هناك من يبشر بأن العلم الحديث سيحل كل المشكلات. ويذهب الفيلسوف الأرجنتيني المعاصر ماريو بونجي إلى أن العلم سوف يحل كل معضلة حتى مشكلة الفقر وأن أمور الإنسان كي تكون مواتية فإن من المتعين عليه هجر كل العلوم الزائفة وكل ما يتعارض مع النزعة العلموية الواقعية المادية. لا يقصد بالعلوم الزائفة كتب تطوير الذات وما أشبهها فقط، بل يقصد دائرة واسعة يدخل فيها التحليل النفسي. وينتقد التيارات الفلسفية كالوجودية، خصوصا كما تتجلى مع مارتن هايدغر، وعلم الفينومنولوجيا كما يظهر مع هوسرل وهايدغر مرة أخرى. وهو خصم لكل تيار ما بعد الحداثة وفلسفة التأويل الحديثة (الهرمينوطيقا). ما سوى العلم وفلسفة العلم لا يمكن أن يكون معرفة موثوقة، من وجهة نظره.
هذا الرأي العلموي المتطرف يوحي مباشرة بأنه خرج من معمل أو مختبر تنتشر فيه حاويات عينات الدم، مثل حال كل الوضعيين. هذه هي وجهة نظر العلماء منذ أواخر القرن التاسع عشر. هم أناس مفتونون بالعلم، أو يمكن أن نقول إن حياتهم العلم. من ذلك أن برتراند راسل كان يقرر أن السعادة غير ممكنة إلا ما يقع صدفة في الفم كثمرة يانعة، وأضاف إلى ذلك السعادة التي يجلبها البحث العلمي.
قامت الآلات بدور مذهل في زمن فيروس كورونا حيث كانت تزود البشر بمعلومات نافعة للغاية يواجهون بها الوباء، لكنها في نهاية المطاف آلات عمياء محدودة الجهد
هذه المعايير فيما يبدو خاصة بالعلماء، لكن ماذا عنا نحن البشر العاديين؟ عندما أنظر في علاقتنا بالعلم، وأستبعد التكنولوجيا لأنها من منتجات العلم وليست العلم نفسه، أجد أن أثر العلم الحديث والقديم في حياتنا كان وما زال ضئيلاً جدا. لم يبشر أحد بموت الفلسفة إلا وهو غير مستظهر لتاريخ الفلسفة، ولم يدع أحد لتأليه العلم إلا وهو ينطلق من تصور مهزوز لتاريخ العلم وأين يقف اليوم.
من جهة أخرى، العلم لا يتكلم، كما كتب هايدغر ذات مرة. ما يسمى بالعلم هو طريقة حسابية في التفكير، طريقة من طرائق العقل الإنساني. فلو أننا أمعنا النظر لوجدنا أن عقل الإنسان المبدع هو من تكلم، وهو الذي يصحح أخطاءه العلمية باستمرار. اليوم قلّت الأخطاء، ليس بسبب الذكاء الاصطناعي، بل بسبب استخدامات الإنسان للذكاء الاصطناعي وحسن توظيفه له. لقد قامت الآلات بدور مذهل في زمن فيروس كورونا حيث كانت تزود البشر بمعلومات نافعة للغاية يواجهون بها الوباء، لكنها في نهاية المطاف آلات عمياء محدودة الجهد. إنها تحتاج إلى خيال الإنسان، في حين وُلدت هي في رحم العلم، وليس لديها خيال كخيال الإنسان. لا بأس في أن يقال إن العلم حلّال مشاكل، لكن الإشكال في عدّه الطريق الوحيد.
إذا تحررنا من النظرة العلموية الصارمة التي ستزيد مشكلاتنا بدلا من حلها، يمكن أن نقول إن البشر في كل تحدٍ يواجههم لا بد لهم من تشغيل المحركين الأكثر أهمية: الثقافة والإبداع. وذلك لأن العقل يولد من تجاربنا الثقافية، والأعمال الفنية تزوده بكل حكمة العالم. التحرر من ربط الفلسفة بالعلم، سيفتح عيوننا على علاقات الفلسفة الأخرى، ومنها علاقة الفلسفة بالفن.
الفن على مدى العصور كان وما زال وسيلة يعبر بها الإنسان عن مشكلاته. وإذا أمعنا النظر فسنجد أنه يمكن أن يزودنا أيضا بالحلول، وسنتذكر أن الدكتور أبو نصر الفارابي كان يداوي مرضاه بالموسيقى ويتولى بنفسه عزف العود بين أيديهم. أي إن الفن بمعناه العام الشامل يمكن أن يكون وسيلة فعالة لحل المشكلات. صحيح أن الفنانين الحقيقيين لا يتكلمون كثيرا، وإذا تحدثوا لا يكون حديثهم منمقا، أو قد لا يُحسنون الحديث، كأسماء متعددة نعرفها، فضلا عن غياب منطق العقل عما يقوله أكثرهم، إلا أن لديهم أشياء أكثر أهمية من التنظير. إنها مشغولون بصناعة الفن.