الفلسطينيون في الداخل... نقاش عن المختلف والمجدي في الخيارات الكفاحية

المستقبل الفلسطيني يبنى على تغيير تدريجي ومخطط له وليس من خلال تحرير عسكري وبضربة واحدة

أ.ب
أ.ب
متظاهرون فلسطينيون يرشقون الشرطة الإسرائيلية بالحجارة خلال مواجهات في حي شعفاط في القدس الشرقية، 3 يوليو 2014

الفلسطينيون في الداخل... نقاش عن المختلف والمجدي في الخيارات الكفاحية

حيفا- الفلسطينيون من مواطني إسرائيل هم سُدس الشعب الفلسطيني. قامت مجموعات فلسطينية مختلفة، بعد النكبة بالمبادرة للنضال، كل حسب مكانها وإمكانياتها، من أجل التصدي للسياسات الإسرائيلية المتمثلة بعدة استراتيجيات لإخضاع الفلسطينيين والهيمنة عليهم، أو اقتلاعهم من أرضهم، وتمكين الدولة اليهودية من وطنهم.

في غضون ذلك اختارت قيادات فلسطينية بقيت في وطنها، ورفضت الاقتلاع والتهجير، تمتين وجودها وصمودها في أرضها، مع القبول بالمواطنة الإسرائيلية المفروضة عليهم مقابل البقاء في وطنهم من جهة، والحصول على بعض الحقوق المدنية الإسرائيلية من الجهة الأخرى.

قد نتفق أو نختلف في دوافع ذلك الخيار الاستراتيجي، إلا أن هذا البقاء كان شاهدا وشهادة على أن الجليل والمثلث والنقب والساحل هم جزء من جغرافيا الوطن الفلسطيني، وأن جزءا من الفلسطينيين ببقائهم رسموا حدود الوطن، وبنضالهم وصمودهم، شكلوا ويشكلون حجر الزاوية في معنى فلسطين، وذلك بقبولهم خيار المواطنة الاستعمارية، ومعاناتهم الدائمة جراء سياسات السيطرة والتفوق العرقي، الذي ما فتئت إسرائيل على الدفع بها قدما.

في الواقع حدد هذا الخيار شكل ومضمون الحركة الوطنية الفلسطينية، التي نشأت في منتصف الستينات، بحيث تشكلت خياراتها إجمالا على أساس استبعاد فلسطينيي الداخل، لكونهم مواطنين في إسرائيل، من الحركة الوطنية وتشكيلاتها وخياراتها السياسية والكفاحية وخصوصا خيار "حل الدولتين"، الذي يستثني الفلسطينيين من مواطني إسرائيل من المستقبل الفلسطيني.

هذا الخيار لم يسد أفق التأثير المتبادل بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر وفي بلدان اللجوء، إذ جهز قادة ونشطاء فلسطينيون في الداخل، عمليا، بصمودهم ونضالهم، جزءا مهماً من مسيرة العمل الوطني الفلسطيني في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وتمكنوا من بناء مؤسساتهم الوطنية، وتثبيت أهلهم ووعيهم ومستقبل شعبهم في الداخل، والتي ترافقت مع بناء مؤسسات وطنية ومدنية فلسطينية في الضفة والقطاع بعد احتلالها من قبل إسرائيل عام 1967.

عمليا، في سنوات ما بعد النكبة والهزيمة والاحتلال، رسم رعيلهم الأول طريق الحركة الوطنية، ولم يقبلوا بأن يكونوا مجرد عوامل ساكنة تلعب بها إسرائيل كما تريد. وثبتوا ذلك بنضالاتهم المتواصلة والتي قادها تارة قوميون مثل منصور كردوش وصالح برانسي، والجبهة العربية الشعبية، وحركة الأرض، وتارة أخرى شيوعيون وأمميون بقيادة إميل حبيبي وإميل توما وتوفيق طوبي وتوفيق زياد وصليبا خميس وقائمة طويلة إضافية من المناضلين المستقلين أمثال رئيس مجلس كفر ياسيف المحلي، اليوناني بأصله، الفلسطيني بهويته، يني يني، وغيره من قيادات ونشطاء العمل الوطني.

مقابل استراتيجية البقاء والتجذر وحماية هوية الأرض والإنسان اختار نشطاء آخرون في الشعب الفلسطيني، وبحسب مكانهم وإمكانياتهم، طريق بناء الحركة الوطنية في اللجوء استعدادا للعودة، أو التحرير، مع انتهاج خيار "للكفاح المسلح" كاستراتيجية نضالية أساسية، تارة تساند جهود الدول العربية، وتارة تظهر كفعل فلسطيني مستقل يراهن على قدراته الذاتية.

الأثمان الفلسطينية التي دفعت مهولة وكارثية بمقاييس غير مسبوقة وتثبت، لمرة إضافية ولو بعد حين، أن الكفاح المسلح كأداة نضال أساسية في مواجهة إسرائيل ليست له جدوى

بعد سنوات طويلة من الترويج لفكرة الكفاح المسلح اتضح لباحثين ونشطاء فلسطينيين مركزيين ومنهم، على سبيل المثال، ماجد كيالي ويزيد صايغ، في كتاباتهم وكتبهم عن الكفاح المسلح للحركة الوطنية الفلسطينية، بأن الكفاح المسلح، حتى ولو من خلال عمليات محدودة متوافقة مع مبدأ حرب العصابات، لم تكن استراتيجية فلسطينية موفقة لأجل التحرير، ولم يؤخذ بها جديا، حتى من قبل من دعا إليها، بل استعملت الفكرة كأداة لاستنهاض الفلسطينيين وبناء هويتهم وكيانيتهم الجامعة، وتأكيد حضورهم السياسي، أكثر بكثير من كونها، لوحدها، أداة نضالية ضد إسرائيل، بخاصة لعدم مناسبتها مع الظروف الدولية والعربية وموازين القوى.

بعد "اتفاق أوسلو" وإقامة السلطة الفلسطينية (1994) بالأساس بفضل النضال الشعبي للفلسطينيين في الضفة والقطاع، عادت فكرة الكفاح المسلح إلى الواجهة في ثلاث مناسبات رئيسة: الأولى، بعد عملية اغتيال يحيى عياش وقيام "حماس" بسلسلة من التفجيرات في العمق الإسرائيلي (1996-1998). الثانية كانت خلال الانتفاضة الثانية (2000-2003). والثالثة بعد إقدام "حماس" على عمليتها العسكرية الناجحة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ضد أهداف إسرائيلية في غلاف غزة.

بيد أنه، في كل تلك الحالات، كانت النتائج كارثية على الفلسطينيين، ما ثبت ضرورة العودة إلى خيار النضال الشعبي للفلسطينيين في الضفة وغزة (1967-1994)، وللفلسطينيين في إسرائيل الذين اختاروا طريق الصمود وبناء الذات والتصدي لأهداف وسياسات إسرائيل ضدهم واستمروا في التمسك بخيارات نضالية شعبية ورسمية تثبت بقاءهم وإنجازاتهم ولا تهدده، وحتى إنهم طوروا رؤيتهم تدريجيا في التصدي للفوقية اليهودية والمطالبة بدولة المواطنين المتساوين، وحتى إن بعضهم، وغيرهم من النشطاء الفلسطينيين خارج إسرائيل ذهبوا إلى اقتراح هذه الأهداف وهذا الطريق مسارا لعموم الفلسطينيين من خلال اقتراح مشروع الدولة الواحدة والديمقراطية،وخصوصا بعد ثبوت فشل مشروع الدولتين وتأكيدا لمبدأ "وحدة الأرض والشعب والقضية".

أ ف ب
الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين أثناء توقيع اتفاق أوسلو للسلام في حديقة البيت الابيض في 13 سبتمبر 1993

كان هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر، وخصوصا الهجوم الواسع على شكل هجوم عسكري لجيش منظم وتداعياته سببا لانتشار الخوف لدى الفلسطينيين في إسرائيل ونخبهم من إمكانيات الانتقام الإسرائيلي من عموم الفلسطينيين، وفي غزة تحديدا من جهة، وبعدها في الضفة، ومن إمكان سحب مواطنية فلسطينيي 48، أو التقليل من أهميتها والانقضاض عليهم، كأفراد وكجماعة، من جهة أخرى. وقد أثبتت فعلا هذه المخاوف صحتها. إذ إن إسرائيل المجروحة والمهزومة بدأت في عملية انتقام واسعة غير مسبوقة في الصراع، وتخللها تطهير عرقي وإبادة واسعة في غزة (وفي لبنان)، وفي المقابل عمليات انتقام واستهداف في الضفة والقدس والداخل.

وفي المحصلة فإن الأثمان الفلسطينية التي دفعت خلال تلك الفترة (13 شهرا) هي مهولة وكارثية بمقاييس غير مسبوقة وتثبت، لمرة إضافية ولو بعد حين، أن الكفاح المسلح كأداة نضال أساسية في مواجهة إسرائيل ليست له جدوى، مع دولة تمتلك ترسانة هائلة من الأسلحة الفتاكة، والأقوى تكنولوجياً، فضلا عن تمتعها بدعم لا محدود من الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، كما شهدنا، بل إن مردودات ذلك الخيار، في مختلف المراحل، كانت سلبية جدا على الفلسطينيين أنفسهم، كشعب، وعلى صمودهم وتحديهم لإسرائيل ولهيمنتها، هذا طبعا لا يقلل أبدا من حق الفلسطينيين في التصدي لإسرائيل ولسياساتها في كل الطرق النضالية المختلفة، وضمنها الكفاح المسلح، والتي يكفلها لهم القانون الدولي، لكن هذا الحق لا يعني اللجوء أوتوماتيكيا إلى أدوات نضالية مسيئة للفلسطينيين ولوجودهم في أرضهم ولمستقبلهم كشعب.

بعض نخب الفلسطينيين في إسرائيل، بخاصة الذين يدعون إلى خيار النضال الشعبي غير العنيف، والتصويت للكنيست الإسرائيلي، في سبيل التأثير على مستقبل شعبهم

غالبية الفلسطينيين في إسرائيل ونخبهم فهموا خطورة المرحلة وحساسيتها، حتى إنهم اختاروا طريق التهدئة وضرورة وقف الحرب، لكنهم لم يقوموا حتى "بأضعف الإيمان" من طرفهم احتجاجا على الحرب وويلاتها. وربما كان من الممكن المبادرة لعمل ونشاط منتظم أكثر بما يشمل، الاحتجاج أكثر، ودعم غزة إنسانيا أكثر، والقيام بنشاطات دولية أكثر. لكنهم أثروا بفضل تجربتهم وقرار واضح من قياداتهم النأي بأنفسهم حتى عن القيام بنشاطات جماعية ضمن حدود واضحة. وكل هذا يجب أن يكون موضعا للنقد والتمحيص والتفكير الجماعي، والاستئناف على حالة السكون، أو على الأقل التفكير في ذلك في المستقبل، خصوصا أن إسرائيل الرسمية والشعبية تنحو نحو الفاشية واستعمال العنف المنظم والشعبي ضد الفلسطينيين، داخل وخارج الخط الأخضر.

الغريب أن بعض نخب الفلسطينيين في إسرائيل، بخاصة الذين يدعون إلى خيار النضال الشعبي غير العنيف، والتصويت للكنيست الإسرائيلي، في سبيل التأثير على مستقبل شعبهم، والذين لم يقوموا، خلال الفترة منذ السابع من أكتوبر 2023، حتى بأقل ما يمكن من دعم غزة المنكوبة إنسانيا، ولم تنظم عمليات احتجاج ولو بسيطة على الحرب الإسرائيلية على غزة، ولم يبادروا إلى جهود دولية لفضح إسرائيل وارهابها. غريب أن ما قام به بعض هؤلاء، عبر تحليلات لمحطات إعلامية أو مقاطع صغيرة منشورة على "فيسبوك" و"تك توك" و"إنستغرام"، والتنظير للحرب في غزة باعتبارها معركة وجودية وأنها سوف تكون الفيصل التاريخي، فإما وجود إسرائيل وإما وجود الفلسطينيين، حتى إن بعضهم ينظر ويدعو لاستمرار المعركة والمواجهة حتى النهاية، غير آبهين لواقع أن نهاية أحد الطرفين، في ظل ميزان القوة مع إسرائيل داخليا وخارجيا، تعني نهاية الفلسطينيين وليس إسرائيل، وغير ملتفتين لويلاتها ولنتائجها الكارثية للفلسطينيين واللبنانيين المستهدفين مباشرة من إسرائيل.

أ.ف.ب
فلسطينيون يسيطرون على دبابة إسرائيلية من طراز ميركافا بعد عبور السياج الحدودي مع إسرائيل من خان يونس جنوب قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023

هؤلاء وغيرهم ينطلقون من فكرة أننا نعيش مرحلة التحرير على طريقة القومجيين والإسلامويين الذين يعتبرون كل رصاصة وكل عملية، ولو محدودة، بداية للتحرير، غير آبهين بما يتلو ذلك من الآلام والكوارث للمستهدفين مباشرة من قبل إسرائيل، وينظرون لفكرة أن كل تضحية جائزة في سبيل التحرير على طريقة "المليون شهيد" في الجزائر.

يتجاهل هؤلاء كل الدروس التي من الممكن تعلمها منذ النكبة وحتى يومنا هذا، وأهمها أن المستقبل الفلسطيني يبنى على تغيير تدريجي ومخطط له، وليس من خلال تحرير عسكري وبضربة واحدة وهجوم واحد كما دعا محمد الضيف في بداية الحرب الحالية.

الإصرار على تجربة الفلسطينيين في إسرائيل وفي الضفة والقطاع حتى إقامة السلطة الفلسطينية، هو جوهر الالتزام الوطني، وليس التذيل للتجارب غير الموفقة لباقي الفلسطينيين

تحرير فلسطين يعني تحريرها من الظلم والهيمنة والاستعلاء، وعلى أساس جعل فلسطين التاريخية مساحة للعيش الإنساني والمتكافئ على أساس وجود الإنسان الفلسطيني، وليس بعد إبعاده أو إقصائه أو محو وجوده تحت التراب بعد استهداف إسرائيل له، وأن هذا ممكن من خلال التزام واضح بقيم العدالة والإنصاف والديمقراطية وحق الفلسطينيين وغيرهم من إسرائيليين أو آخرين في العيش بفلسطين كدولة ملتزمة بالقانون الدولي والمواطنة المتساوية والديمقراطية.

أقصد أن الصمود والوجود في الوطن هو الشرط الأساسي الملزم لأي مستقبل فلسطيني حتى لو طال أمد الوصول إليه. إن فكرة وحدة الأرض والشعب والقضية للفلسطينيين تستدعي استنباط رؤية وطرق نضالية مشتركة لعموم الفلسطينيين، وليس لجزء منهم، رؤية ووسائل يستطيع أن يلتزم بها وينفذها الفلسطيني في مخيم نهر البارد وفي غزة وفي أريحا وفي الناصرة في آن.

ومع تزايد جدي لفرص إسرائيل فرض نظام التفوق العرقي والآبرتهايد في فلسطين التاريخية، بما يشمل غزة والقدس والضفة والانقضاض على مكانة ومواطنة الفلسطينيين في إسرائيل قبل الحرب وخلالها، تقرب إسرائيل مكانة الفلسطينيين عبر الخط الأخضر ليكونوا بنفس المكانة والوضعية لباقي الفلسطينيين في وطنهم، مما يجبر الفلسطينيين على التفكير والعمل على تطوير رؤيتهم وطريقهم النضالي بشكل مشترك. إن النتائج المهولة والكارثية لحرب إسرائيل على غزة تثبت ذلك وتعزز من أهمية الدعوة لتثبيت وصمود الفلسطينيين بما أمكن من الوسائل، قبل أي شيء آخر.

أ.ف.ب
أحد شوارع مدينة جنين بالضفة الغربية المحتلة في 5 يوليو 2023

إن تجربة الفلسطينيين في إسرائيل بعد النكبة وحتى يومنا هي مهمة جدا وركن أساسي في التحضير للمستقبل، وفي بناء تصور للمستقبل الفلسطيني، لعموم الفلسطينيين. أيضا من البديهي أن تكون التجارب الفلسطينية في الداخل وفي الضفة الغربية وغزة حتى 1994، وهي التجارب الناجحة نسبيا في مواجهة الاحتلال والهيمنة والتمييز، ركنا مهماً كخيار كفاحي ممكن، لمجمل الشعب الفلسطيني، في المستقبل، وليس فقط الاحتكام إلى تجربة واحدة تتمثل في خيار الكفاح المسلح، الذي فرضته الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج، وفي ظروف عربية ودولية معينة، والذي ثبت ليس فقط قصوره عن تحقيق الأهداف الفلسطينية، وإنما أيضا جذب مآس وويلات على الفلسطينيين، لعل أفظعها ما تفعله إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها في غزة.

الإصرار على تجربة الفلسطينيين في إسرائيل وفي الضفة والقطاع حتى إقامة السلطة الفلسطينية، هو جوهر الالتزام الوطني، وليس التذيل للتجارب غير الموفقة لباقي الفلسطينيين أو الالتحاق بدعوات وهمية وتصورات خرافية تتكئ على مبدأ الحرب الوجودية والمفتوحة كما يدعو لها بعض العرب والفلسطينيين بشكل منقطع كليا عن الواقع، وبما يتعارض مع تصور فلسطين، كل فلسطين، وطنا ديمقراطيا، ومنفتحا وتعدديا، كما يجب، وطنا يحفظ حقوق الفلسطينيين وحقوق غيرهم ممن يختارون العيش معهم في وطن الجميع.

font change