يكابد المثقف العربي مختلف حالات النفي، القسرية منها والاختيارية. والاغتراب عن الوطن لا يعدو كونه إحدى هذه الحالات. بل ربما صح القول إنه في الأغلب أهون هذه الحالات، أي أخفها وطأة. وبسبب من الأوضاع المعقدة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، والتحديات المصيرية التي تواجهها في الداخل والخارج، تعددت وتنوعت مفاهيم "النفي" و"المنفى" لدى المثقف العربي، الذي يجد نفسه حائرا بين الشكوى من المنفى وبين التغني به، متنازعا بين منافيه الداخلية ومنافيه الخارجية. وقد شاع الكلام كثيرا على المنفى ومفاهيمه في الأدب العربي الحديث، وبات واحدا من الموضوعات البارزة فيه.
المثقفون العرب على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم عثروا- من خلال الكلام عن المنفى بمختلف أبعاده- على سبيل من سبل البحث عن الذات. وكثيرا ما وجد المثقف العربي في المنفى الاختياري نافذة وحيدة نحو الرحابة والانعتاق، حيث يمكن الشعور بالكينونة الفردية، حيث يمكن التمتع بقدر من الحرية الفردية، التي تذهب بها مفاهيم الجماعة، ومقتضيات الإجماع، في تشكلاتنا الاجتماعية، التي يرى فيها المثقف العربي منافيه القسرية.
العائلة، الجماعة، الأمة، القبيلة، الحزب، التراث، الطائفة، المذهب، العقائد، الثقافات الشرقية، الثقافات الغربية... إلخ. هذه العناوين... وغيرها وغيرها، تتراءى للمثقف العربي عناوين لمناف قسرية. وتتراءى له أيضا عناوين للبحث عن ذاته الفردية، الضائعة أو المنهوبة. وهو إذ ينتقل أحيانا من مكان إلى آخر، من بلد إلى آخر، أو بالأحرى إذ ينأى عن وطنه، عن بلد ولادته ونشأته، إنما يفعل ذلك توخيا للمكان الأنسب لمتابعة بحثه عن نفسه، توخيا للمكان الذي يتيح له قدرا كافيا من الحرية، ومن التنفس والتأمل والتعبير.
في مقابل المحظورات الكثيرة والمقولات النهائية التي واجهها المثقف العربي في بلده الأصلي، واجه مسألة العلاقة بالآخر، متمثلا على وجه الخصوص بالثقافة الغربية.
ومن بين أبرز المثقفين العرب، هناك من احتفى بصدمته بالثقافة الغربية، وبآثار هذه الصدمة التي شكلت لديه مصدر معرفة جديدة، بل مصدر إلهام لإبداعاته وأهم كتاباته.
من هؤلاء المثقفين البارزين، نذكر ثلاثة على سبيل المثال لا الحصر، هم: طه حسين، وإدوارد سعيد، وأدونيس. وقد تحدث كل منهم، في ما كتبه من أدب يقترب من السيرة الذاتية، عن تجربته في المنفى أو المهجر، في النفي أو الاغتراب، كما تحدث كل منهم عن غنى هذه التجربة، وعما تفتحه من آفاق معرفية تفضي إلى المزيد من التفتح والتبلور.
لقد توافقوا- بطريقة أو بأخرى- على أن معرفة الآخر هي ركن أساسي من معرفة الذات. وقد عبر أدونيس عن ذلك بقوله: "أنا لست أنا"، متمثلا بقول الشاعر الفرنسي رامبو: "أنا آخر"، أو"أنا (هو) آخر".
ماذا نقول اليوم عن المثقف العربي في خضم التعقيدات المستجدة أو في سياق الأحداث التي تعصف بالعالم العربي؟ ألا يعيش المثقف العربي اليوم على هامش الأحداث الجارية؟
فالأنا في نظر المثقف العربي (المتنور) أو (المنفتح) لم تعد ثابتة أو نهائية. وإنما صارت متحولة، بل صار من الواجب أن تتشكل من معطيات جديدة تتفاعل مع المعطيات الموروثة، وتساعد على بلورتها وعلى تجديدها. وفي هذه الحالة لا يكون التوجه إلى الآخر تغربا، بل يكون خلافا لذلك تجددا. وقد استأنس أدونيس مرات كثيرة، في تعبيره عن هذه الفكرة، بهذا البيت المشهور لأبي تمام:
وإن بقاء المرء في الحي مخلقٌ
لديباجتيه فاغترب تتجدد
ماذا نقول اليوم عن المثقف العربي في خضم التعقيدات المستجدة أو في سياق الأحداث التي تعصف بالعالم العربي؟ ألا يعيش المثقف العربي اليوم على هامش الأحداث الجارية؟ ألا تزيده هذه الأحداث نفيا على نفي؟ هل نقول إن تكاثر المنافي التي يعيشها المثقف العربي سوف يزيده تخبطا، أم سوف يزيده معرفة بنفسه وبالآخر؟
إنها مأساة حقيقية، مأساة المثقف العربي المعاصر: ليس له سوى المنفى لكي يحقق ذاته، وقضيته حيال المنافي الكثيرة التي يواجهها هي: كيف يحسن اختيار منفاه؟ وأكثر ما يشعر بالغربة عندما يرى نفسه "غريب الوجه واليد واللسان" في وطنه.
لقد عبر المتنبي قديما عن شعوره بالغربة في بلد غير عربي إذ قال:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
أما اليوم، فمن هو الفتى العربي؟ وكيف يكابد غربته في بلاده؟ وأين يتجه لكي يعمل على التخفيف من الشعور بها؟