ملف أوكرانيا حاضر بقوة على المشهد الدولي، ويكاد يكون الأبرز على جدول القمم والاجتماعات الثنائية والمؤتمرات الأمنية والسياسية. وما إن طوى مؤتمر ميونيخ الأمني جلساته حتى فتحت باريس أبوابها لقمة استثنائية بمشاركة "الدول الأوروبية المهمة"، على وقع احتدام المعارك والنيران بين موسكو وكييف لتحسين الشروط التفاوضية واختبارات التفاوض والمبادرات.
لكن لماذا الاهتمام الكبير بالأزمة الأوكرانية؟
يمكن القول إن هذه الأزمة بين الملفات الرئيسة التي تساهم في صوغ العلاقات الدولية ومستقبل القوى الكبرى في النظام العالمي الوليد. فروسيا حصلت على دعم الصين وكوريا الشمالية وإيران، وأوكرانيا كانت تحصل على دعم أميركا وأوروبا و"حلف شمال الأطلسي" (الناتو)، بينما اختارت دول محورية أخرى بينها السعودية، أن تترك الباب مفتوحا مع الطرفين.
أهمية الحرب الأوكرانية لا تقتصر على البعد العسكري والجيوسياسي الخاص بمستقبل "الناتو" والقوة الأوروبية والعلاقة بين واشنطن وموسكو وبكين وحسب، بل إن ساحات المعارك الأوكرانية، تضم كميات هائلة من الثروات الاستراتيجية، من زراعة وغاز ومعادن، لها علاقة بأدوات القوة التقليدية مثل الطاقة والأدوات المستقبلية التي تخص الذكاء الاصطناعي، أدوات النظام العالمي الوليد.
عليه، الأمر الطبيعي، أن تحضر أوكرانيا، بتحدياتها ومبادراتها في ميونيخ، فمؤتمر الأمن فيها له علاقة خاصة بالملف الأوكراني. من شاشاته أطل الرئيس فلاديمير بوتين قبل حوالي عشرين سنة، ليعلن الانقلاب على علاقته مع الغرب ومحاولات الاحتضان. ومن منابره أطل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبل ساعات، ليدعو إلى "قوة أوروبية" ويبذل جهوده لشحذ همة الأوروبيين وتخفيف الاندفاعة الأميركية لضبط إيقاع المفاوضات التي يستعجلها الرئيس دونالد ترمب مع بوتين.
ليس هناك مفاجآت في ما حمله مبعوث ترمب إلى المؤتمر وما قاله وزير دفاعه في اجتماع "الناتو" في بروكسل. فترمب عبّر عن مواقفه وعن أهمية "الواقعية الأوكرانية"
الغياب الروسي طبيعي في ميونيخ والحضور الأوكراني هذه المرة مختلف، لأنه المؤتمر الأول بعد فوز ترمب، ويتزامن مع الذكرى الثالثة لاندلاع الحرب الأوكرانية. ليس هناك مفاجآت في ما حمله مبعوث ترمب إلى المؤتمر وما قاله وزير دفاعه بيت هيغسيث في اجتماع "الناتو" في بروكسل. فترمب عبّر عن مواقفه وأهمية "الواقعية الأوكرانية" خلال حملته الانتخابية، وكرر ذلك بعد فوزه بولاية ثانية وبعد اتصاله لتسعين دقيقة مع بوتين.
هو يريد لقاء بوتين للاتفاق على إنهاء الحرب "في 24 ساعة" وتحقيق السلام بناء على الواقع الراهن. يعني هذا- حسب التقارير- قبول كييف بعدم العودة إلى حدود 2014، والتخلي الواقعي عن شبه جزيرة القرم والأجزاء الشرقية من أوكرانيا وعدم الانضمام إلى "حلف شمال الاطلسي" (الناتو) لعقدين من الزمن، مقابل وقف نار دائم ونشر قوات أوروبية عازلة بين الطرفين والمساهمة في إعمار أوكرانيا وازدهارها.
هنا تأتي الأهمية الخاصة لاستضافة السعودية للمحادثات. فترمب نفسه أعلن عن رغبته في بدء جولة مفاوضات فيها. كما أن الخارجية السعودية رحبت بإمكانية استضافة قمة بين ترمب وبوتين
يراهن ترمب على علاقته "الخاصة" مع بوتين، لفك التعاون الروسي- الصيني وتخفيف تعاون موسكو وطهران وبيونغ يانغ. الجديد، ليس في ما قاله المسؤولون الأميركيون صراحة، بل إنه قيل بشكل رسمي وعبر منصات أمنية أوروبية وفي عقر الدار، وعلى مسامع الأوروبيين أنفسهم.
من جهته، لا يزال زيلينسكي- الذي خسر الدعم الذي كان يقدمه جو بايدن- متمسكا بشرطين، هما: انسحاب روسيا إلى حدود 2014، والانضمام إلى "الناتو". أما الأوروبيون، فالمعروض عليهم التكيف مع الواقع الأميركي الجديد، والبحث عن خيارات بعيدا عن "الحليف الأكبر" في البيت الأبيض، تتعلق باستعجال تشكيل القوة الأوروبية وتعزيز دور "الناتو" والمساهمات المالية والعسكرية فيه، والبحث عن تحالفات وشبكات تعزيز الموقف التفاوضي لكييف. كل هذا يحتاج إلى زمن ومال. وهذان حليفا أميركا.
وما يكشفه كل ذلك أنه رغم أن اتصالي ترمب مع بوتين ثم زيلينسكي، أطلقا بقوة المسار السياسي لإنهاء الحرب الأوكرانية في ذكراها الثالثة، فإن الطريق لا يزال طويلا. ومن هنا تأتي الأهمية الخاصة لاستضافة السعودية للمحادثات. فترمب نفسه أعلن عن رغبته في بدء جولة مفاوضات فيها.
كما أن الخارجية السعودية رحبت بإمكانية استضافة قمة بين ترمب وبوتين، مؤكدة مواصلة الرياض بذل جهودها لتحقيق سلام دائم بين موسكو وكييف. فالرياض منذ 2022، تواصل جهودها مع الطرفين للوصول إلى حل سياسي للأزمة. وأوكرانيا وروسيا وأميركا بحاجة إلى هذا المنبر والدور المحوري.