"أطفال لا أرقام" في غزة... نموذج إنساني دؤوب في مواجهة الموت

تعمل بجهود أفراد قرروا ألا يكونوا متفرجين فحسب

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon

"أطفال لا أرقام" في غزة... نموذج إنساني دؤوب في مواجهة الموت

لم يكن توقف آلة الموت في غزة إشعارا بولادة الحياة، في معناها الحقيقي، بل أن فصلا ثانيا من مأساة الغزيين العائدين إلى الشمال يرسمه القلق باستئناف الحرب، والشعور بأنهم وحيدون في مواجهة تداعيات الحرب التي عصفت بهم طوال 471 يوما.

حتى عبارة "ليسوا أرقاما"، تراجع حضورها، بعدما شكلت الرابط الأقوى مع غزة. كانت ومضة الوعي بأن الأرقام المئوية والألفية من عدّاد الشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين والمشردين واليتامى والجياع الغزيين، إنما تعود إلى إنسان يمتلك قصة. لكن العالم المتواطئ والمتفرج والمتعود، تتخلله استثناءات، ولو تمتعت بهوامش محدودة مقارنة بالنمط العام وخياراته. تشكل هذه المبادرات فعلا في التعارض مع السائد، وافتراضات ناجحة من الإمكان والتجاوز.

حكاية لم تنته فصولها

من عبارة "ليسوا أرقاما"، تشكل موقف واسم منظمة إنسانية أسستها شابتان من بريطانيا، هما سمية الوزاني وسارة بن تاريفيت، لأجل أكثر الضحايا الغزيين هشاشة وبراءة، فأطلقتا عليها اسم "أطفال لا أعداد" Children Not Numbers. منذ بدء عملياتها في مارس/آذار 2024، تروي المنظمة مآسي الأطفال على صفحاتها بهدف احتوائها. وهو ما تراكمه- بصعوبة بالغة ولكن بإصرار- معتمدة على خلفية المؤسستين الحقوقية، وفريق قيادة عليا من الأطباء بخبرة واسعة، وتبرعات فردية، وفريق عمل من أكثر من 180 عضوا، في مقاربة متكاملة تشمل ثلاثة مجالات للتدخّل، يستفيد منها مئات الأطفال الغزيين: الطبابة والتعليم المدرسي والمناصرة.

تفتح هذه الجهود كوة للحياة في جدار الموت الذي يلف غزة، منطقة كانت ولا تزال منكوبة، مفصولة عن العالم، فـ"أكبر خطأ بمكن ارتكابه الآن، هو الاعتقاد بأن وقف إطلاق النار هو نهاية سعيدة لحكاية الفلسطينيين في غزة، لقد حانت الآن لحظة الوعي. حان الوقت الذي يواجه فيه أهل غزة حقيقة الموت. نتلقى من العائلات العائدة، صورا عن بيوت هي عبارة عن حوض غسيل معلق على الجدار، وكل شيء آخر هو غبار وأنقاض ومعادن وقطع من الشظايا".

أكبر خطأ بمكن ارتكابه الآن، هو الاعتقاد بأن وقف إطلاق النار هو نهاية سعيدة لحكاية الفلسطينيين في غزة، لقد حانت الآن لحظة الوعي

هذا المشهد تنقله سمية، الشريكة المؤسسة لـ"أطفال لا أرقام"، في حديث الى "المجلة" عن منظمتها المعتمدة على مسار فردي، تشوبه صعوبات بالغة، بخلاف المنظمات العالمية التي تمتلك غطاءها الأممي ومواردها وميزانياتها الضخمة. الأم لولدين تعرّف عن نفسها بـ"محامية سابقة"، فمنذ ديسمبر/ كانون الأول 2023، كرست نفسها للتحضير للمنظمة وإطلاقها مع رفيقتها سارة، التي استقالت من وظيفة رفيعة في المحاماة تلبية لنداء إنساني وصلها من الشاشات الافتراضية.

Eduardo Ramon

غير أن سمية تعتبر أن المنظمة لم تكتب قصة نجاحها بعد، فالطموح يسمو للمساعدة في إعادة بناء غزة، وإعادة تأهيل بنيتها التحتية: "أولا، البنية التحتية الطبية، فلا يمكن أي مجتمع أن يستمر دونها. ثانيا، البنية التحتية التعليمية، فلا يمكن أي مجتمع أن يكون متمكنا من دونها. وثالثا، البنية التحتية القانونية، فلا يمكنك تأهيل الأولى والثانية دون الثالثة، لأن علينا تمكين الناس من الوصول إلى حقوقهم. ولهذا السبب، قمنا بتشكيل منظمة غير حكومية طبية قانونية لا تتوخى الربح".

يلازم فريق العمل اقتناع بأن العيش ليس ممكنا بعد وقف إطلاق النار ما لم يعترف العالم أن غزة عالم موازِ فقد كل مقومات البقاء، وأن الحاجة إلى الفعل الانساني لم تنته، بل إن مخاض الولادة بدأ الآن.

إجلاء الأطفال وعلاجهم

فُتح معبر رفح في 3 فبراير/شباط الجاري للمرة الأولى منذ مايو/أيار 2024، وأجلي فورا أطفال مصابون بالسرطان وأمراض القلب من بين مجموعة من 50 مريضا من غزة إلى مصر.

قبل هذه المرحلة، نشرت "أطفال لا أرقام" فيديوا قصيرا عن طفلة غزية ساعدوها على الشفاء من الصدفية التي التهمت جلدها بالكامل، مذكرين بالحاجة الملحة لإجلاء الأطفال المصابين والمرضى.

جاء في الفيديو: "هل تذكرون مريم؟ لأكثر من عام عاشت مع ألم مبرح، ولأكثر من 8 أشهر، دعمناها من خلال توفير الأدوية والطعام والمأوى والمتابعة الطبية من المتخصصين في طب الأطفال والأمراض الجلدية. لكن حالتها استمرت في التدهور بسبب الظروف المعيشية وقلة الوصول إلى العلاج. لحسن الحظ، تمكنا في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، من تأمين موافقتها على مغادرة غزة، وبمساعدة منظمة الصحة العالمية ووزارة الخارجية الإماراتية، تمكنا من إجلائها إلى الإمارات. هذه هي مريم اليوم. لكن لا توجد حاليا أي بعثات إجلاء طبي مجدولة للخروج من غزة. استأنفوا الإجلاء الطبي الآن".

علينا تمكين الناس من الوصول إلى حقوقهم. ولهذا السبب، قمنا بتشكيل منظمة غير حكومية طبية قانونية لا تتوخى الربح

سمية الوزاني

تشبه هذه القصة، قصصا أخرى عديدة شاركها مع "المجلة" الدكتور الغزي شريف ياسر مطر، استشاري طب الأطفال ومدير العلاج الميداني في منظمة "أطفال لا أرقام".

يقول الطبيب: "المشهد اليوم في هذه البقعة من العالم أقسى مما تتخيلون. صحيح أن مرحلة وحشية انتهت، ومن ضحاياها أكثر من 14500 طفل فلسطيني. لكن وقف إطلاق النار ترافق مع توقف الإجلاء الطبي (ما يعني أن أطفالا يحتاجون العلاج لم يعبروا خارج غزة من 19 يناير/كانون الثاني لغاية 3 فبراير/شباط)، وأصبحت آلية الخروج بالغة الصعوبة لأنها أحيلت إلى معبر أبو سالم في كيرم شالوم، وتتولى التقرير في شأنها وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق (الكوغات) ومنظمة الصحة العالمية. وفي أحسن الأحوال، فإن بعثات الاجلاء القليلة تشمل بضعة عشرات من الأطفال، فيما المئات في حالات مزمنة، وكثر منهم توفي جراء الأمراض وليس القصف".

يستحضر مطر الطفلة لانا الغفري التي تعاني اضطرابات في كهرباء القلب، ودخلت العناية المركزة 6 مرات، وكان يجب إجلاؤها مع البعثة التركية في أواخر يناير/كانون الثاني، ولكن إجراءات السفر توقفت فجأة، ومعها عشرات الأطفال. "أطفال انتظروا إجلاءهم حتى ماتوا. وأطفال حديثو الولادة أذن لهم بالسفر، ولكن منعت أمهاتهم من المرافقة، فلم يسافروا"، يستنتج الطبيب.

لكن المنظمة نجحت، خلال الفرصة القصيرة للعبور من رفح، بإجلاء أطفال والتكفل بعلاجهم. من بينهم، عانت الطفلة الرضيعة سديل حمدان انسدادا في القنوات المرارية، مما أدى إلى فشل في الكبد، ووجب علاجها في عمر الستة أشهر. بلغت الطفلة 10 أشهر دون علاج. لم يفقد فريق العمل أمله، واستطاع نقلها إلى مصر، وخضعت الطفلة، من تمويل خاص، لعملية زراعة كبد من والدها المتبرع، ولا تزال تتلقى دعم المنظمة.

تشرح سمية "خلال أقل من سنة، أجلينا أكثر من 200 طفل في غزة مع مرافقيهم إلى قطر والإمارات وبلجيكا ورومانيا وألبانيا ومصر، ونتعاون مع منظمة الصحة العالمية، ووزارة الخارجية الإماراتية، ووزارات أخرى محلية، وقريبا جدا تركيا".

وفيما أمست الأعداد في غزة إحصاء للموتى والمصابين، تشارك سمية أعدادا عن إرادة الحياة "وفرنا العلاج لأمهات في غزة، ويشمل ما قبل وما بعد الولادة لأكثر من 400 امرأة من خلال عيادتين. كما فحصنا 40 مولودا مبكرا معرضين لخطر العمى. وقدمنا علاجا فيزيائيا لأكثر من 100 طفل، من خلال فريق من 10 معالجين فيزيائيين يعملون في عيادات ويزورون المرضى في البيوت والخيام. ونتعاون مع فريق من كبار المعالجين الفيزيائيين خارج غزة، يقدم برنامجا للتأهيل مترجما إلى العربية، ونطلب من الأهالي تطبيق البرنامج، فبتنا نرى العديد من الأطفال يمشون، والعديد من الرضع يتمكنون من رفع رؤوسهم أو الجلوس. ويعمل في المنظمة أكثر من 45 طبيبا غزيا لقاء مدخول شهري ثابت، وهم اختصاصيون في طب الأطفال، وأمراض الكبد، والقلب والأعصاب والجراحة. وشكلنا فريقا طبيا على الأرض في القاهرة لدعم المرضى الذين يجلون إلى مصر".

Eduardo Ramon

مدرسة نظامية

لا شك أن الحرب في غزة وضعت التعليم خارج سياق الممكن والضروري، في ظل الدمار الشامل ووضعية النجاة. حُرم أكثر من 630 ألف طالب وطالبة غزيين من التعليم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومطلع هذا الشهر، أكدت المقررة الأممية المعنية بالحق في التعليم، فريدة شهيد، أن أكثر من 90 في المئة من المدارس في غزة دُمرت كليا أو جزئيا، ولم تعد صالحة للعمل.

 ومع ذلك، تولي "أطفال لا أرقام" أهمية قصوى للتعليم المدرسي، كالأكل والمشرب والعلاج وأساسيات الحياة، وتعتبر أنه حجر الأساس في تعافي غزة وأطفالها، فأسست مدرسة يداوم فيها 300 طفل من أعمار 5 إلى 12 سنة. ويعمل في المدرسة 7 معلمين واختصاصية علم نفس الطفل، ومرافقة أطفال، وعاملة نظافة، ويتبع برنامج التعليم المنهاج الفلسطيني، حيث تدرس اللغة العربية، واللغة الإنكليزية والعلوم والرياضيات، كما سيبدأ تدريس القرآن، والمدرسة معتمدة من وزارة التربية والتعليم.

بعثات الاجلاء القليلة تشمل بضعة عشرات من الأطفال، فيما المئات في حالات مزمنة، وكثر منهم توفي جراء الأمراض وليس القصف

شريف ياسر مطر

وتوضح سمية "أن وزير التربية والتعليم العالي زار المدرسة، وقال إنها حاليا من أفضل المدارس في غزة، وتأمل الوزارة انتهاء نموذج المدارس التي تُدرس في الخيام، وأن تعتمد جميع المنظمات غير الحكومية نفس المعايير التي نتبعها في مدرستنا. لقد جهزنا المدرسة بمرافق صحية للتأكد من حفاظ الأطفال على نظافتهم الشخصية، ويزور أطباء الأطفال المدرسة مرتين إلى 4 مرات أسبوعيا لإجراء الكشوفات الطبية. كما نوفر الدعم النفسي، ونقدم لكل طفل وجبة خفيفة وحليبا خلال الوقت الذي يقضيه في المدرسة، ونؤمن له المستلزمات المدرسية. ومبنى المدرسة جميل جدا، فقد حرصنا على أن يبدو جذابا، مما يدعم الأطفال نفسيا".

هذا ما يعبر عنه باسم، الطفل البالغ عشر سنوات. نشاهده في فيديو يفرّش أسنانه، ويؤدي الصلاة، ثم يتجه إلى المدرسة التي تشغل واحدا من المباني القليلة الصامدة في المشهد. "بعد سنة ونصف سنة من الحرب، أعود أخيرا الى الدراسة. أشعر بسعادة بالغة حين أدخل إلى المدرسة. تساعدني ورفاقي على أن نكون بحال أفضل". نتابعه وهو يدون على دفتره في غرفة الصف، ويمارس لعبة رياضية في الملعب. بحسب المنظمة، توفر هذه المدرسة التعليم لباسم ورفاقه وتساعدهم في الشفاء من تروما الحرب والنزوح.

تحديات 

لم يكن سهلا تحقيق هذا الأثر. تقول الشريكة المؤسسة إن "التحدي الأول كان وتيرة لا هوادة فيها من الأطفال المصابين بجروح حرجة للغاية وبالأمراض المزمنة- ولا يزال الوضع كذلك. التحدي الثاني طرحه تأمين التمويل إلى غزة، مما يستوجب إمداد المنظمة ماليا من بريطانيا بشكل آمن وقانوني. التحدي الثالث كان في الحصول على الدعم المالي، لأننا حتى الآن نعتمد بالكامل على المتبرعين بمبالغ زهيدة، وبما أننا نعمل من بريطانيا فإن معظم المتبرعين يعيشون في أوروبا، حيث المنظمات والمؤسسات تخاف تمويل أي شيء في فلسطين للأسف، أما التحدي الكبير الآخر فهو في التضخم المالي المستمر. فاليوم، قد يبلغ سعر الحفاضات 25 دولارا، وبعد أسبوع 45 دولارا، وفي إحدى المرات أنفقنا 48 دولارا على علبة حفاضات واحدة. وحين تستفيد من برامجنا 200 عائلة، فإن إمدادها يصبح مستحيلا، لأنه سيتعين دفع عشرة آلاف جنيه إسترليني لتوفير حفاضات لأسبوع. إنه نموذج غير مستدام، والأمر نفسه في احتياجات الغذاء الأساسية".

 لم يمكن المنظمة عزل نفسها عن الضرورات الاغاثية، فقد لاح السؤال: "كيف يمكننا دعم أحد الأطفال دون أن ندعم أخوته. كيف يمكن أن ينعم طفل واحد بالدفء، بينما ثلاثة أطفال آخرين في الخيمة نفسها على وشك التجمد من البرد؟".

تولي "أطفال لا أرقام" أهمية قصوى للتعليم المدرسي، وتعتبر أنه حجر الأساس في تعافي غزة وأطفالها، فأسست مدرسة يداوم فيها 300 طفل

قدمت المنظمة سلالا غذائية لأكثر من 500 عائلة، ووفرت في حملة أخيرة ملابس شتوية لأكثر من 650 طفلا، بلغت ما يقارب 80 ألف دولار. كما تكفلت 71 يتيما من 22 عائلة، وقد تأمنت التغطية المالية بفضل أول سفير للمنظمة، لاعب كرة القدم المحترف أنور الغازي.

مدينة الأطفال دون أطراف

غزة التي تحتضن اليوم 38 ألف طفل يتيم بسبب الحرب، تناولها في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 تقرير أممي بعنوان "غزة أصبحت موطنا لأكبر مجموعة من الأطفال المبتوري الأطراف في التاريخ الحديث"، حيث سجلت الأونروا أن 10 أطفال غزيين يفقدون كل يوم إحدى الساقين أو كلتيهما. وأقرت وزارة الصحة الفلسطينية إن أكثر من 11 ألف فلسطيني بينهم 4 آلاف طفل بترت على الأقل أحد أطرافهم السفلية أو العلوية.

يعلق الدكتور شريف مطر بأن استفحال بتر الأطراف عند الأطفال في غزة يعود إلى عاملين. الأول هو عنف الانفجارات الذي يؤدي إلى فلتان أطراف الأطفال بأجسامهم الضئيلة، والثاني أنه بات يمثل الحل الوحيد لإنقاذ المصابين في ظل قلة الموارد الاستشفائية.

ويشير إلى أن تركيب الأطراف الاصطناعية لا يزال اليوم من أصعب الخيارات المتاحة، حيث دمرت إسرائيل مستشفى الأطراف الاصطناعية في غزة مع بداية الحرب. وفي الوقت الحالي، يوفر المستشفى الميداني الأردني هذه الخدمة، إلا أن الحاجة تفوق بكثير الموارد المتوافرة، والتصورات التي تصدرها هذه الأرقام المهولة تخفي خلفها معاناة صامتة في التأقلم وغياب الحلول.

Eduardo Ramon

يحدد الطبيب "أولوية طبية غائبة، وربما أصبحت ضربا من الخيال العلمي ولكنها ملحة في مساعدة الأطفال المبتوري الأطراف على بلوغ مستوى مقبول من الحركة واستقلاليتها، وهي العكازات والكراسي المتحركة. فهي وإن توافرت بأعداد قليلة جدا، لا تكون بالحجم المناسب، حيث يغيب عن اعتبار الجهات المتبرعة حجم أجسام الأطفال".

كما يجد الحاجة ماسة إلى مستشفيات ميدانية تقدم خدمات طبية للحالات المستعصية لأن تلك الموجودة في الجنوب والوسط إمكاناتها ضعيفة، فضلا عن معوقات التنقل. ويشير إلى أن المؤسسات التي تفتح مستشفيات ميدانية تتفادى تسجيل حالات وفيات في سجلاتها، ولهذا فإن خدماتها تقتصر على علاجات طبية بسيطة.

ولاحظ فريق العمل أن أمراض الأسنان عند الأطفال لا تحظى بعناية طبية، وصار الأطفال يتوجهون إلى أي طبيب أو إلى طبيب أطفال لعلاج أطفالهم. ويكشف الدكتور مطر أن المنظمة أدرجت هذه الحاجة ضمن تدخلاتها، فهي تعمل اليوم على تأهيل عيادة لطب أسنان الأطفال في غزة.

غالبية تبرعاتنا تأتي من أفراد في بريطانيا وأوروبا، والمفاجئ أن التبرعات من البلدان العربية تكاد تكون منعدمة – منظمة "أطفال لا أرقام"

تستكمل سمية الصورة قائلة: "مهما حققنا وكيفما حققناه، لن نتجاوز حقيقة أن البنية التحتية مدمرة تماما في غزة، حيث لا أدوية ولا موارد طبية ولا بيئة معقمة. ووسط هذا الانهيار نلاحظ أكثر فأكثر تفشي أمراض فشل القلب عند الأطفال. ويحتاج هؤلاء تدخلات مكلفة ومعقدة مثل زراعة الأعضاء، وهذا أمر مستحيل في غزة".

تتابع: "نحن نعتمد على تبرعات فردية وغالبا بقيمة زهيدة تساوي ثمن فنجان للقهوة. وغالبية تبرعاتنا تأتي من أفراد في بريطانيا وأوروبا، والمفاجئ أن التبرعات من البلدان العربية تكاد تكون منعدمة. وهنا نداء أوجهه الى المتبرعين العرب، أفرادا ومؤسسات، لدعمنا في مواصلة برامجنا في غزة، حيث تزداد التكاليف التشغيلية".

الاستنزاف النفسي فواتيره باهظة أيضا. تقول: "قد أمضي وسارة ست وسبع ساعات يوميا أمام شاشات هاتفنا من لندن، نتعقب أطفال الحرب، طفل بلا يد، طفل بلا ساق، طفل بلا رأس، طفل يبكي على جثة أمه. قلوبنا على وشك الانفجار غضبا وحنقا وحزنا، ولكن هذه المظالم هي التي جمعت أعضاء فريقنا. الجميع يحول آلامه إلى دافع للعمل والالتزام والصمود".

هذه القيم ترويها قصة الدكتور شريف ياسر مطر. الطبيب الشاب والزوج والأب لخمسة أطفال، يشاطرنا ندمه الوحيد في الحرب، وهو ترك شمال القطاع وأهله وحيدين، بعد أن دمرت اسرائيل في أول الحرب مقر عمله مستشفى الرنتيسي للأطفال. ثم علم من زملائه أن ترميم المستشفى، لم يوفر خدمات العناية الفائقة وغسيل الكلى كما السابق.

وفي الوقت ذاته، يقول "عملي في المنظمة هو تلبية لنداء مهنة الطب. هذا ميثاق شرف، ألتزمه تجاه الأطفال في غزة، وأيضا تجاه زملائي الأطباء، من استشهد ومن اعتقل ومن لا يزال في المعتقلات. من بين هؤلاء، صديقي الدكتور محمد حمودة الذي اعتقله الاسرائيليون، حيث كان يلازم أمه المقعدة بسبب إصابتها بالحرب، في منزلهما في بيت لاهيا".

أما الدكتور شريف، فلم يتفقد منزله بعد. يشارك تجربته قبل يومين من رحلته إلى شمال غزة، المدينة التي يغطيها 51 مليون طن من الحطام. آلاف رحلوا، ومئات فقدوا، ولم يبق حجر على حجر، ولكن أرض الفقد والزوال، هي ذاتها الأرض التي ينتمي إليها عشرات آلاف العائدين فور إعلان انسحاب القوات الإسرائيلية. هنا، يتفرغون لبكاء طويل، ولحداد أطول، ومع ذلك، وحيدون كما دوما، يعيشون ملحمة الحياة. الحطام، أيضا في غزة، ليس رقما.

font change