"تعفن الدماغ"... ظاهرة الإفراط الرقمي الحديثة تهدد عالمنا

تؤثر طبيعة محتويات وسائل التواصل الاجتماعي على أدمغتنا

شاترستوك
شاترستوك
أثر الاستخدام المفرط للهواتف الذكية على الصحة العقلية والوظائف الإدراكية

"تعفن الدماغ"... ظاهرة الإفراط الرقمي الحديثة تهدد عالمنا

كانت الأجواء كئيبة في ذلك الزمان؛ إذ انطفأ بريق سهول أيرلندا الخضراء، وبدلا من الحقول المورقة التي كانت تمد سكانها بالحياة، انتشرت بقع سوداء متعفنة فوق محاصيل البطاطس، وكأن الأرض نفسها أنهكها الجوع. في القرى والبلدات، علت وجوه الناس ظلال الهزال واليأس، أجساد نحيلة تتمايل بين الطرق، وعيون غائرة تائهة تبحث عن لقمة قد لا تأتي أبدا.

على جوانب الطرق، استندت أمهات يحتضنّ أطفالا أنهكهم الجوع، ووسط الصمت الثقيل، لم يكن يُسمع سوى أنين المرضى وبكاء الأطفال المتضورين جوعا. كانت المدن تعج بالأكواخ المتداعية، حيث تجمع المهاجرون في انتظار سفن تحملهم بعيدا عن وطن صار قبرا مفتوحا. لكن البحر الذي حمل الأمل كان أيضا فخا قاتلا، حيث امتلأت السفن بأجساد أنهكها الجوع، فكان الموت رفيقا للمهاجرين حتى قبل أن تطأ أقدامهم أرضا جديدة.

يشار إلى تلك الفترة بمجاعة أيرلندا الكبرى التي حدثت بسبب وباء أصاب البطاطس التي يعتمد عليها ثلث سكان تلك الدولة كغذاء رئيس. تقول بعض التقديرات إن تلك المجاعة أزهقت أرواح نحو مليون شخص. في البداية، تكاسلت أنكلترا عن دعم الفقراء، ثم بدأت تقاوم ذلك التعفن وتحاول احتواءه قبل أن يمتد إلى أراضيها.

في الوقت نفسه؛ وتحديدا في عام 1854 وفي الجانب الأخر من العالم، نشر الكاتب الأميركي الشهير هنري ديفيد ثورو كتابه المعروف "والدن" انتقد فيه النزعة المجتمعية لتفضيل الأفكار البسيطة على المفاهيم العميقة، معتبرا ذلك علامة على تراجع الجهد الفكري والمستوى العقلي للمجتمع قائلا: "بينما تسعى إنكلترا لعلاج تعفن البطاطس، ألا يجب أن نحاول علاج تعفن العقول الذي ينتشر على نطاق أوسع وأكثر خطورة؟".

وبعد أكثر من قرن ونصف القرن على ذلك الكتاب، يعود مصطلح "تعفن العقول" الى الظهور بعدما اختارته جامعة "أكسفورد" الإنكليزية عام 2024. عاد المصطلح لكن في سياق مختلف تماما.

في زمن أصبحت فيه الشاشات نافذتنا الأولى إلى العالم عند الاستيقاظ صباحا، وآخر ما نودعه قبل الغوص في عتمة النوم، تحولت ليالي الكثيرين إلى سباق محموم بين مقاطع لا تنتهي، حيث تتلاشى الحدود بين الدقائق والساعات تحت إغواء التمرير اللامحدود.

وفي ركن آخر من هذا المشهد، يلجأ الأهل إلى الأجهزة الرقمية كملاذ يضمن لهم لحظات من الهدوء، فيما ينساب الأطفال في دوامة من المحتوى الموجه، ترسمه خوارزميات بارعة في الإغراء، تتحكم في ما نراه وما ننجذب إليه، دون أن نشعر.

تعفن الدماغ يعود إلى مزيج من استهلاك المحتوى منخفض الجودة، والتعرض لكمية هائلة من المعلومات، وقضاء وقت طويل أمام الشاشات.


عالمة النفس الأميركية غلوريا مارك الأستاذة المستشارة في جامعة كاليفورنيا إيرفاين

وسط هذا الواقع، عاد مصطلح "التعفن الدماغي" (Brain Rot) الى الظهور ليعبر عن الإرهاق الذهني والتراجع المعرفي الناتج من الغرق في بحر من المحتوى السريع والمشتت. ورغم أنه ليس تشخيصا طبيا، فإنه أصبح مرآة تعكس شعورا مألوفا لدى الكثيرين: ضباب يلف العقل، وتراجع في التركيز، وإرهاق عقلي يثقل الذهن بعد ساعات طويلة من التحديق في الشاشات. لكن كيف نشأ هذا المفهوم بصيغته الحديثة؟ ولماذا تحول إلى ظاهرة تؤرق عالمنا الرقمي اليوم؟

الإفراط في التعرض للمحتويات

يشير "التعفن الدماغي" إلى التدهور المتصور في الوظائف المعرفية نتيجة الإفراط في التعرض لمحتوى رقمي منخفض الجودة، أو متكرر، أو مفرط في التحفيز. ويشمل ذلك مشاهدة المقاطع القصيرة على منصات مثل "تيك توك" و"انستغرام" أو التمرير اللانهائي عبر الميمز، أو الانجراف خلف العناوين الجاذبة للمقالات، أو متابعة التعليقات المتداولة على المنشورات.

ويرتبط مفهوم "التعفن الدماغي" بفكرة "الفيضان المعلوماتي"، حيث يؤدي الكم الهائل من المحتوى المتاح عبر الإنترنت إلى إنهاك قدرة الدماغ على معالجة المعلومات والاحتفاظ بها. ومع مرور الوقت، يتسبب ذلك في صعوبة التركيز، ومشكلات في الذاكرة، وشعور عام بالإرهاق العقلي.

شاترستوك
فتاة تقضي وقت فراغها في الدردشة مع الأصدقاء

وتقول عالمة النفس الأميركية غلوريا مارك، الأستاذة المستشارة في جامعة كاليفورنيا، إيرفاين، في تصريحات خاصة لـ"المجلة" إن تعفن الدماغ يعود إلى مزيج من استهلاك المحتوى المنخفض الجودة، والتعرض لكمية هائلة من المعلومات، وقضاء وقت طويل أمام الشاشات.

تؤثر الطبيعة المجزأة للمحتوى الرقمي على قدرة الدماغ في تكوين ذكريات طويلة المدى

وتقلل هذه العوامل مجتمعة، قدراتنا البشرية، فالموارد المعرفية لدينا—أي قدرتنا على التركيز والانتباه—محدودة، والتعامل مع سيل لا ينتهي من الرسائل الواردة يؤدي إلى استنزافها "نحن نواجه ضغطا من زملائنا للرد على الرسائل بسرعة، كما أننا نسعى للحفاظ على علاقاتنا مع الأصدقاء والعائلة، مما يدفعنا للبقاء متصلين باستمرار والتأكد من الرد عليهم"، على حد قول عالمة النفس الأميركية التي تشير إلى أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي "تعمل على إبقاء انتباهنا مشدودا إليها لأطول فترة ممكنة."

الفوضى الذهنية

يؤدي الاعتماد المستمر على المحتوى الرقمي السريع إلى تراجع القدرة على التفكير النقدي، حيث يصبح الدماغ مبرمجا على تفضيل المعلومات السهلة والسريعة بدلا من التحليل العميق. كما أن التعرض الدائم للإشعارات والتبديل المتكرر بين التطبيقات والمواقع يخلق بيئة مشبعة بالتشتت، مما يضعف القدرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات المعقدة. ومع مرور الوقت، قد يتراجع الإبداع، إذ يفقد الدماغ قدرته على توليد أفكار جديدة أو الربط بين المعلومات بطريقة منتجة.

كما تؤثر الطبيعة المجزأة للمحتوى الرقمي على قدرة الدماغ في تكوين ذكريات طويلة المدى. فعند استهلاك المعلومات على شكل دفعات قصيرة وغير مترابطة، تقل احتمالية تخزينها في الذاكرة طويلة المدى، مما يؤدي إلى شعور بالفوضى الذهنية وزيادة في النسيان. كما أن التنقل المستمر بين المهام والانشغال بعدة أمور في وقت واحد، بات سمة أساسية في العصر الرقمي، حيث يتطلب الانتقال بين التطبيقات والمنصات قدرا كبيرا من التركيز، إلا أن هذا النمط من الاستخدام يستنزف الموارد المعرفية، مما يزيد صعوبة الحفاظ على الانتباه لفترات طويلة.

وتقول غلوريا مارك التي درست عملية الانتباه لأكثر من 20 عاما إنها وجدت تقلصا بشكل كبير في الانتباه "لم نعد قادرين بالكاد على التركيز على أي محتوى على الشاشة لفترة طويلة، إذ يبلغ متوسط انتباهنا لأي شاشة حوالى 47 ثانية قبل الانتقال إلى شيء آخر".

شاترستوك
"تعفن الدماغ"، كلمة أكسفورد للعام 2024

يستنزف التنقل السريع بين المهام على مدار اليوم—وهو ما يُعرف بتعدد المهام—مواردنا المعرفية ويؤدي إلى تراجع قدرتنا على التركيز، مما يجعلنا نشعر بما يُعرف بـ'تعفن الدماغ'. هذا الأمر يرتبط بارتفاع مستويات التوتر، وقد يؤدي إلى الإرهاق الذهني. إنه أمر حقيقي تماما.".

عند مناقشة تأثير التكنولوجيا على الصحة المعرفية، من الضروري تجنب السرديات المتطرفة التي تدعو إما إلى الهلع من تأثيراتها أو إلى إنكار أي آثار سلبية لها


وتعفن الدماغ ليس مجرد ظاهرة فردية، بل يعكس تحولا ثقافيا أوسع في طريقة استهلاكنا للوسائل الإعلامية، حيث لم يعد هذا التحول مقتصرا على تأثيره السلبي على الإبداع والتفكير النقدي، بل امتد ليشمل الطريقة التي نتفاعل بها اجتماعيا.

فبالنسبة الى الكثيرين، أصبح تعفن الدماغ موضوعا شائعا في الميمز والمنشورات الساخرة على الإنترنت، حيث يستخدم الناس الفكاهة كوسيلة للتعامل مع الشعور بالذنب أو الإحباط الناتج من الإفراط في استهلاك المحتوى الرقمي. وعلى الرغم من الطابع الكوميدي لهذه الطروحات، فإنها تعكس قلقا متزايدا في شأن التأثيرات السلبية للتعرض المفرط للإنترنت.

لا يقتصر تأثير "تعفن الدماغ" على الإدراك والتفكير فحسب، بل يمتد أيضا إلى الصحة النفسية. فالتدفق المستمر للمعلومات قد يؤدي إلى شعور متزايد بالقلق والتوتر، خاصة عندما يجد المستخدم صعوبة في الانفصال عن الإنترنت لفترات طويلة. ومع الاعتياد على التحفيز الرقمي المتواصل، تتراجع القدرة على الاسترخاء، ويزداد الشعور بعدم الرضا عن أوقات الفراغ التي لا تتضمن نشاطا رقميا محفزا.

إلى جانب ذلك، قد تتأثر العلاقات الاجتماعية، حيث يصبح التفاعل الرقمي أكثر حضورا على حساب التواصل المباشر. ومع مرور الوقت، يؤدي هذا التحول إلى تراجع جودة التفاعلات الحقيقية، مما قد يضعف الروابط الاجتماعية ويؤثر سلبا على الشعور بالانتماء والتواصل الحقيقي مع الآخرين.

مفاهيم خاطئة

رغم انتشار مفهوم "تعفن الدماغ" فإن هناك العديد من المفاهيم الخاطئة المرتبطة به، من أبرزها الاعتقاد بأن أي استخدام للتكنولوجيا يؤدي بالضرورة إلى تدهور معرفي، وهو تبسيط مُخِلّ للمشكلة.

ففي الواقع، ليست كل أشكال المحتوى الرقمي ضارة؛ فالاستفادة الواعية من التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة لتعزيز المعرفة والإبداع إذا تم استخدامها بشكل متوازن. كما يظن البعض أن الحل الوحيد هو الانفصال التام عن الشاشات، وهو تصور غير عملي في العصر الرقمي، حيث أصبحت التكنولوجيا جزءا أساسيا من الحياة اليومية. لذا، فإن المشكلة الحقيقية لا تكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في كيفية استخدامها وإدارتها.

شاترستوك
صورة لرجل يستخدم هاتفه المحمول مع رسم بياني رقمي لساعة

وعند مناقشة تأثير التكنولوجيا على الصحة المعرفية، من الضروري تجنب السرديات المتطرفة التي تدعو إما إلى الهلع من تأثيراتها أو إلى إنكار أي آثار سلبية لها. فبدلا من شيطنة الإنترنت بالكامل، ينبغي التركيز على بناء عادات رقمية متوازنة، ودعم استراتيجيات تعزز التفكير النقدي. كما يجب أن تستند النقاشات حول تلك الظاهرة إلى الأبحاث العلمية، لا إلى التخمينات أو التحيزات الشخصية، مع التأكيد أن لكل فرد مسؤولية في تنظيم استهلاكه الرقمي وفقا لاحتياجاته العقلية والمعرفية.

بعض ألعاب الفيديو، خصوصًا الحركية السريعة منها، يمكن أن تعزز مهارات عقلية متعددة، مثل تحسين الانتباه، وزيادة سرعة معالجة المعلومات، وتعزيز المرونة الإدراكية


أستاذة علم النفس دافني بافييه في جامعة جنيف بسويسرا

وبحسب غلوريا مارك فإن أحد أكبر المفاهيم الخاطئة حول تعفن الدماغ هو أنه ليس ناجما عن سبب واحد فقط—مثل وسائل التواصل الاجتماعي. بل هو نتيجة لمجموعة من العوامل المجتمعية التي تجعلنا عرضة لتأثير التكنولوجيا. فعلى سبيل المثل، في ثقافة العمل في الولايات المتحدة، هناك ضغط هائل لتحقيق الإنتاجية، وهو نابع من عدة عوامل، من بينها تاريخ طويل مرتبط بأخلاقيات العمل البروتستانتية، "وهذه الثقافة الإنتاجية تدفع الناس للبقاء على اتصال دائم، مما قد يؤدي إلى تعفن الدماغ"، على حد ما تقول.

محاولات استعادة التركيز

لمواجهة تأثير التعفن واستعادة التركيز الذهني، من الضروري وضع حدود واضحة لاستخدام الشاشات. فتحديد أوقات مخصصة لتصفح وسائل التواصل الاجتماعي أو مشاهدة الفيديوهات، إلى جانب استخدام تطبيقات تتبع وقت الشاشة، يساعد في التحكم في العادات الرقمية وتقليل التشتت. كما أن اختيار محتوى عالي الجودة يمكن أن يحفز التفكير ويساهم في تحسين القدرة على التركيز، بدلا من الاعتماد على المحتوى السريع والمشتت.

شاترستوك
طفل صغير يحمل حقيبة ظهر وهاتفا ذكيا ويجلس بمفرده في ممر المدرسة

وقد يكون التفاعل مع الكتب والمقالات المطولة وسيلة فعالة لتعزيز التحليل العميق للمعلومات، حيث يساهم في تطوير مهارات التفكير النقدي والتأمل. ومن المهم أيضا أخذ فترات راحة منتظمة بعيدا من الشاشات، إذ يساعد قضاء الوقت في أنشطة مثل المشي أو ممارسة الرياضة أو الانوجاد في الطبيعة على استعادة نشاط الدماغ وتقليل آثار التشتت الرقمي.

إضافة إلى ذلك، فإن الانخراط في أنشطة تتطلب تركيزا طويل المدى، مثل الكتابة أو حل المشكلات أو ممارسة الهوايات الإبداعية، يعزز مهارات التفكير النقدي ويساعد الدماغ على العمل بطريقة أكثر استدامة، مما يقلل تأثير الاستهلاك الرقمي المستمر.

وعلينا أن نشجع الناس على الانفصال عن وسائل التواصل الاجتماعي، حسب غلوريا مارك، بل وعن الانوجاد المطول على الإنترنت بشكل عام. من الناحية المثالية، يحتاج الناس إلى تطوير مهاراتهم في التركيز المستمر، ويمكن تحقيق ذلك من خلال قراءة المحتوى الطويل. ينبغي أن نشجع على قراءة النصوص الطويلة، ويجب أن يبدأ ذلك من المدرسة، "وهناك توجه متزايد نحو تقليل عدد الكتب التي يتم تكليف الطلاب قراءتها في مراحل التعليم الأساسي والجامعات، مقارنة بما كان عليه الأمر في الماضي.".

حل آخر قد يبدو مفاجئا هو ألعاب الفيديو، حيث أشارت أستاذة علم النفس دافني بافييه التي تعمل في جامعة جنيف بسويسرا، وأيضا في قسم علوم الدماغ والإدراك في جامعة روتشستر بالولايات المتحدة، في تصريح خاص لـ"المجلة"، إلى بحثها حول تأثير ألعاب الفيديو على الإدراك والقدرات العقلية. وأوضحت أن بعض ألعاب الفيديو، خصوصا الحركية السريعة منها، يمكن أن تعزز مهارات عقلية متعددة، مثل تحسين الانتباه، وزيادة سرعة معالجة المعلومات، وتعزيز المرونة الإدراكية. لكنها أكدت أن هذه الفوائد لا تنطبق على جميع ألعاب الفيديو، بل تقتصر على أنواع محددة منها.

وتقول بافييه إن تحقيق هذه الفوائد لا يتطلب جلسات لعب مفرطة، بل يكفي اللعب لمدة 30 دقيقة يوميا، من 3 إلى 5 مرات أسبوعيا، على مدار عدة أشهر لتحقيق التحسن الإدراكي المرجو، دون الحاجة إلى الإفراط في اللعب.

رغم الانتشار الواسع لهذه الظاهرة، فإن الوعي بها واتخاذ خطوات عملية للحد من تأثيرها، يتيح إمكان استعادة القدرة على التركيز والتفكير العميق. فالدماغ قادر على التأقلم وإعادة بناء أنماط تفكيره، شرط توفير بيئة تدعم التحفيز المعرفي المتوازن. ومن خلال إعادة النظر في عاداتنا الرقمية، وتبني ممارسات أكثر وعيا، يمكن الحد من تأثير "تعفن الدماغ" وتعزيز التفاعل الإيجابي مع التكنولوجيا.

font change