجم والمزارع، وحين لم تعد قدرات هؤلاء كافية لسد جشعهم، استقدموا أبناء القارة الأفريقية الذين كانوا مستعبَدين على يدهم.

MIGUEL ROJO / AFP
شابة تتصفح نسخة مستعملة من كتاب "الأوردة المفتوحة لأميركا اللاتينية" لإدواردو غاليانو

فور صدوره، أحدث هذا الكتاب ضجة كبيرة نظرا إلى الموضوعية الناجعة والقارصة التي تسلح غاليانو بها لمعالجة موضوعه، وأيضا لرصده داخله صفحات بصيرة تعري إرث هذا النهب وعبئه على ضحاياه. وهذا ما يفسر من دون شك قيام رئيس فنزويلا هوغو تشافيز بإهداء نسخة من هذا الكتاب إلى نظيره الأميركي باراك أوباما، على هامش قمة الأميركيتين في عام 2009، علما أنه حين سئل غاليانو عن هذه المبادرة، أجاب بأنه لا يعتقد أن أيا منهما قادر على فهم هذا النص، مضيفا: "إنه مكتوب بلغة لا تلتقطها أذنا أوباما".

في عالم اليوم، الذي يسير على رأسه، الدول التي تدافع عن السلام العالمي هي تلك التي تصنع أكبر عدد من الأسلحة وتبيع أكبر عدد منها إلى الدول الأخرى

"ذاكرة النار" يشكل بأجزائه الثلاثة: "الولادات" (1982)، "الوجوه والأقنعة" (1984) و"قرن الريح" (1986)، جدارية تاريخية ضخمة تمتد من مرحلة ما قبل وصول كولومبوس إلى أميركا، إلى القرن العشرين، ويمنحنا غاليانو فيها فرصة رؤية واستشعار تاريخ قارة تتخبط في الفقر، من خلال مجموعة كبيرة من الأخبار المتفرقة والشهادات والخطب. نص عنيف ومؤثر، غايته الأولى إفهامنا ليس فقط أهمية الذاكرة، بل أيضا أهمية الكلمة في الحفاظ عليها، لأن "وحده النسيان هو الذي يقتل حقا".

كلمات متجولة

وهذا ما يقودنا إلى كتاب مهم آخر لغاليانو هو "كلمات متجولة" (1993) الذي جمع فيه حكايات وأساطير سمعها خلال تجواله في أميركا اللاتينية، وأعاد كتابتها على شكل قصص قصيرة مشبعة بالواقعية السحرية، تختلط فيها الآلهة القديمة بالجديدة، الساحرات بالكائنات الخرافية، وتمتلك الحيوانات القدرة على الكلام والتحول إلى بشر. قصص يتنزه الشيطان في واحدة منها برفقة ملاك على الأرض، ويتلصص القديس بطرس على البشر، في أخرى، وحين يهبط المسيح بمظلة داخل عالمنا، يظن الناس أنه مجنون.

"الكلمات المتجولة"، إدواردو غاليانو، مع رسوم ج. بورغيس

لكن بقدر ما تكمن قيمة هذا الكتاب في الطرافة والسخرية المستخدمتين داخله لاستحضار الشخصيات التوراتية، وفي وضعه تحت أنظارنا خيال أبناء أميركا اللاتينية، حيث ينبثق الخارق والحلم في قلب الواقع بشكل طبيعي، تكمن أيضا في تلك النصوص القصيرة التي تفصل بين قصصه، ولا سحر ولا خيال فيها، بل هي عبارة عن "نوافذ" تطل على العالم الحقيقي وتفتح أعيننا على ما يجب رؤيته فيه.

في كتب غاليانو، المزينة غالبا برسومه، يتجلى إذن ميله إلى ابتكار أو إعادة ابتكار قصص قصيرة يسهل بلوغها، وسعيه إلى توظيف قدرته العالية على التلاعب بالكلمات، بغية تصويب وجهة سير عالمنا المنحرف. ففي "رأسا على عقب" (1998)، نقرأ: "في مدرسة العالم المقلوب رأسا على عقب، يتعلم الرصاص كيف يطفو، سدادة الفلين كيف تغرق، الأفاعي كيف تطير، والغيوم كيف تزحف. في عالم اليوم، الذي يسير على رأسه، الدول التي تدافع عن السلام العالمي هي تلك التي تصنع أكبر عدد من الأسلحة وتبيع أكبر عدد منها إلى الدول الأخرى، والمصارف الأكثر هيبة هي تلك التي تقوم بغسل أكبر قدر من أموال المخدرات وتلك التي تحتفظ بأكبر قدر من الأموال المسروقة (...)، بينما تشكل حماية البيئة القاعدة التجارية الأبرز للشركات التي تدمر البيئة".

هل أن مأساة المحرقة اليهودية تعني ضمانا بإفلات أبدي من العقاب؟ أم أن الضوء الأخضر يأتي من تلك القوة التي ترى في إسرائيل واحدا من أبرز أتباعها؟

لا عجب بالتالي في امتداد تأثير هذا الكاتب على كامل قارته إلى حد اليوم. فأثناء الأزمة الاقتصادية التي شهدتها الأرجنتين في عامي 2001 و2002، ترددت كلماته في الشوارع بشكل عفوي، خلال كل تظاهرة أو تجمع، وأثارت رؤيته للعالم أحلاما جديدة داخل الأجواء المشبعة بالغاز المسيل للدموع. وفي شوارع العاصمة البوليفية، لا تزال نسخ مقرصنة من كتابه "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية" تباع في كل مكان، ولا تزال خيمياء قراءته للتاريخ فاعلة في انتفاضات عمال المناجم، تمنحهم الجرأة على إلقاء أصابع الديناميت على مستغليهم. وفي أعالي جبال تشياباس المكسيكية، حيث تنشط حركة "زاباتيستا" الثورية، ارتفع أكثر من مرة صوته تارة لإدانة التهميش، وطورا لتلاوة قصص للأطفال. وفي منتدى بورتو أليغري الاجتماعي العالمي، في البرازيل، تجمع يوما مئات الأشخاص داخل خيمة خانقة من الحر لسماعه يتكلم عن تلك الحركة التي طالبت في الأوروغواي بحق الفقراء في الماء، ودفعت هؤلاء إلى التصويت "ضد الخوف" لوقف الخصخصة...

AFP PHOTO / JUAN MABROMATA
رجل يشير إلى كتب الكاتب الأوروغوياني الراحل إدواردو غاليانو

شعبية غاليانو هذه تعود في الدرجة الأولى إلى كون الكتب والمقالات الغزيرة التي تركها خلفه هي، قبل أي شيء، كلمات أمل تعلّم قارئها التمرد على العالم كما هو، من دون التوقف عن حبه، وتساعده في فهم الماضي لبناء مستقبل أفضل. كلمات تلهبها يوتوبيا، ضرورية في نظره، كتب يوما عنها التالي: "إنها تلوح في الأفق. أتقدم خطوتين نحوها، تتراجع خطوتين. أتقدم عشر خطوات، فيصبح الأفق فورا على بعد عشر خطوات أمامي. مهما مشيتُ، لن أبلغها أبدا. ما هي فائدة اليوتوبيا إذن؟ حثّنا على السير".

غزة والقضية الفلسطينية

خلال عملية "عمود السحاب" الإسرائيلية على غزة عام 2012، نشر غاليانو مقالا عنيفا كتب فيه: "منذ عام 1948، يعيش الفلسطينيون محكومين بإذلال دائم، عاجزين حتى عن التنفس من دون تصريح. لقد فقدوا وطنهم، أراضيهم، ماءهم، حريتهم، كل شيء. الصواريخ المحلية الصنع التي يطلقها بشكل أخرق مناضلو حركة "حماس"، المسجونون في غزة، هي صرخات لا فعالية لها، في حين أن حرب الإبادة الفعالة للغاية تنكر، منذ سنوات طويلة، حق فلسطين في الوجود. لم يتبق من فلسطين سوى القليل. خطوة بخطوة، تعمل إسرائيل على مسحها من الخريطة. في كل واحدة من حروبها "الدفاعية"، ابتلعت قطعة من فلسطين، بينما تبرَّر عملية الالتهام هذه بصكوك الملكية التي منحتها التوراة لبنيها، بألفي عام من الاضطهاد، وبالـ 'ذعر' الذي يسببه الفلسطينيون على حدودها".

ثمة دائما نعمة مخفية في كل عاهة، وعاجلا أم آجلا، يجد كل صوت صوته المضاد، وكل مدرسة مدرستها المضادة

نقرأ أيضا في هذا المقال: "إسرائيل هي الدولة التي لا تلتزم أبدا توصيات وقرارات الأمم المتحدة، ولا تحترم أحكام المحاكم الدولية، وتستهزئ بالقوانين الدولية، والدولة الوحيدة التي شرّعت تعذيب السجناء. من أعطاها الحق في إنكار جميع الحقوق؟ من أين تأتي الحصانة التي ترتكب بها المجازر في غزة؟ هل أن مأساة المحرقة اليهودية تعني ضمانا بإفلات أبدي من العقاب؟ أم أن الضوء الأخضر يأتي من تلك القوة التي ترى في إسرائيل واحدا من أبرز أتباعها؟ الجيش الإسرائيلي، الذي هو الأحدث والأكثر تطورا في العالم، يعرف من يقتل. إنه لا يقتل بالخطأ. يقتل برعب. وضحاياه المدنيون يسمون أضرارا جانبية، وفقا إلى قاموس حروب إمبريالية أخرى. في غزة، من بين كل عشرة "أضرار جانبية"، ثلاثة منها أطفال. وإلى ذلك، يضاف آلاف المشوهين، ضحايا تكنولوجيا التقطيع البشري التي تختبرها الصناعة العسكرية بنجاح في عملية التطهير العرقي هذه. وكما هو الحال دائما، لدينا مئة قتيل فلسطيني في غزة مقابل قتيل إسرائيلي واحد. أناس خطرون، يحذرنا القصف الآخر، قصف وسائل الإعلام الخبيثة التي تريد إقناعنا بأن حياة إسرائيلي واحد تساوي حياة مئة فلسطيني، وبأن المئتي قنبلة ذرية التي تمتلكها إسرائيل هي قنابل إنسانية".

AFP PHOTO / JEFFERSON BERNARDES
الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو يتصفح بعض ملاحظاته

ويختم غاليانو مقاله هذا، قائلا: "هل ثمة وجود لما يسمى بالمجتمع الدولي؟ هل هو شيء أكثر من مجرد ناد للتجار والمصرفيين والقتلة؟ هل هو شيء أكثر من الاسم المسرحي الذي تحمله الولايات المتحدة حين تمارس التمثيل؟ أمام مأساة غزة، يلمع النفاق العالمي مرة أخرى. وكالعادة، تسدد اللامبالاة، والخطابات الفارغة أو الرنانة، والتصريحات الجوفاء، والمواقف الملتبسة، جزية الحصانة المقدسة".

لكن أكثر من مرة، حذر غاليانو ممارسي الظلم في العالم من أن لا شيء ثابتا، وكل شيء قابل للتغيير، ومن أن "ثمة دائما نعمة مخفية في كل عاهة، وعاجلا أم آجلا، يجد كل صوت صوته المضاد، وكل مدرسة مدرستها المضادة".

font change

مقالات ذات صلة