كانت الأجواء كئيبة في ذلك الزمان؛ إذ انطفأ بريق سهول أيرلندا الخضراء، وبدلا من الحقول المورقة التي كانت تمد سكانها بالحياة، انتشرت بقع سوداء متعفنة فوق محاصيل البطاطس، وكأن الأرض نفسها أنهكها الجوع. في القرى والبلدات، علت وجوه الناس ظلال الهزال واليأس، أجساد نحيلة تتمايل بين الطرق، وعيون غائرة تائهة تبحث عن لقمة قد لا تأتي أبدا.
على جوانب الطرق، استندت أمهات يحتضنّ أطفالا أنهكهم الجوع، ووسط الصمت الثقيل، لم يكن يُسمع سوى أنين المرضى وبكاء الأطفال المتضورين جوعا. كانت المدن تعج بالأكواخ المتداعية، حيث تجمع المهاجرون في انتظار سفن تحملهم بعيدا عن وطن صار قبرا مفتوحا. لكن البحر الذي حمل الأمل كان أيضا فخا قاتلا، حيث امتلأت السفن بأجساد أنهكها الجوع، فكان الموت رفيقا للمهاجرين حتى قبل أن تطأ أقدامهم أرضا جديدة.
يشار إلى تلك الفترة بمجاعة أيرلندا الكبرى التي حدثت بسبب وباء أصاب البطاطس التي يعتمد عليها ثلث سكان تلك الدولة كغذاء رئيس. تقول بعض التقديرات إن تلك المجاعة أزهقت أرواح نحو مليون شخص. في البداية، تكاسلت أنكلترا عن دعم الفقراء، ثم بدأت تقاوم ذلك التعفن وتحاول احتواءه قبل أن يمتد إلى أراضيها.
في الوقت نفسه؛ وتحديدا في عام 1854 وفي الجانب الأخر من العالم، نشر الكاتب الأميركي الشهير هنري ديفيد ثورو كتابه المعروف "والدن" انتقد فيه النزعة المجتمعية لتفضيل الأفكار البسيطة على المفاهيم العميقة، معتبرا ذلك علامة على تراجع الجهد الفكري والمستوى العقلي للمجتمع قائلا: "بينما تسعى إنكلترا لعلاج تعفن البطاطس، ألا يجب أن نحاول علاج تعفن العقول الذي ينتشر على نطاق أوسع وأكثر خطورة؟".
وبعد أكثر من قرن ونصف القرن على ذلك الكتاب، يعود مصطلح "تعفن العقول" الى الظهور بعدما اختارته جامعة "أكسفورد" الإنكليزية عام 2024. عاد المصطلح لكن في سياق مختلف تماما.
في زمن أصبحت فيه الشاشات نافذتنا الأولى إلى العالم عند الاستيقاظ صباحا، وآخر ما نودعه قبل الغوص في عتمة النوم، تحولت ليالي الكثيرين إلى سباق محموم بين مقاطع لا تنتهي، حيث تتلاشى الحدود بين الدقائق والساعات تحت إغواء التمرير اللامحدود.
وفي ركن آخر من هذا المشهد، يلجأ الأهل إلى الأجهزة الرقمية كملاذ يضمن لهم لحظات من الهدوء، فيما ينساب الأطفال في دوامة من المحتوى الموجه، ترسمه خوارزميات بارعة في الإغراء، تتحكم في ما نراه وما ننجذب إليه، دون أن نشعر.