روسيا 2025... نحو تعزيز النفوذ في السودان

الاحتفاظ بعلاقة استراتيجية مع طرفي الحرب

رويترز
رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل حفل تنصيبه في الكرملين، موسكو في 7 مايو 2024

روسيا 2025... نحو تعزيز النفوذ في السودان

أعادت التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية السوداني، الدكتور علي يوسف، خلال مؤتمر صحافي عقده في العاصمة الروسية موسكو في الأسبوع الثاني من فبراير/شباط 2025، إثارة النقاشات حول طبيعة التقارب المتنامي بين السودان وروسيا، وتداعياته الجيوسياسية في منطقة البحر الأحمر.

جاءت هذه التصريحات ردا على سؤال حول مصير المفاوضات المتعلقة بمشروع إقامة قاعدة عسكرية روسية على السواحل السودانية المطلة على البحر الأحمر، وهو الملف الذي ظل محل تحليلات دولية مكثفة نظرا لأهمية المنطقة الاستراتيجية، التي تعد ممرا حيويا للتجارة العالمية وتشهد تنافسا بين القوى الكبرى.

أكد الوزير يوسف في إجابته الموجزة: "نحن متفقون تماما في هذا الموضوع، ولا توجد أي عقبات... لا توجد عقبات، نحن متفقون تماما"، قبل أن يختتم حديثه بتصريح غامض أضاف إليه: "لا يوجد لدي شيء لأضيفه حول هذا الموضوع". هذه العبارات، رغم اختصارها، أعادت إشعال الأسئلة وإثارة قلق كثير من الأطراف حول مدى تقدم سير المفاوضات والتفاهمات لتحويل مشروع القاعدة البحرية الروسية إلى حقيقة. لا سيما في ظل التحديات السياسية التي فرضها وضع الحرب في السودان، والضغوط الدولية المحتملة التي قد تواجهها الحكومة السودانية من الغرب في حال المضي قدما في التقارب مع موسكو وتأسيس القاعدة. ولهذا فربما تبدو الطبيعة المقتصبة لتصريحات وزير الخارجية السودانية محاولة للتنصل من التصريح بمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع الحساس.

الشاهد أن روسيا قد احتفظت بعلاقات متوازية مع جانبي الحرب في السودان. فبينما استمرت علاقاتها الرسمية، ومبيعات الأسلحة وتبادل الزيارات مع الحكومة السودانية في العاصمة المؤقتة بورتسودان، استمرت أيضا في العلاقة مع ميليشيا "قوات الدعم السريع" عبر المشاركة المباشرة لعناصر قوات مجموعة "فاغنر" (أو "الفيلق الأفريقي" كم تمت إعادة تسميته) في القتال إلى جانب الميليشيا بالإضافة إلى الدعم التكتيكي وتوريد الوقود والمعدات وصواريخ أرض-جو إلى ميليشيا "الدعم السريع" عبر ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى التي تتمتع روسيا فيهما بنفوذ واسع. وكان طموح إنشاء القاعدة البحرية الروسية على سواحل البحر الأحمر السودانية على الدوام هو أحد محركات موسكو في علاقاتها مع السودان.

مشروع القاعدة البحرية الروسية في السودان هو مبادرة قديمة تم التوصل إلى اتفاق حولها في عام 2017، خلال زيارة الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير إلى روسيا. وخلال لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي، طلب البشير بشكل صريح حماية روسية ضد ما اعتبره تعاملا عدائيا من الولايات المتحدة تجاه نظامه.

بالإضافة إلى ذلك، قدم البشير لبوتين فكرة استخدام السودان كبوابة لتوسيع النفوذ الروسي في أفريقيا ومنطقة البحر الأحمر. وقد تم الاتفاق على إنشاء قاعدة بحرية لوجستية للقوات الروسية على الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر، لتعزيز وجود روسيا العسكري في المنطقة. وكان الاتفاق أن تستوعب القاعدة على الدوام أربع سفن حربية تعمل بالطاقة النووية بالإضافة إلى طاقم أرضي للمهمات اللوجستية.

كان طموح إنشاء القاعدة البحرية الروسية على سواحل البحر الأحمر السودانية على الدوام هو أحد محركات موسكو في علاقاتها مع السودان

منذ حينها ظل النفوذ الروسي في السودان يتزايد بشكل مطرد وشمل التعاون العسكري والوجود العلني لـ"فاغنر"، بالإضافة إلى التعاون الاقتصادي الوثيق في مجال تنقيب الذهب. حيث بدأت الشركات الروسية نشاطها في السودان وكانت أولاها شركة "كوش" للاستكشاف والتنقيب، وهي شركة روسية حصلت على حقوق التنقيب في المربع (30) بولاية البحر الأحمر. أسست "كوش" مصنع الاتحاد لمعالجة الذهب بالشراكة مع الحكومة السودانية، بهدف معالجة 200 ألف طن متري من مخلفات الذهب سنويا.

ثم توسعت أنشطتها في 2017 عبر شراكة مع شركة "الجنيد" المملوكة لأسرة قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والتي ساعدتها في الحصول على امتيازات جديدة في 14 مربعا إضافيا للتنقيب. تلت "كوش" شركة "سيبيريا" الروسية التي منحتها حكومة البشير امتيازات للتنقيب في ولايتي البحر الأحمر ونهر النيل، وفي 2017، خلال زيارة الرئيس المخلوع عمر البشير إلى روسيا، تم توقيع اتفاقية جديدة منحت "كوش" امتيازات إضافية للتنقيب، كما حصلت مجموعة "إم إنفيست"، الذراع الاستثمارية لمجموعة "فاغنر"، على امتيازات مماثلة.

وقامت "إم انفيست" في 2018، بتأسيس شركة "مروي غولد"، والتي تمتعت الشركة بتسهيلات استثنائية من نظام البشير، إذ أصدر وزير شؤون الرئاسة تعليمات لوزير المعادن حينها بمنحها ترخيصا استثنائيا لمعالجة مخلفات الذهب رغم الحظر المفروض على الشركات الأجنبية. كما تنازلت الحكومة عن حصتها البالغة 30 في المائة في مربع الامتياز (A3) لصالح الشركة، ومنحتها حقوق تنقيب في جنوب كردفان، ونهر النيل، والبحر الأحمر، ومربعات أخرى. وتوسعت "مروي غولد" لاحقا عبر تسجيل شركات تابعة لها في مجالات الزراعة، وتصنيع الزيوت، ومعالجة نفايات التعدين، مستفيدة من نفوذها داخل النظام. وفي آخر أيام حكمه، أمر البشير بالتنازل عن أسهم الحكومة السودانية في قطاع تعدين الذهب بولاية البحر الأحمر لصالح الشركة. وقامت شركتا "الصولاج" و"مروي غولد" بتبادل ملكية الأصول والممتلكات عدة مرات للالتفاف على العقوبات ضد "فاغنر"، بينما كانت مواقع التعدين المشتركة تحت حراسة مشددة وترفع علما قديما للاتحاد السوفياتي. كما قامت "كوش" بعقد اتفاق رسمي مع ميليشيا "قوات الدعم السريع" للتعامل مع احتجاجات السكان المحليين ضد الأضرار البيئية والاقتصادية لعمليات التعدين، وتوفير غطاء أمني لمصالح روسيا في السودان.

وفي 2021، بلغت الشراكة بين "فاغنر" وميليشيا "قوات الدعم السريع" ذروتها، حيث نظمت 16 رحلة جوية روسية لتهريب الذهب السوداني إلى روسيا عبر مطار اللاذقية في سوريا، ثم إلى قاعدة "تشكالوفسكي" الجوية. تمت هذه العمليات بطائرات تابعة للقوات المسلحة الروسية، وهو ما ساهم في تعزيز احتياطيات الذهب في البنك المركزي الروسي، وشكل دعما حيويا لموسكو في مواجهة تداعيات حربها في أوكرانيا.

AFP
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يسار) يصافح الرئيس السوداني السابق عمر البشير خلال اجتماع في سوتشي في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2017

 

كل هذا النفوذ المتزايد، دفع روسيا للتعبير علنا عن عدم ارتياحها، بل وسخطها على الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم البشير في 2019

كل هذا النفوذ المتزايد، دفع روسيا للتعبير علنا عن عدم ارتياحها، بل وسخطها على الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم البشير في 2019. وهو ما وصفته حينها على لسان أندريه كليشاس، رئيس لجنة مجلس الاتحاد الروسي للتشريع الدستوري بأنه "تغيير عنيف وغير دستوري للسلطة". وجاء ذلك متسقا مع توجهات حكومة الثورة التي جمدت اتفاق إنشاء القاعدة الروسية وعملت بشكل مطرد على الانفتاح غربا. عملت روسيا بصبر وأناة لاستعادة نفوذها في السودان، وهو ما تحقق بالفعل بعد انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، والذي اشترك فيه الجيش و"الدعم السريع" معا للإطاحة بحكومة الثورة، قبل أن تشتعل الحرب بينهما لاحقا في 2023. وهو ما حدث بالفعل بعد الانقلاب حين أعلن كل من قائد الجيش وقائد "الدعم السريع" علنا عن دعمهما لمشروع إنشاء القاعدة الروسية على سواحل البحر الأحمر الروسية.

روسيا ليست وحيدة فيما يتعلق بالمطامع حول سواحل البحر الأحمر السودانية، والتي تمتد لمسافة 750 كيلومترا في الساحل الغربي لأهم ممر بحري للتجارة العالمية. تشاركها كذلك دولة الإمارات العربية المتحدة والتي كانت قد وقعت اتفاقا بعد انقلاب أكتوبر 2021 مع الحكومة السودانية لإنشاء ميناء أبو عمامة شمال بورتسودان. تضمن الاتفاق تنفيذ استثمارات بقيمة ستة مليارات دولار من خلال شركة "موانئ أبوظبي" وشركة "إنفيكتوس" للاستثمار، التابعة لمجموعة "دال" السودانية، التي تربطها علاقات قوية مع الإمارات. ولكن بعد اندلاع الحرب في السودان، قامت الحكومة السودانية بإلغاء الاتفاق المبرم مع الإمارات.

وفي السياق ذاته تسعى تركيا لتجديد اتفاقها مع حكومة المخلوع البشير في عام 2017 حول تأهيل ميناء جزيرة سواكن واستغلاله كقاعدة تركية، وهو الاتفاق الذي توقف أيضا بعد الإطاحة بعمر البشير في 2019. ولكن تكتسب هذه الجهود الروسية الحالية أهمية متزايدة، بعد التطورات التي شهدتها سوريا وسقوط حكومة بشار الأسد. فقد أدى ذلك إلى خسارة روسيا لأكبر قواعدها العسكرية خارج محيطها الإقليمي، وهي قاعدة طرطوس البحرية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بالإضافة إلى قاعدة حميميم الجوية التي تم إنشاؤها في عام 2015 بالقرب من اللاذقية في غرب سوريا. وعلى الرغم من حديث الكرملين عن رغبته في الحديث إلى السلطات الجديدة للإبقاء على سيطرته على القاعدة، إلا أن ذلك يبدو مستبعدا.

وكانت موسكو قد أبرمت اتفاقية مع الحكومة السورية عام 2017، تتيح لها توسيع القاعدة وتحديثها، إلى جانب استخدامها مجانا لمدة 49 عاما قابلة للتجديد. وتلعب هذه القاعدة دورا محوريا في تعزيز النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى كونها نقطة إمداد لوجستية لدعم الوجود العسكري الروسي المتزايد في أفريقيا. وأظهرت صور أقمار صناعية تحققت منها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من عدة مصادر في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي شروع روسيا في سحب المعدات العسكرية والأسلحة الثقيلة من قاعدتي طرطوس وحميميم في سوريا.

ولا تنحصر جهود روسيا على استبدال قاعدتي طرطوس وحميميم وإيجاد موطئ قدم عسكري آخر لها في المنطقة على السودان فحسب، فقد شهدت ليبيا أيضا جهودا روسية مماثلة لتأسيس قاعدة عسكرية بديلة هناك. وكشفت صور أقمار صناعية، حصلت عليها مؤسسة "National Security News" المعنية برصد الأوضاع الأمنية والعسكرية العالمية، عن تزايد وتيرة هبوط طائرات عسكرية روسية في ليبيا خلال الفترة الأخيرة.

وأظهرت الصور، التي التقطت لعدد من القواعد العسكرية الليبية في شرق ليبيا والتي تقوم باستقبال هذه الطائرات، تنفيذ تحديثات على مدارج هبوط الطائرات، إلى جانب تحسين أنظمة الدفاع المحيطة، فضلا عن إنشاء مبان جديدة ضخمة بشكل كامل. وتستغل روسيا في ذلك علاقتها الوطيدة والمستمرة مع الجنرال خليفة حفتر الذي يسيطر على الأجزاء الشرقية والجنوبية من ليبيا. وفي ديسمبر/كانون الأول 2024، وبشكل عاجل بعد سقوط حكومة "البعث" بقيادة الأسد في سوريا، قام يونس بيك يفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي، بزيارة ليبيا للقاء الجنرال خليفة حفتر، والاتفاق على نقل المعدات والأسلحة التي كانت في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية من سوريا إلى ليبيا. ولكن قبل ذلك، كان الاستثمار العسكري الروسي في ليبيا متزايدا.

وقد بدأت القوات الروسية في أوائل عام 2024 بإعادة تأهيل المرافق في قاعدة براك الشاطئ العسكرية التي تقع على بعد حوالي 700 كيلومتر من العاصمة طرابلس، حيث مكنت هذه التحديثات الطائرات العسكرية الروسية من الهبوط في القاعدة بحلول شهر أبريل، بعد أن كان مدرجها غير مستخدم لسنوات. وفي الشهر نفسه، قامت القوات الروسية بأربع عمليات نقل بحرية عبر ميناء طبرق في شمال شرقي ليبيا، بالقرب من الحدود المصرية. وشملت الشحنات معدات عسكرية، بما في ذلك مركبات وذخائر، وصلت لاحقا إلى قواعد تسيطر عليها روسيا داخل ليبيا، بما في ذلك قاعدة براك الشاطئ.

Reuters
قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان يتفقد قواته في بورتسودان

 

بنفس طريقتها في السودان لجعل كل الأبواب مفتوحة، سعت روسيا موخرا إلى فتح قنوات اتصال مع حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في ليبيا

وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أظهرت صور أقمار صناعية طائرات "إليوشن-76" في قاعدة الجفرة الجوية بوسط ليبيا، والتي تبعد نحو 320 كيلومترا شمال براك الشاطئ. وتعد الجفرة نقطة هبوط روتينية لطائرات الشحن العسكرية الروسية، إلى جانب وجود مقاتلات "MiG-29" وقاذفات "Su-24"، التي تستخدمها القوات الروسية لدعم سيطرة الجنرال خليفة حفتر على مناطقه. وإلى الشمال من الجفرة، خضعت قاعدة القرضابية الجوية، الواقعة قرب الساحل الليبي، لأكبر عمليات التحديث الروسية. فقد عززت القوات الروسية وجودها هناك عبر بناء منشآت جديدة، وتحديث المدارج، وتعزيز الدفاعات المحيطة، كما ازداد عدد المركبات العسكرية في القاعدة، بشكل يعكس نشاطا متزايدا. وبات الوجود الروسي في القرضابية واضحا، حيث تستخدمها القوات الروسية كمركز تدريب لقوات حفتر. وأصبح نفوذ موسكو داخل القواعد الليبية كبيرا لدرجة أن قوات حفتر باتت بحاجة إلى إذن لدخول القواعد التي تسيطر عليها روسيا.

وتهتم روسيا بشكل استراتيجي بالحفاظ على وجودها في ليبيا. فبالإضافة إلى كونها محطة متوسطة لدعم عملياتها العسكرية في بقية أنحاء أفريقيا وبالأخص غرب أفريقيا وسيطرتها على دول مثلا مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، فإن وجودها العسكري في ليبيا يسمح لها أيضا بمنافسة حلف "الناتو" في المناطق الجنوبية المتاخمة له، سواء عبر إظهار القوة العسكرية أو التأثير في أسواق الطاقة من خلال التحكم في دور ليبيا كأحد المصادر الرئيسة للنفط الخام.

وبطريقتها نفسها في السودان لجعل كل الأبواب مفتوحة، فقد سعت روسيا موخرا إلى فتح قنوات اتصال مع حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في خطوة تبدو محاولة لموازنة علاقاتها مع الجنرال خليفة حفتر. وكانت روسيا قد بدأت في دعم قوات الجيش الوطني الليبي الذي يقوده خليفة حفتر في شرق ليبيا عبر مجموعة "فاغنر"، بعد سقوط القذافي في 2011. وشمل هذا الدعم تدريبات عسكرية وتوريد أسلحة ودورا استشاريا استراتيجيا، بشكل عزز موقف حفتر ضد حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا في طرابلس. وفي المقابل، منح حفتر روسيا امتيازات استغلال القواعد العسكرية وكذلك الموارد الطبيعية الليبية بما في ذلك حقول نفط ليبية استراتيجية. وتعمل شركات روسية حكومية وخاصة مثل "روسنفت" و"غازبروم" و"تاتنفط" بشكل متزايد في الاستثمار في قطاع الطاقة الليبي.

تؤكد التحركات الروسية الأخيرة في السودان وليبيا نمطا استراتيجيا متكررا لموسكو: وهو استغلال الدول الهشة التي تعصف بها النزاعات الداخلية لترسيخ وجود عسكري واقتصادي طويل الأمد

تؤكد التحركات الروسية الأخيرة في السودان وليبيا نمطا استراتيجيا متكررا لموسكو: وهو استغلال الدول الهشة التي تعصف بها النزاعات الداخلية لترسيخ وجود عسكري واقتصادي طويل الأمد. فكما فعلت في سوريا عبر قاعدتي طرطوس وحميميم، تحاول روسيا الآن إعادة نسخ التجربة ذاتها في السودان وليبيا. وتستغل موسكو في ذلك انعدام الخيارات التي تواجه السلطات في هذه الدول. فبينما تواجه الحكومة السودانية تعنتا عالميا غير مبرر في التعامل معها وهي تخوض حربا ضد ميليشيا إجرامية غير نظامية، يجد حفتر في روسيا الحليف الأمثل وهو يدير شرق ليبيا عبر نظام غير معترف به عالميا.

وبينما يمكن أن يوفر هذا الوجود الروسي بعض المكاسب المؤقتة لهذه الأنظمة في هذه البؤر المضطربة، فإنه لا يمكن أن يعد "دعما للاستقرار"، بل هو استثمار في الفوضى لتحقيق مكاسب جيوسياسية. ففي السودان، تحولت الثروات الطبيعية مثل الذهب إلى وقود لتمويل حروب موسكو في أوكرانيا. وفي ليبيا، يغذي الدعم العسكري الروسي لحفتر حربا أهلية لا نهاية لها، بينما تنهب ثروات النفط الليبي عبر شركات تدار من الكرملين. ولكن السؤال الأهم: هل يصب هذا النهج في مصلحة شعوب هذه الدول؟ الإجابة تكمن في التجربة السورية، حيث تحول الدعم الروسي إلى احتلال مقنع، ودعم الديكتاتورية، وحوّل البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية، وأفقدها سيادتها، وساهم في تدمير بنيتها المجتمعية.

أ.ف.ب.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجيب على وسائل الإعلام العالمية، خلال إنطلاق قمة " البريكس" في موسكو 18 أكتوبر 2024

والتطور الأخطر يتمثل في الفرصة الذهبية التي قد تمنحها أي صفقة محتملة بين ترمب وبوتين لإنهاء حرب أوكرانيا، حيث ستحرر موسكو من عبء المواجهة العسكرية المباشرة بشكل يمكنها من إعادة توجيه مواردها لتعزيز نفوذها في مناطق مثل البحر الأحمر وأفريقيا. والمفارقة أن الغرب يدفع ثمن سياساته الخاطئة في الجنوب العالمي ككل. حيث اعتمد على بناء شراكات فوقية مع نخب معزولة في أغلب الأحيان وابتعد عن الاستماع إلى مطالب الشعوب أو خلق تحالفات لها أساس اجتماعي راسخ يمكن أن ينعكس مصالحة متبادلة بشكل محسوس، وعمد بدلا عن ذلك للترويج لقيمه وسياساته كخيارات مطلقة وحيدة لما هو صواب وصحيح. وهو ما خلق استياء وعداء شعبيا متزايدا للغرب ولهذه القيم على حد سواء، ومهد المسرح للنظر إلى روسيا كحليف مقبول في هذه الدول. والأحداث التي مرت بغرب أفريقيا في السنوات الماضية هي أبرز دليل على ذلك.

font change