في حين سعى فنانون تشكيليون، عرب وعالميون، إلى استشراف مستقبل مدنهم أو تخيّلها على نحو مختلف عن راهنها البائس، فإن هناك تجارب أخرى تساكنت مع أشكال الخراب الذي ما انفك يعيد تشكيل ملامح تلك المدن، حتى بات الأثر الدامغ لكل تحولاتها، وكأنهم نسجوا علاقة مع ذلك الأثر، قوامها احتضان الدمار المتعدد الأوجه على أنه يقع في صلب هوية المدن الشائكة، ووجه من وجوه تحولاتها.
من هذا المنطلق، أصبحت المدن المدمرة بفعل الحروب، أو تلك المنخورة بالفساد والإهمال، بالنسبة إلى فنانين معاصرين، في حال التفاف متكرر على جراحها وندوبها، ونبعا لا ينضب من الصور المتقاربة والمتناقضة حينا.
نظرة طائر
من أولئك الفنانين، من اتخذ وجهة نظر متأملة لطائر باسط جناحيه فوق المدن المنكوبة. نذكر على سبيل المثل الفنانَين، اللبناني وسام بيضون والفلسطيني يزن أبوسلامة. كلاهما بنى عمله الفني على منطق الخرائط الجغرافية، فعبر عن انشغاله بمآسي مدينتي بيروت والقدس.
قدم الفنان وسام بيضون أعمالا فنية ظهرت فيها خرائط جغرافية مستوحاة من مدينته بيروت تحت عنوان "إعادة ابتكار بيروت". يحلو لنا أن نطلق على مدينة وسام بيضون اسم "المدينة الصداعية" فهي بدت في جميع لوحاته تجسيدا بصريا لحالة صداع مزمن لا بداية ولا قرار له. لا تمت الخرائط، التي نسجها الفنان بكثافة لونية واضحة يشف بعضها أحيانا على بعضها الآخر، إلى أي دراسة جغرافية/علمية بقدر ما تنتمي إلى انطباع راسخ في خيال الفنان عن مدينة تسكنها الفوضى وتتقطع فيها الأوصال مداورة. لوحات استعرضت بيروت عبر نظرة طائر يحلق تارة عن بعد وتارة أخرى عن قرب، مانعا عين المشاهد من الوصول إلى نقطة محددة قد تكون انطلقت منها شرايين مدينة قلقة ومستنفرة على الدوام.