بعد إصداره سلسلة طويلة من أوامر رئاسية في أيامه الأولى كانت كافية لإشغال الساسة والمراقبين وأميركيين كثيرين متأثرين بهذه الأوامر سلبا وإيجابا، لم يتأخر الرئيس الجديد دونالد ترمب بنهاية أسبوعه الأول في المنصب عن صناعة مفاجأة أقوى وأوسع بكثير، حد الصدمة التي اختلط بها الغضب بالترقب: أوقف مؤقتا صرف نحو ثلث الميزانية الاتحادية الأميركية، بحدود 3 تريليونات دولار، تنفق في برامج داخلية في أميركا في حقول كثيرة كالتعليم والصحة والمناخ والطاقة المتجددة.
على الصعيد الخارجي الذي لم يحظَ بالكثير من الانتباه الأميركي، كان أهم ضحايا أوامر ترمب هي "المساعدة الخارجية" الأميركية التي تتولى معظمها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية المعروفة اختصارا بـ"يو إس إيد". في مذكرة من صفحتين مقتضبتين أصدرها مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض موجهة لوزراء ومدراء وكالات فيدرالية، تأمر المذكرة كل هؤلاء بإيقاف الإنفاق مؤقتا "لإعطاء إدارة الوقت لمراجعة البرامج الحكومية وتحديد أفضل استخدام للتمويل المخصص لها على نحو ينسجم مع القانون وأولويات الرئيس"، بحسب المذكرة.
الكلمة الأساسية التي جعلت مثل هذه المذكرة مُمكنة في المقام الأول هي "مؤقتا"، أي الفترة المفتوحة التي أرادتها الإدارة لمراجعة هذه البرامج، وكثير منها تعكس رؤى ليبرالية ويدعمها "الحزب الديمقراطي" بقوة. فحسب الدستور الأميركي، صرف الأموال وتحديد أوجه صرفها هي صلاحية حصرية للكونغرس حسب قوانين يصدرها الأخير، فيما مهمة الرئيس أو الإدارة هي تنفيذ قوانين الصرف مع وجود بعض المرونة لديه في هذا الصدد.
وكما كان متوقعا، واجهت هذه المذكرة تحديات قانونية في محاكم فيدرالية أدت إلى توقف العمل بالكثير من محتواها، ريثما تبتُ هذه المحاكم في قانونيتها بسبب ما يبدو من مخالفات صريحة للدستور فيها، إلى حد اضطرار الإدارة إلى إعلان إلغائها. لكن هذا الإلغاء لم ينهِ الكثير من الأوامر الرئاسية التفصيلية التي أصدرها ترمب في أسبوعه الأول، بل كان أحد أهداف المذكرة هو تعزيز هذه الأوامر وصناعة حس قوي وعام بالصدمة في إطار التأكيد الرئاسي على أن التغيير البنيوي والواسع قادم في ظل هذه الإدارة. أحد الأوامر الرئاسية، التي تم تحديها قضائيا وأوقف العمل بها مؤقتا، هو تجميد تمويل "يو إس إيد" بغية تفكيكها كمؤسسة، ومن ضمنه الإنفاق الذي تضطلع به خارج الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم ويتضمن مليارات الدولارات على أنشطة إنسانية وتنموية وحقوقية (تشرف هذه المؤسسة على إنفاق 40 مليار دولار سنويا كمساعدات خارجية تقدمها الولايات المتحدة الأميركية). لا يزال هذا الإنفاق معلقا ما أثر على آلاف المشاريع التي تديرها هذه المؤسسة في بقاع العالم المختلفة خصوصا في أفريقيا والشرق الأوسط، فيما أعلنت الإدارة نيتها تفكيك هذه المؤسسة التي زعم ترمب أن الذين يديرونها "مجانين راديكاليون" فيما كانت انتقادات حليفه رجل الأعمال إيلون ماسك الذي يقود "قسم الكفاءة الحكومية" في الإدارة الجديدة والمكلف بالتخلص من الإنفاق الفيدرالي "الزائد" وغير الضروري و"ترشيق" الحكومة الفيدرالية، أشد قسوة نحو الوكالة المشهورة عالميا عندما قال إنه "حان الوقت لها كي تموت" واصفا إياها أنها "كتلة من الديدان" ويمثل وجودها تضييعا للأموال الحكومية الأميركية.