"بلاد زيان" في "الربيع وفصول أخرى" لجان ماري لو كليزيو

قصة فتاة أمازيغية على تقاطع المآسي والتحولات

الترجمة العربية لـ"الربيع وفصول أخرى" للكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لو كليزيو

"بلاد زيان" في "الربيع وفصول أخرى" لجان ماري لو كليزيو

تشغل قصة "ربيع" الحيز الأكبر من مجموعة "الربيع وفصول أخرى" للكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لو كليزيو (1940- )، إلى جوار أربع قصص أخرى هي على التوالي: افتتان، الزمن لا يمر، زينب، موسم الأمطار. ومثلما يشير مترجمها الكاتب المغربي محمد برادة في التقديم، ثمة ظلال مشتركة بين القصص الخمس في طليعتها خمس فتيات يضطلعن بالحكي فضلا عن كونهن شخصيات أساسية، زد على ذلك الصوغ الشبقي للفضاءات وعناصرها المؤطرة ( البحر، الريح، الضوء، السباحة، المشي، التلامس...).

ما يجعل قصة "ربيع" تتفرد عن الأخريات، أن عنوان المجموعة ككل خصّها بعناية الذكر لتكون في التصدير، وكذا حجمها الماكر الذي يكاد ينزاح بشكلها إلى جنس ما يسمى مجاوزة النوفيلا، وقبل هذا وذاك، تبدو متنا جامعا في الكتاب، كأنما تشعبت منه هوامش النصوص اللاحقة، موضوعة وتقنية ولغة وتخييلا.

موجز حكاية الزيانية "سابا"

ثلاث هجرات قسرية تعرضت لها ابنة "بلاد زيان"، منطقة الأمازيغ في المغرب، خنيفرة بالذات، المدعوة سابا، أولا، بعدما تركها أبوها وهي قيد الإنجاب وأمها مريم، فاضطرت والدتها للهروب بها صوب مهدية بالقنيطرة، بعد مذابح الاستعمار في خنيفرة، والهجرة الثانية وهي ابنة الحادية عشرة عاما على متن باخرة في اتجاه ميناء مرسيليا بعدما طرد الأميركيون متبنيها الجنرال هيرشيل وزوجته آيمي، ثمّ الاستقرار في حي "لو لوج"، فرنسا.

سابا الأمازيغية منشطرة الوجدان بين حياتها الفرنسية الطارئة وبين ذاكرتها في هضبة "نايتتنكال" في مهدية، بالقنيطرة المغربية. أكثر من ذلك هي تكره أمها التي تركتها للزوجين الأميركيين الكولونيل هيرشيل وآيمي، بل باعتها الأم إياهما مقابل مال كيما تهجر إلى فرنسا وتعمل أخيرا في ورشة ميكانيكية تحمل اسم أطلس. ما تتجشم سابا عناءه هو فقدان الأب الذي لم تسبق لها رؤيته حتى في صورة، ولذا خيالها مؤرق في تشكيل ملامحه من جهة، ومن جهة منهكة في إيجاد تفسير مقنع لرحيله بالمعنى المزدوج، رحيله عن أمها وهي لا تزال بعد حبلى، وموته في غالب الظن كما ترجح، بل إن حدسها يقول قضى نحبه في مرسيليا.

لا تتكلف قصص "الربيع وفصول أخرى" تشكيلها اللغوي والحكائي، إذ تفاجئنا علنا ببساطتها أول وهلة، ثم سرعان ما نكتشف أنها مخادعة في بساطتها

تعود سابا لتعيش مع أمها مريم باضطراب في شقة "اللوج" بعد ترحيل الأسرة الأميركية من مهدية، القنيطرة، وفي إقامتها الجديدة مع أمها تحاول أن تتعايش مع التحولات الحادة التي بات وعيها منفتحا عليها، مثل أن يكون لأمها عشيق إيطالي وأن يكون بالضرورة عمله وثيقا بباخرة.

الربيع بملء حلميته هو المعادل الموضوعي للمغرب بالنسبة إلى الفتاة الزيانية سابا، على نحو خاص قرية نايتتنكال، في مهدية، عند مصب نهر سبو، وتسمية نايتتنكال نفسها تعني طائر عندليب، كما تحيل على امرأة حاربت الاستعمار على ضفة هذا النهر. سابا وسبو ليسا محض اعتباط تناغم اسمين.

"الربيع وفصول أخرى" للكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لو كليزيو

النهر وغابة البلوط والشمس، ثالوث لا تكاد سحريته تفارق ذاكرة سابا، مقابل شتاء فرنسا المكتئب، متاهة الأزقة وضباب المقاهي، ثم ملاذ البحر.

وفي فرنسا تدمغ حياة سابا اليافعة ثلاثة ندوب، علاقتها المشوشة بالفتى لوسيان الذي يشتغل خبازا وما فتئ يدبج لها رسائل غرامية موجها إليها الخطابات باسم الآنسة زيان، وعلاقتها بالصحافي كرين المتخصص في الريبورتاج، ثم علاقتها بالسيدة المترنحة مورغان.

مع لوسيان تعلمت سابا ركوب الدراجة النارية وحاولت اقتراف الشهوة معه غير أنه كان خجولا بغير ما خبرة، ومع كرين فقدت عذريتها باختيارها في فندق على البحر، ومع مورغان المترنحة ارتادت مقهى العميان واكتشفت الفن التشكيلي غير أنها رفضت أن تكون ضحية لعلاقة مثلية معها.

لا شيء يحدث خارج هذا المدار القلق، فحلم العودة إلى ضيعة نايتتنكال، في مهدية، هو الهاجس الأقوى الذي يسطو على تفكير سابا على امتداد النص، هناك حيث يصخب الربيع السحري الذي لا بديل له، ثم صورة الأب المفقود، وهو من أبناء المحارب الأطلسي موحى أوحموا الذي كبّد الاستعمار الفرنسي أفدح هزيمة في معركة الهري الشهيرة، وغموض نهاية الأب كغموض رحيله عن أمها مريم، ثم جحيم الضياع في فرنسا مقابل إقامة لاحقة مضطربة مع الأم.

Shutterstock
قصبة المهدية بالقرب من القنيطرة في المغرب

وإذ تفتخر سابا باسم بديل فهو اسم زيان، مكان ولادتها في خنيفرة، حتى أن قرطين في شكل هلالين من الذهب كانا في ملك أمها وقبل ذلك في ملك جدتها لا يفارقانها لأنهما الشيء الوحيد الذي وهب لها عندما ولدت، "إنهما ليسا شيئا أعطي لي في ما بعد، وليس شيئا معارا، هما جاءا قبلي، مثل اسمي".

ولا تني تلهج بالسؤال الحارق: "لماذا لم نبق هناك، في تلك المدينة؟ كان قلبي ينبض بقوة أكبر، لا أزال أتذكر، لأنني كنت أظنني أنني عرفت، أخيرا، سر ولادتي. لم تجب أمي على سؤالي. اكتفت بالقول: الآن لم تعد لنا أرض، علينا أن نتيه على الطرقات، فالله أراد لنا ذلك".

عدا القرطين اللذين يمثلان مجد وفخر الانتماء إلى بلاد زيان، ثمة كتابان لا يفارقانها أيضا: كتاب باللغة البرتغالية أعارته إياها السيدة مورغان، عنوانه A Sibia للكاتب أوغستينا بيسا لويس، وكتاب كان في ملكية متبنيها الكولونيل هيرشيل وعنوانه "دليل المغرب الأزرق"، وأما الكتاب الذي لم تجرؤ على أن تصحبه معها فهو "بدون عائلة".

البساطة المخادعة والانسيابية الفاتنة

لا تتكلف قصص "الربيع وفصول أخرى" تشكيلها اللغوي والحكائي، إذ تفاجئنا علنا ببساطتها أول وهلة، ثم سرعان ما نكتشف أنها مخادعة في بساطتها هذه، لأنها تصدر عن عمق تستند إليه رؤى الكتابة في المجمل، وعبر الانسيابية الفاتنة التي يتداعى فيها المحكي بشكل نهري يتماوج مع نهر سبو نفسه في قصة "ربيع"، تبهجنا الإيحاءات اللاسعة في اندفاع السرد المنساق بين اشتعال الحسي والتماعات الذاكرة المثخنة، فلا مواربة في التدفق الهائل لإيقاعه الراصد للحظته الراهنة في البلدة الفرنسية، وفي الآن ذاته عندما ييمم بوجهه شطر الماضي العتيد، متعقبا سيرة الأثر الغائر في الوجدان والذاكرة، ذاكرة المكان الأول من جهة، ووجدان الفقدان المستفحل من جهة ثانية.

ما يجعل قصص "ربيع وفصول أخرى" تنزاح عن حدود الواقعية الفجة، هو انزلاقها إلى منطقة الحلم، دون أن يعني ذلك انسلاخا عما هو حقيقي ويومي ومعيش، بل هي واقعية حلمية بالمعنى الذي تنحرف عن أفقيتها، متحاشية فخ النشاز، وبذا تفتح هوامش للتنفس برئة الاستغراق في ما يتخطى الأشياء الجاهزة.

ما يجعل قصص "ربيع وفصول أخرى" تنزاح عن حدود الواقعية الفجة هو انزلاقها إلى منطقة الحلم، دون أن يعني ذلك انسلاخا عما هو حقيقي ويومي ومعيش

أما الرهان الذي تنجح في استغواره وتمثله في آن، فهو سؤال الزمن الذي تعنى بالحفر فيه ضمن ازدواجية اللحظة الراهنة والما قبل، مع الاكتراث إلى الما بعد، حتى أن تقنية السرد تتماهى مع تصريف آلية الزمن في المستوى الأول، والنظر إلى الزمن شعريا وفلسفيا في المستوى الثاني، ولعل الشذرة الوحيدة التي دبجتها الفتاة الزيانية سابا في دفترها وقد حفظتها عن متبنيها الكولونيل هيرشيل توجز لذوعية ذلك: الزمن طفل يلعب بالنرد.

Shutterstock
تفاصيل معمارية تقليدية ومميزة للمغرب

بالإضافة إلى ذلك، تفتننا باحتفائها الشعري بالطبيعة، إذ تتحول الرؤى الجمالية إلى النهر وغابة البلوط والشمس إلى احتفالية أبيقورية راغية الأنخاب حتى ولا خمر.

أخيرا ما يشفع للكاتب لو كليزيو عندما يشير إلى حوادث التاريخ، خاصة ما يتعلق بالمحارب موحى وحمو الزياني الموسوم بالعظيم في القصة، إحالة إلى ملحمة معركة "الهري" التي اندحر فيها المستعمر الفرنسي بشكل فادح، فيسلك مسلك الانتصار لحقيقة التاريخ المحلي، بغير ما مجاملة أو كسب عطف وهو الطيار الشهير بمنافحته عن عراقة الحضارات الإنسانية كالحضارة الهندو-أميركية والحضارة المكسيكية.

font change