بين الشراء والسيطرة على غزة… ألفاظ ترمب في ميزان القانون الدولي

أفكار إشكالية بشأن غزة والتهجير القسري لسكانها

رويترز
رويترز
صورة تظهر حجم الدمار في مخيم جباليا للاجئين، شمال قطاع غزة، في 20 يناير

بين الشراء والسيطرة على غزة… ألفاظ ترمب في ميزان القانون الدولي

يختلف الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن سابقيه من الرؤساء الأميركيين، كونه لم يشغل منصبا عاما قط، قبل ترشحه للرئاسة، سواء تشريعيا أو قضائيا أو تنفيذيا، ولم يدخل سلك العسكرية، بالرغم من دراسته بمدرسة ثانوية عسكرية، وليس لديه انتماء حزبي واضح ومحدد، فتارة ينضم للحزب الجمهوري، وتارة ينضم للحزب الديمقراطي، وتارة يُعلن أنه مستقل وغير حزبي، ثم تارة أخرى يعود لعضوية الحزب الجمهوري.

وقد كان لذلك عظيم الأثر على طبيعة خطابات ترمب وقراراته الرئاسية، فهو رجل أعمال بامتياز، كل ما يهمه إنجاز الصفقات بأكبر مكاسب وأقل خسائر، دون الاهتمام بالألفاظ والمعاني التي يستعملها، وهو ما ظهر بجلاء في ملف قطاع غزة، فمرة يستعمل لفظ "شراء" القطاع، ومرة أخرى يستعمل لفظ "السيطرة أو الحصول" عليه كما لو كانت صفقة عقارية، والواقع أنه من منظور القانون الدولي، فإن هذه الألفاظ، لها معان تثير إشكالات قانونية ودولية مختلفة، وتترتب عليها نتائج ومآلات وعواقب مختلفة تماما.

فلو كان المقصود "شراء" غزة، ففي هذه الحالة يكون أحد أسباب كسب إقليم الدولة "بالتنازل" وفقا لقواعد القانون الدولي، والتي بمقتضاها تتنازل دولة ذات سيادة إلى دولة أخرى ذات سيادة عن إقليم، سواء كان في شكل معاوضة، أي يتم التنازل عن إقليم مقابل إقليم آخر، أو التنازل بالشراء مقابل ثمن نقدي، وللولايات المتحدة باع طويل في شراء الأقاليم من دول أخرى على مدار تاريخها، ضاعفت بمقتضاها مساحاتها عدة مرات، مثل "صفقة إقليم لويزيانا" عام 1803 والذي اشترته من فرنسا، "وصفقة إقليم فلوريدا" من إسبانيا عام 1818، "وصفقة ألاسكا" عام 1867 من روسيا القيصرية.

الإشكالية الأولى في هذا الشأن هي طبيعة الوضع القانوني لقطاع غزة

الإشكالية الأولى في هذا الشأن هي طبيعة الوضع القانوني لقطاع غزة، فنظرا لعدم قيام دولة فلسطينية معترف بها دوليا تتمتع بالسيادة، حيث كان القطاع تحت الإدارة المصرية من عام (1948-1956) و(1957-1967). وبعد حرب يونيو/حزيران 1967 وقع القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي، وقد أقر المجتمع الدولي منذ ذلك التاريخ بأن القوات الإسرائيلية الموجودة في القطاع، هي قوة احتلال حربي، فرض سيادته وأنشأ إدارة عسكرية في الأراضي الفلسطينية، وبهذا تنطبق عليه حالة الاحتلال، على الرغم من ادعاء إسرائيل أن القطاع جزء من أرض "متنازع عليها" وليست "أرضا محتلة"، وبالتالي يثار السؤال المنطقي في هذه الحالة، خاصة بعد تنفيذ خطة الانسحاب، وفك الارتباط الأحادية من جانب دولة الاحتلال إسرائيل عام 2005: مع أي دولة ستتعاقد الولايات المتحدة لشراء القطاع، هل مع إسرائيل الدولة المسيطرة فعليا على القطاع، وباتت تحتل أجزاء منه مجددا اليوم، أم مع السلطة الفلسطينية، والتي تمثل الشعب الفلسطيني، لكن دون وجود دولة معترف بها دوليا ذات سيادة؟

وأما الإشكالية الثانية التي تثار، فهي الإجراءات القانونية الواجب اتباعها وفقا للنظام الدستوري الأميركي لإتمام هذه الصفقة، فعلى الرغم من أنه من سلطات الرئيس الأميركي التعاقد لشراء أقاليم جديدة، تضم إلى الولايات المتحدة، فإن هذا يتوقف على تصديق الكونغرس على الصفقة، بعد مراجعة تفاصيلها، ومراجعة مدى أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة، مع الوضع في الاعتبار أن الثمن سيدفع من الخزانة العامة للدولة، ومن أموال دافعي الضرائب، وفي هذه الحالة ونظرا للطبيعة القانونية غير المستقرة للقطاع، فعلى الأرجح لن يتمكن من استيفاء موافقة الكونغرس على الصفقة.

ماذا لو كان المقصود "السيطرة أو الحصول" على القطاع؟

في هذه الحالة يكون "غزوا أو احتلالا"، أي كسب إقليم بالقوة العسكرية، وأشهر أشكاله حصول الدولة المنتصرة على إقليم تابع لدولة مهزومة في حرب أو نزاع مسلح، ويعتبر الإقليم محتلا إذا أصبحت الدولة التي ينتمي إليها، لا تستطيع ممارسة سلطاتها العادية عليه، من الناحية الواقعية والفعلية بسبب الغزو، مع قيام الدولة الغازية بحفظ النظام، بدلا منها في الإقليم. وقد أصبحت هذه الطريقة مهجورة ومحظورة في العصر الحديث، بعد أن كانت حقا للدول قديما، قبل تطور النظام الدولي الحديث بعد الحربين العالميتين، وتطور مبادئ القانون الدولي.

ماذا لو كان المقصود "السيطرة أو الحصول" على القطاع؟ ففي هذه الحالة يكون "غزوا أو احتلالا"، أي كسب إقليم بالقوة العسكرية، وأشهر أشكاله حصول الدولة المنتصرة على إقليم تابع لدولة مهزومة في حرب أو نزاع مسلح

وفي حالة القطاع، فإننا أمام حالة استبدال احتلال قائم باحتلال آخر، وفي هذه الحالة تثار إشكالية غياب المبرر القانوني لهذا الاحتلال، فالقانون الدولي يبيح في حالات محددة للدول، أن تحتل أقاليم دول أخرى، في حالات الضرورة القصوى، التي يقدرها النظام الدولي، مثل احتلال دولة لإقليم دولة أخرى، بهدف المساعدة في كارثة طبيعية أو حماية لمصالحها في حالة سقوط الدولة الأصلية صاحبة الإقليم، مثل احتلال الولايات المتحدة لغرينلاند حماية لمصالحها القومية خلال الحرب العالمية الثانية، بين عامي (1939-1945) بعد احتلال ألمانيا النازية للدنمارك، أما في حالة قطاع غزة فلا يوجد مبرر قانوني لهذا الاحتلال إلا إعادة إعمار القطاع، وتحويله إلى منتجعات سياحية وهي أسباب لا تعتبر من حالات الضرورة.

التهجير القسري لسكان قطاع غزة من المدنيين

يقصد بالتهجير القسري "نقل السكان أو الأفراد جبرا من أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى دون إرادتهم، وذلك باستخدام القوة أو التهديد بها، أو بوسائل قسرية أخرى، مثل التخويف أو الاضطهاد أو انتهاك حقوق الإنسان".

أ ف ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوقع على أمر تنفيذي بالعفو عن مرتكبي جرائم السادس من يناير في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، في 20 يناير 2025

ويعتبر التهجير القسري انتهاكا جسيما للقانون الدولي الإنساني، وقد يرقى في بعض الحالات إلى اعتباره جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية. بالإضافة لما سبق، فإن قواعد القانون الدولي الإنساني تمتد أيضا إلى عدة مبادئ لحماية بعض الأشياء أو الأماكن الأخرى من أهمها: حظر مهاجمة الأشياء التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين،فيحظر على أطراف النزاع المسلح مهاجمة أو تدمير المواد الغذائية أو المناطق الزراعية أو محطات مياه الشرب، وشبكات الري إذا كانت مخصصة للسكان المدنيين، إذا كان الغرض من ذلك تجويع المدنيين أو حملهم على الخروج من الإقليم أو لأي سبب أو دافع آخر، ولا يسري هذا الحظر إذا كانت هذه الأشياء مخصصة للأغراض العسكرية، أو إذا حتمت الضرورة العسكرية القهرية مهاجمتها، وذلك وفقا للمادة 54 من البروتوكول الأول، والمادة 14 من البروتوكول الثاني لعام 1977. كذلك حظر مهاجمة المنشآت التي تحتوي على قوى خطرة، يترتب على الهجوم عليها انطلاق قوى خطرة تحدث خسائر جسيمة للسكان المدنيين، مثل السدود ومحطات الكهرباء التي تعمل بالطاقة النووية، ووفقا للمادة 56 من البروتوكول الأول لعام 1977 فإنه يحظر مهاجمتها إلا إذا استخدمت دعما للعمليات العسكرية، على نحو منتظم ومباشر وبشرط أن يشكل هذا الهجوم الطريقة الوحيدة لوقف الدعم والاستخدام العسكري.

أما بالنسبة للأساس القانوني لحظر وتجريم التهجير القسري للمدنيين فهو يشمل:

المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، وبروتوكولها الإضافي الأول لعام 1977، والتي تضمنت حظر نقل أو ترحيل السكان المدنيين قسرا من الأراضي المحتلة إلى أراضٍ أخرى، سواء كانت تابعة للمحتل أو أي دولة أخرى، بغض النظر عن الأسباب.وإمكانية القيام بإجلاءات مؤقتة فقط، إذا اقتضت ذلك أسباب عسكرية حتمية أو لأغراض حماية المدنيين من مخاطر النزاعات المسلحة، وفي حالة حدوث إجلاء قانوني، يجب إعادة الأشخاص الذين تم إجلاؤهم إلى منازلهم، فور انتهاء الأسباب التي أدت إلى نقلهم، وكذلك حظر الاستيطان الذي تقوم به الدول المحتلة بنقل سكانها المدنيين إلى المناطق المحتلة.

المادتان 7 و8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الصادر عام 1998، حيث اعتبر التهجير القسري في سياق النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية جريمة حرب، وكذلك تصنيفه، سواء في أوقات السلم أو الحرب، ضمن الجرائم ضد الإنسانية إذا تم بشكل واسع النطاق أو منهجي.

يقصد بالتهجير القسري "نقل السكان أو الأفراد جبرا من أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى دون إرادتهم، وذلك باستخدام القوة أو التهديد بها، أو بوسائل قسرية أخرى، مثل التخويف أو الاضطهاد أو انتهاك حقوق الإنسان"

المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948،والتي تنص على حق الإنسان في حرية التنقل داخل بلده، وحقه في مغادرته والعودة إليه متى شاء، دون تعسف أو قيود غير قانونية.

المادة 11 من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948 بشأن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والتي سمحت للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم بأن يفعلوا ذلك في أقرب وقت ممكن، وأن يدفع تعويض عن ممتلكات من يختارون عدم العودة، وعن الخسائر أو الأضرار التي تلحق بالممتلكات، بموجب مبادئ القانون الدولي أو الإنصاف الدولي، وينبغي أن تنفذها الحكومات أو السلطات المسؤولة.

ومن سوابق الأحكام القضائية التي صدرت بشأن جريمة التهجير القسري ما صدر من المحكمة العسكرية الدولية لجرائم حرب بنورمبيرغ، والمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، ومحكمة الآلية الدولية لتصريف الأعمال المتبقية للمحكمتين الجنائيتين (يوغسلافيا ورواندا)، وأخيرا المحكمة الجنائية الدولية.

السيناريوهات والمآلات المتوقعة للمقترح

إن ما يقوم به ترمب منذ توليه مهام منصبه، هو السير على نهج الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في تطبيق سياسة "الرجل المجنون" والتي كان يمارسها على من يتفاوض معهم من قادة دول الكتلة الشرقية أثناء الحرب الباردة، مع ممارسة ضغط شديد عليهم، فيتعمد الظهور بمظهر المجنون المختل الذي لا يمكن توقع أفعاله، ثم يستخدم أحد مساعديه، فيتقمص دور الناصح الأمين الذي يقول للمفاوض "إن الرئيسمصاب بالجنون، ونحن نحاول دائما تهدئته حتى لا يقدم على عمل جنوني، وإذا ما سمع أنكم تماطلون في المفاوضات، فإنني لن أستطيع السيطرة على جموحه، وقد يفعل أي شيء". وما يقوم به ترمب حاليا هو محاولة للضغط قدر المستطاع، أملا في الحصول على مركز تفاوضي أفضل في نهاية المفاوضات.

وقد يفهم أيضا أن ما يقوم به ترمب حقيقي، وليس من قبيل ادعاء الجنون، وأن الولايات الأميركية تسعى للحصول على موضع قدم دائم في جنوب المتوسط، تحقيقا لأهداف استراتيجية، بما يخدم مصالح إسرائيل، أو أملا في الحصول على ثروات طبيعية من احتياطيات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.

وقد يُفهم أيضا أن ما يقوم به الرئيس الأميركي قد يدفع إلى مزيد من النفور الدولي من الولايات المتحدة على الصعيد الأممي، وعلى صعيد حلفائها، بما يؤدي إلى توسيع دائرة خصوم الولايات المتحدة، لا سيما "منظمة البريكس" الناشئة التي من الممكن أن توسع عضويتها لتشمل دولا أوروبية، ودولا أخرى شديدة التحالف مع الولايات المتحدة مثل كندا والمكسيك على سبيل المثال.

font change

مقالات ذات صلة