مأزق الـ"يو إس إيد" مع إدارة ترمب... هل يتحول "المؤقت" إلى دائم؟ (1-2)

تتفق أهداف الإدارة الجمهورية مع أهداف "محور المقاومة" وقوى الإسلام السياسي في الدعوة لإغلاق الوكالة

رويترز
رويترز
يحمل الناس لافتات بينما يظل مبنى الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مغلقا أمام الموظفين بعد صدور مذكرة تنصح موظفي الوكالة بالعمل عن بُعد، في واشنطن العاصمة، 3 فبراير 2025

مأزق الـ"يو إس إيد" مع إدارة ترمب... هل يتحول "المؤقت" إلى دائم؟ (1-2)

بعد إصداره سلسلة طويلة من أوامر رئاسية في أيامه الأولى كانت كافية لإشغال الساسة والمراقبين وأميركيين كثيرين متأثرين بهذه الأوامر سلبا وإيجابا، لم يتأخر الرئيس الجديد دونالد ترمب بنهاية أسبوعه الأول في المنصب عن صناعة مفاجأة أقوى وأوسع بكثير، حد الصدمة التي اختلط بها الغضب بالترقب: أوقف مؤقتا صرف نحو ثلث الميزانية الاتحادية الأميركية، بحدود 3 تريليونات دولار، تنفق في برامج داخلية في أميركا في حقول كثيرة كالتعليم والصحة والمناخ والطاقة المتجددة.

على الصعيد الخارجي الذي لم يحظَ بالكثير من الانتباه الأميركي، كان أهم ضحايا أوامر ترمب هي "المساعدة الخارجية" الأميركية التي تتولى معظمها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية المعروفة اختصارا بـ"يو إس إيد". في مذكرة من صفحتين مقتضبتين أصدرها مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض موجهة لوزراء ومدراء وكالات فيدرالية، تأمر المذكرة كل هؤلاء بإيقاف الإنفاق مؤقتا "لإعطاء إدارة الوقت لمراجعة البرامج الحكومية وتحديد أفضل استخدام للتمويل المخصص لها على نحو ينسجم مع القانون وأولويات الرئيس"، بحسب المذكرة.

الكلمة الأساسية التي جعلت مثل هذه المذكرة مُمكنة في المقام الأول هي "مؤقتا"، أي الفترة المفتوحة التي أرادتها الإدارة لمراجعة هذه البرامج، وكثير منها تعكس رؤى ليبرالية ويدعمها "الحزب الديمقراطي" بقوة. فحسب الدستور الأميركي، صرف الأموال وتحديد أوجه صرفها هي صلاحية حصرية للكونغرس حسب قوانين يصدرها الأخير، فيما مهمة الرئيس أو الإدارة هي تنفيذ قوانين الصرف مع وجود بعض المرونة لديه في هذا الصدد.

وكما كان متوقعا، واجهت هذه المذكرة تحديات قانونية في محاكم فيدرالية أدت إلى توقف العمل بالكثير من محتواها، ريثما تبتُ هذه المحاكم في قانونيتها بسبب ما يبدو من مخالفات صريحة للدستور فيها، إلى حد اضطرار الإدارة إلى إعلان إلغائها. لكن هذا الإلغاء لم ينهِ الكثير من الأوامر الرئاسية التفصيلية التي أصدرها ترمب في أسبوعه الأول، بل كان أحد أهداف المذكرة هو تعزيز هذه الأوامر وصناعة حس قوي وعام بالصدمة في إطار التأكيد الرئاسي على أن التغيير البنيوي والواسع قادم في ظل هذه الإدارة. أحد الأوامر الرئاسية، التي تم تحديها قضائيا وأوقف العمل بها مؤقتا، هو تجميد تمويل "يو إس إيد" بغية تفكيكها كمؤسسة، ومن ضمنه الإنفاق الذي تضطلع به خارج الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم ويتضمن مليارات الدولارات على أنشطة إنسانية وتنموية وحقوقية (تشرف هذه المؤسسة على إنفاق 40 مليار دولار سنويا كمساعدات خارجية تقدمها الولايات المتحدة الأميركية). لا يزال هذا الإنفاق معلقا ما أثر على آلاف المشاريع التي تديرها هذه المؤسسة في بقاع العالم المختلفة خصوصا في أفريقيا والشرق الأوسط، فيما أعلنت الإدارة نيتها تفكيك هذه المؤسسة التي زعم ترمب أن الذين يديرونها "مجانين راديكاليون" فيما كانت انتقادات حليفه رجل الأعمال إيلون ماسك الذي يقود "قسم الكفاءة الحكومية" في الإدارة الجديدة والمكلف بالتخلص من الإنفاق الفيدرالي "الزائد" وغير الضروري و"ترشيق" الحكومة الفيدرالية، أشد قسوة نحو الوكالة المشهورة عالميا عندما قال إنه "حان الوقت لها كي تموت" واصفا إياها أنها "كتلة من الديدان" ويمثل وجودها تضييعا للأموال الحكومية الأميركية.

مؤسساتيا، تعتبر "يو إس إيد" وكالة فيدرالية مستقلة، بتخصيص سنوي مالي لها من الكونغرس رغم وجود علاقة ذات طابع هرمي شكليا مع وزارة الخارجية، قائمة على التنسيق مع الوزارة، وليس التابعية لها

تشكلت "يو إس إيد" في عام 1961 في عهد الرئيس جون كنيدي بموجب أمر رئاسي تنفيذي أصدره في نوفمبر/تشرين الأول من ذلك العام، وذلك بعد شهرين من تمرير الكونغرس، في سبتمبر/أيلول، "قانون المساعدة الأجنبية" لتنظيم هذه المساعدة وطرق تمويلها وصرفها. قَسَّم القانون المساعدة الخارجية الأميركية إلى ثلاثة أنواع: عسكرية واقتصادية وإنسانية ("العسكرية" للدول الحليفة، و"الاقتصادية" للدول النامية باستثناء الشيوعية والراعية للإرهاب.. إلخ. و"الإنسانية" لأي دولة تمر بكارثة أو أزمة إنسانية مفاجئة، بغض النظر عن توجهها السياسي أو نظام حكمها). لم يشر القانون إلى "يو إس إيد" أو يدعو إلى تشكيلها بالاسم، وإنما أعطى الرئيس صلاحية كبيرة في تنظيم تقديم هذه المساعدة، فجاء تشكيل "يو إس إيد" عبر الأمر الرئاسي لتتولى إنفاق معظم المساعدات الإنسانية والاقتصادية، فيما تُركت المساعدات العسكرية لمؤسسات أخرى مختصة كوزارة الدفاع. ليست "يو إس إيد" المؤسسة الأميركية الوحيدة التي تتولى إنفاق المساعدات المدنية والاقتصادية والإنسانية، فهناك مؤسسات أخرى تفعل هذا كوزارات الخارجية والخزانة والزراعة وفيالق السلام (Peace Corps)، لكنها المؤسسة الأكبر والأهم وصاحبة الميزانية الأضخم، فما تنفقه المؤسسات الأخرى قليل جدا ومحدود في نطاقه الجغرافي مقارنة بإنفاق "يو إس إيد" التي تنتشر في أكثر من مئة بلد، فضلا عن كونها صاحبة الخبرة التخصصية في كيفية إنفاق المساعدة الخارجية. 

أ ب
يتحدث الرئيس دونالد ترمب إلى الصحفيين أثناء توقيعه على أوامر تنفيذية في البيت الأبيض يوم الثلاثاء 4 فبراير 2025

مؤسساتيا، تعتبر "يو إس إيد" وكالة فيدرالية مستقلة، بتخصيص سنوي مالي لها من الكونغرس رغم وجود علاقة ذات طابع هرمي شكليا مع وزارة الخارجية، قائمة على التنسيق مع الوزارة، وليس التابعية لها. فمثلا عندما يُحدد الكونغرس سنويا ميزانية "يو إس إيد"، تتلقى الأخيرة هذه الأموال من خلال الوزارة عبر عملية بيروقراطية معقدة تتضمن عدة مؤسسات حكومية. كما تتلقى الوكالة إرشادا عاما سنويا من الوزارة بخصوص أولويات السياسة الأميركية الخارجية كي تأخذها الوكالة بالاعتبار في صياغة برامجها وإنفاق الأموال المخصصة لها. لكن "يو إس إيد" تدير نفسها بنفسها كوكالة فيدرالية على نحو منفصل من الوزارة، ويُعيَّن رئيسها، كما يُعيَّن وزير الخارجية وبقية الوزراء: يرشح الرئيس الأسماء لمجلس الشيوخ الذي يصوت بالموافقة أو الرفض على تعيينهم بعد إجراء مقابلات معهم. في أحيان كثيرة، يحضر مدير الوكالة، حسب الحاجة، الاجتماعات الوزارية التي يقودها الرئيس ويحضرها الوزراء، رغم أن منصب المدير يعادل بيروقراطيا منصب نائب وزير.

تضمنت الكثير من جهود "يو إس إيد" تمويل المشاريع الصغيرة أو ما يعُرف بـ"SME" التي تقوم على مساعدة أناس من ذوي الدخل المحدود

بوصفها الأداة الأهم في ما يُعرف باستخدام "القوة الناعمة"، تُعد تجربة "يو إس إيد" ناجحة في تحقيق الأهداف التي تشكلت لأجلها هذه الوكالة الفيدرالية: ربط المساعدة الخارجية الأميركية بأهداف السياسة الخارجية ومتطلبات الأمن القومي الأميركي في الترويج للنموذج الليبرالي في السياسة والرأسمالي في الاقتصاد، على أساس ترابط الاثنين بنيويا في تشكيل وترسيخ أنظمة ديمقراطية، تصبح، على نحو أوتوماتيكي تقريبا، حليفا أيديولوجياً وشريكا اقتصاديا للولايات المتحدة، بحسب الفهم الأميركي السائد والمدعوم بالتجربة الغربية، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية. في أثناء تصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة والشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي، التي كانت السبب المباشر لإمرار قانون المساعدة الخارجية وتشكيل "يو إس إيد"، ساهمت الأخيرة على نحو فاعل بدعم السياسة الخارجية الأميركية من خلال عرض نموذج تنموي اقتصادي وفكري ليبرالي لتقويض النفوذ الشيوعي في مختلف أنحاء العالم. من هنا تركزت مشاريع الوكالة في بقاع العالم المختلفة التي تزدهر فيها الشيوعية، لكن لا تحكمها أنظمة شيوعية، عبر دعم مبادرات تعليمية ومشاريع اقتصادية ومنظمات حقوقية لتمكين مناهضي الشيوعية والذين يعانون من نموذجها الاقتصادي المرتاب في القطاع الخاص بمركزيته الشديدة التي تقتل الإبداع الفردي. كان جهدها بهذا الصدد ناجحا، وتواصل في سياق مختلف بعد انهيار المنظومة الشيوعية ونهاية الحرب الباردة ليتركز على الدول الفقيرة لدفعها نحو تبني خيارات اقتصادية تنسجم مع الفهم الرأسمالي للإنتاج والاستهلاك في ظل ما أصبح يُعرف على نطاق واسع بـ"إقتصاد السوق" مع بروز العولمة مؤسساتيا واقتصاديا في تسعينات القرن الماضي بعد تأسيس منظمة التجارة الدولية التي لعبت دورا رئيسا في مأسسة العولمة ونشرها في قارات العالم المختلفة. وتضمنت الكثير من جهود "يو إس إيد" تمويل المشاريع الصغيرة أو ما يعُرف بـ"SME" التي تقوم على مساعدة أناس من ذوي الدخل المحدود، لكن لديهم روحا تجارية تُمكنهم، مع بعض المساعدة والتأهيل، لإدارة مشاريع ناجحة بحيث تصبح مربحة اقتصاديا ويستطيعون عبرها إعالة عوائلهم وتوظيف آخرين، كفتح متاجر أو مطاعم أو تقديم خدمات محددة متخصصة وسواها كثير.

تواجه الوكالة في الشرق الأوسط حملة معارضة وتحريض ضدها، تصل حد الشيطنة، من "محور المقاومة" وأطراف مختلفة من قوى الإسلام السياسي باعتبار أن ما تقوم به يؤدي إلى تقويض القيم الأخلاقية للمجتمع

إلى جانب المشاريع الاقتصادية، تتولى "يو إس إيد" تمويل مشاريع ذات طابع سياسي عام وغير مباشر، جوهرها حقوقي، كما في دعمها منظمات حقوقية كثيرة، خصوصا في ما يُعرف بالديمقراطيات الصاعدة، تتخصص بكشف الفساد وخروقات حقوق الإنسان والمطالبة بالشفافية. لعل أهم الأمثلة في هذا الصدد هو تجربتها الناجحة عموما في دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، خصوصا في أوكرانيا، إذ ساهمت في صعود جيل من المدافعين الحقيقيين عن حقوق الإنسان ومكافحة الفساد والناشطين الإعلاميين من الذين ظهر تأثيرهم واضحا في الاحتجاج الشعبي الأوكراني الناجح المعروف بثورة الميدان في 2014 التي أطاحت بحكومة فيكتور يانوكيفتش المتحالفة مع روسيا وهروبه إليها. 

أ ب
امرأة إثيوبية تلتقط حصص القمح المخصصة لكل أسرة منتظرة بعد توزيعها من قبل جمعية الإغاثة في تيغراي في بلدة أغولا في منطقة تيغراي شمال إثيوبيا، 8 مايو 2021

حاججت روسيا أن هذه الثورة الشعبية كانت مؤامرة تستهدفها بتدبير أميركي، في محاولة لإظهار جهود "يو إس إيد" وسواها من المؤسسات الأميركية المتعاقدة والمتعاونة معها على أنها جهود مخابراتية ذات طابع سياسي بحت يتعلق بتغيير الأنظمة السياسية (قبل هذا بعامين، أي في 2012، منعت روسيا عمل "يو إس إيد" في أراضيها متهمة إياها بالتدخل في الشؤون الداخلية الروسية بضمنها الانتخابات، بسبب تدريب الوكالة الأميركية ناشطين روسا في قضايا حقوق الإنسان ومكافحة الفساد ومراقبة الانتخابات).
في العالم العربي، لـ"يو إس إيد" حضور قوي تاريخيا في بلدان مختلفة كمصر ولبنان والأردن واليمن والمغرب والأراضي الفلسطينية. وتغطي أنشطتها في المنطقة مشاريع في مجالات كثيرة من البنية التحتية كتوفير المياه الصالحة للشرب، مرورا بالتعليم والصحة والحوكمة الرشيدة وانتهاء بالمساعي الحقوقية المتعلقة بتمكين المرأة ودعم حرية التعبير. وتواجه الوكالة في الشرق الأوسط حملة معارضة وتحريض ضدها، تصل حد الشيطنة، من "محور المقاومة" وأطراف مختلفة من قوى الإسلام السياسي باعتبار أن ما تقوم به يؤدي إلى تقويض القيم الأخلاقية للمجتمع والتغرير بالشباب وصناعة جيل من الناشطين يعمل لخدمة المصالح الأميركية، وصولا حد التجسس لصالح أميركا. هنا تتفق أهداف إدارة ترمب مع أهداف هذه القوى في الدعوة لإغلاق "يو إس إيد" ووضع حد لأنشطتها!

font change