كيف يتعامل تشكيليون عرب مع مدنهم المنكوبة؟

تشييد الأثر والسعي إلى تجاوزه في وقت واحد

REUTERS/Mahmoud Issa
REUTERS/Mahmoud Issa
فتاة فلسطينية تمشي وسط أنقاض منزل في مخيم جباليا شمال غزة

كيف يتعامل تشكيليون عرب مع مدنهم المنكوبة؟

في حين سعى فنانون تشكيليون، عرب وعالميون، إلى استشراف مستقبل مدنهم أو تخيّلها على نحو مختلف عن راهنها البائس، فإن هناك تجارب أخرى تساكنت مع أشكال الخراب الذي ما انفك يعيد تشكيل ملامح تلك المدن، حتى بات الأثر الدامغ لكل تحولاتها، وكأنهم نسجوا علاقة مع ذلك الأثر، قوامها احتضان الدمار المتعدد الأوجه على أنه يقع في صلب هوية المدن الشائكة، ووجه من وجوه تحولاتها.

من هذا المنطلق، أصبحت المدن المدمرة بفعل الحروب، أو تلك المنخورة بالفساد والإهمال، بالنسبة إلى فنانين معاصرين، في حال التفاف متكرر على جراحها وندوبها، ونبعا لا ينضب من الصور المتقاربة والمتناقضة حينا.

نظرة طائر

من أولئك الفنانين، من اتخذ وجهة نظر متأملة لطائر باسط جناحيه فوق المدن المنكوبة. نذكر على سبيل المثل الفنانَين، اللبناني وسام بيضون والفلسطيني يزن أبوسلامة. كلاهما بنى عمله الفني على منطق الخرائط الجغرافية، فعبر عن انشغاله بمآسي مدينتي بيروت والقدس.

قدم الفنان وسام بيضون أعمالا فنية ظهرت فيها خرائط جغرافية مستوحاة من مدينته بيروت تحت عنوان "إعادة ابتكار بيروت". يحلو لنا أن نطلق على مدينة وسام بيضون اسم "المدينة الصداعية" فهي بدت في جميع لوحاته تجسيدا بصريا لحالة صداع مزمن لا بداية ولا قرار له. لا تمت الخرائط، التي نسجها الفنان بكثافة لونية واضحة يشف بعضها أحيانا على بعضها الآخر، إلى أي دراسة جغرافية/علمية بقدر ما تنتمي إلى انطباع راسخ في خيال الفنان عن مدينة تسكنها الفوضى وتتقطع فيها الأوصال مداورة. لوحات استعرضت بيروت عبر نظرة طائر يحلق تارة عن بعد وتارة أخرى عن قرب، مانعا عين المشاهد من الوصول إلى نقطة محددة قد تكون انطلقت منها شرايين مدينة قلقة ومستنفرة على الدوام.

من أولئك الفنانين، من اتخذ وجهة نظر متأملة لطائر باسط جناحيه فوق المدن المنكوبة وبنى عمله الفني على منطق الخرائط الجغرافية

أما الفنان الفلسطيني يزن أبو سلامة فتحول إلى طائر يحلق فوق مدينة القدس وسمائها المختنقة بجدران العزل الخراسانية التي تحاصرها وتقطع أوصال مدن فلسطينية أخرى. قدم الفنان يومها أعماله من ضمن معرض حمل عنوان "انحناء نحو الشمس"، أعمال يمكن اعتبارها منبثقة من مجموعة سابقة من الأعمال عرضها تحت عنوان "سماء إسمنتية". استخدم أبو سلامة في أعماله تلك قطعا بلاستيكية ملونة تؤلف بين المدن والقرى الفلسطينية وسط الجدران الخرسانية الرمادية والقبيح.

لوحة للفنان يزن أبو سلامة

تأريخ الفواجع

بعيدا من عوالم طائر يراقب مدينته المطحونة فيعيد تشييدها في نظره مستعينا بالخيال، غاص فنانون آخرون في مهمة التأريخ لفواجع المدن، ليس من باب الرثاء أو الحنين بل في محاولة للقبض على أثر تلك المدن إن هم تجرأوا على الغوص تحت رماد  البراكين الخامدة.

أتاح الفنان الفلسطيني/اللبناني مروان رشماوي، على سبيل المثل، لطائر افتراضي أن يرتفع فوق مدينة بيروت في معرض عنونه بـ"بيروت كاوتشوك" ليرينا من خلال نظرته مشهدا من مشاهد ما بعد الحرب الأهلية متمثلا بخريطة بيروت سوداء بلون المطاط. وفي معرض آخر أكثر اتساعا وغوصا في التفاصيل حمل عنوان "إرث وطني ومروان رشماوي" أطلق الفنان الطائر من جديد فوق خرائط المدن الفلسطينية، موكلا إليه مهمة علمية دقيقة استندت بشكل أساسي إلى معلومات موثقة وبيانات رسمية وخرائط جغرافية خاصة بالمدن الفلسطينية تكشف تحولها عبر الزمن.

لوحة للفنان وسام بيضون

استطاع الفنان من خلال عمله التجهيزي أن يتحدث باسم مدن ترفض أن يُنظر إليها دون أن يكون أثر العنف الذي عاشته، هو عين الناظر ودليله إلى قاع ملابساتها وتاريخها المزدحم بالتناقضات.

ثنائية الأرض والسماء

عبر نص بصري مختلف تماما عما قدمه مروان رشماوي، اتجهت الفنانة التشكيلية اللبنانية ديالا خضري في مجموعة من لوحاتها إلى الابتعاد عن النظرة العلمية/التوثيقية من خلال تسليط الضوء على عناصر هندسية محددة رأت أنها قادرة على كشف المزيد عن أهوال مدينة تقف على شفا التحولات الحادة والمهددة لكيانها. أما هذه العناصر الهندسية فهي الأغطية الحديدية لمجاري المياه والمسماة بـ"الريغارات". رسمتها الفنانة بواقعية شديدة وأضافت إليها عناصر/مفاتيح  بصرية ورمزية على السواء. من تلك العناصر نذكر طائر حمام حط رحاله عليها وأوراق أشجار يابسة جرفتها نسمة باردة فاستقرت بجوارها.

غاص فنانون آخرون في مهمة التأريخ لفواجع المدن، ليس من باب الرثاء أو الحنين بل في محاولة للقبض على أثر تلك المدن

تشير الفنانة إلى أن "الريغارات هي بمثابة طرق للهروب نحو الأمل، فأرادت الإشارة إلى أن بيروت ومهما واجهت من أزمات لا بد أن تجد طاقة الأمل التي تخرجها من العتمة". هذا "الهروب نحو الأمل"، يمكنه الحدوث إذن، عبر بوابات تصل السطح بعالم سفلي لا يخص عتمة قنوات تصريف المياه وشبكات الاتصال فحسب، بل إن تلك البوابات هي مداخل "سحرية" تفضي إلى مدينة بيروت كما هي في ذاكرة ما قبل الحروب. السطح والقعر في لوحات الفنانة شكّلا نوعا من الوجود ما بين زمانين ومكانين لا بد أن يتقابلا/يتعارفا كي تستمر الحياة في المدينة.

لوحة للفنانة ديالا خضري

قطع من سماء ناصعة

في حين ركزت ديالا خضري في لوحاتها تلك على نظرة طائر يختار تفاصيل محددة يقف عندها، قدمت الفنانة اللبنانية بيتينا خوري بدر أعمالا استوحتها من صرف نظرها عن الأرض غير القادرة على تقديم الإجابات المقنعة، لتوجهه إلى سماء بيروت. قدمت الفنانة لوحات أهمها تلك التي تشكلت من أجزاء لوحات صغيرة الحجم تظهر فيها قطعا مختلفة من سماء ناصعة، وسماء غشاها الضباب تارة وسكنتها غيوم متدرجة الكثافة تارة أخرى. غيوم عبّرت عن أجواء من الترقب والحزن، والخفة والأمل على السواء.

مشاعر متناقضة وأحيانا متواطئة ظهرت في اللوحة لتخبر الناظر إليها عن مزاج الأفراد المجتمعين تحت سماء واحدة وفي بلد واحد يتخبط بين غيومه وبحره ودمائه. للمفارقة أنه عندما اختارت الفنانة النظر إلى السماء كجغرافيا بديلة، حدث انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020. في هذا السياق تقول: "عندما كنت منهمكة برسم سيرة السماء في مجموعة من اللوحات، إذا بالانفجار يلوّث محطات السيرة ويعكر زرقتها ويعيدني إلى الأرض". بيروت مدينة محيّرة تأبى الاستقرار على حال.

لوحة للفنانة رندة مداح

التجريد والمدن البديلة

إذا كانت السماء عند اللبنانية بيتينا خوري بدر وطنا بديلا، فإن الفنانة السورية المتعددة الوسائط رندة مداح، حاولت إيجاد وطن بديل هو في حقيقته الوطن الأصلي، إلا أنه يقع في هامشه حيث يكون للعيش صور أخرى أقل حزنا ودمارا.

هذا "الهروب نحو الأمل" يمكنه الحدوث عبر بوابات تصل السطح بعالم سفليّ هي مداخل "سحرية" تفضي إلى مدينة بيروت كما هي في ذاكرة ما قبل الحروب

قدمت الفنانة ثلاثة أفلام قصيرة سردت فيها سيرة بلاد كانت ولا تزال محلوما بها اليوم أكثر من أي يوم مضى. تحولت الفنانة من المباشرة  في التعبير الفني إلى عالم تجريدي يعج بالاستعارات والرموز. ولعل أهم عنصر بصري/سمعي اشتغلت عليه هو السكون المتفشي في فضاء الأفلام لا سيما في فيلم "خفقة أفق". وظفته المداح كأثر بليغ عن الغياب وقادر على سرد عمق الإحساس بالفقد والخذلان. تقول الفنانة: "كيف لي أن أستوعب التدمير؟ الحدود شوهت وجهة المكان الذي أتيت منه، وغيرت خريطته، ورفعت الجدران حول حياة الناس... هل نستطيع الفكاك من واقع كهذا بالتجريد؟ ربما نستطيع ذلك أسأل نفسي، هل يمكن على الإطلاق محو الدمار؟ هل باستطاعة أعمال الترميم إزالة آثار الدمار؟".

لوحة للفنانة بيتينا خوري

إنه الخوف من الخسارة، والانتصار عليها في آن واحد من خلال تبني هوية هجينة تثمّن الأثر فتتيح للنسيان والذاكرة الاستمرار جنبا إلى جنب.

تفكيك مزدوج

من أبرز الفنانين الذين وهبوا التفاصيل البصرية الأولوية لتتمكن من إرساء الرؤية الواضحة، وبالتالي طرح إمكان شفاء المدن المنكوبة دونما الخروج عن ندوبها، الفنان عمر فاخوري وحسين حسين.

لوحة للفنان حسين حسين

اتجه الفنان اللبناني عمر فاخوري في مجموعة لوحات إلى تفكيك مزدوج لمعنى الأنصاب التذكارية وهيئتها. فرسمها وهي تشير إلى ذاتها، إلى قواعدها الحجرية التي لا تحمل تماثيل شخصيات معروفة شكلت عبر السنوات وجه لبنان الحديث، مع الاشارة إلى أن معظم اللبنانيين لا يزالون يختلفون في ما بينهم حول نظرتهم إلى تلك الشخصيات. اكتفى فاخوري برسم أنصاب لا يرتفع عليها إلا الفراغ لتكون هي النجوم الوحيدة المحتفى بها. أنصاب بل صروح تخبر المشاهد عن سلسلة قاتمة من ممارسات ماضية، ومحاولات لاجتراح معنى واحد قد يتفق عليه كل أهل بلاد ما انفكت تدمّر ويعاد تشييدها.

حاولت الفنانة السورية رندة مداح إيجاد وطن بديل هو في حقيقته الوطن الأصلي إلا أنه يقع في هامشه

بدوره عمد الفنان اللبناني حسين حسين إلى تنفيذ لوحات رسم فيها مضخات المياه ومحولات محركات فرعية وأساسية، تولّد الكهرباء وتوزعها، والخطوط الكهربائية الممدودة والموصول بعضها ببعض والعلب المعدنية التي ضربها الصدأ والتي تحوي صواعق كهربائية ورزما من أسلاك ملونة أصابها التلف ولا تزال في الخدمة على الرغم مما تشكله من خطورة على أهل المدينة الذين يمرون بالقرب منها بشكل يومي في بيروت مرور الكرام، فلا هم ينتبهون إليها كأشكال دخيلة لفرط تعوّدهم عليها، ولا هم مهتمون بما تبثه من سموم في تبديل هيئة المدينة وهوائها ووجدانها.

REUTERS/Amr Abdallah Dalsh
صورة جوية من نافذة طائرة طيران الشرق الأوسط (MEA) تظهر العاصمة بيروت

سراديب متصلة

بعيدا من التمعن بالتفاصيل الناطقة بأسرار المدن المنكوبة، اتجه فنانون آخرون إلى عملية تأريخ فنية لفصول حروب عاشتها تلك المدن، في محاولة القبض على السيرة العامة وضغطها في فضاء صالة مقفلة، ومفتوحة للزوار الراغبين في السفر عبر زمن نحو ماض بعيد زمنيا، إنما قريب لناحية ما ترك من أثر بارز في ثنايا المدينة ومساماتها.

من هؤلاء الفنانين نذكر الفنان اللبناني المتعدد الوسائط ألفرد طرزي. قدم الفنان في معرض تحهيزي كبير مجموعة سراديب متصل بعضها ببعض حملت عنوانا مبتكرا وهو "عزيزي الجنون". صمم الفنان في فضاء الصالة سراديب شبه معتمة ومزدحمة بالصور الفوتوغرافية وأفلام فيديو صغيرة ورسومات إلى جانب تخطيطات ومجسمات نحتية عن حرب دامت 15 سنة ولا تزال مفاعيلها حاضرة حتى اليوم. أوكل طرزي الى "الجنون" مهمة السرد، كيف لا وهو وحده القادر على استدعاء وحشد فصول حرب تنتمي إلى الماضي في صالة تنتمي إلى الزمن الحالي وفي هيئة التحام حفر أثره بعيدا في ملامح الحاضر؟

اتجه فنانون إلى عملية تأريخ فنية لفصول حروب عاشتها تلك المدن، في محاولة القبض على السيرة العامة وضغطها في فضاء صالة مقفلة

وفي سياق الفنانين الذين اتجهوا نحو تأريخ المدينة، لا بل تأريخ جنونها ودمارها الداخلي وبقائها على قيد الحياة، نذكر الفنان اللبناني إيلي رزق الله الذي رسم مجموعة أعمال تجسد مباني العاصمة بيروت، التي جعلها الراوية الحميمة عن أحوال أهلها وتحولاتهم المرهقة تحت ضروب الأزمات المتنوعة. تضمنت مجموعة أعماله تلك كآبة رقيقة حضر فيها الفنان وضربات ريشته كشخص يعيش أحوال مدينة يعرفها عن كثب.

لوحة للفنان ايلي رزق الله

هوية بيروت التي لا تزال تتدرب على كيفية صهر الماضي وبثه في الحاضر دون أن يؤدي ذلك إلى "حالات تسمم"، إذا صح التعبير،  برزت من خلال أبنية تبدو مسكونة وغير صالحة للسكن على السواء، لأنها غير منجزة أو ذات هياكل تبدو في مواضع من اللوحات منخورة أو متآكلة. غير المنجز في لوحاته هو من صلب هوية بيروت وفي ذلك غرابة ما تنطوي على كثير من الكآبة. مدينة هي من ناحية على شفير الولادة والموت كأنهما مرحلة واحدة، ومن ناحية أخرى هي مدينة متلاحمة مع سيولة الزمن، وكأنها مكان وموطئ عبور مسه حزن شخصي خفق بأجنحته نحو الأفق.

font change

مقالات ذات صلة