عن غرائب الأفكار "الترمبية"https://www.majalla.com/node/324353/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B9%D9%86-%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8%D9%8A%D8%A9
مزيج مركب من الدهشة والاستغراب وحتى الاستفزاز والغضب، أثارته تصريحات الرئيس الأميركي (دونالد ترمب) بشأن قضايا استراتيجية شتى، داخلية وخارجية، وذلك حول الطريقة التي يفكر بها الرئيس الأميركي لإدارة علاقات إدارته، ومصالح بلاده، سواء في الولايات المتحدة ذاتها أو حول العالم.
خلال ولايته الرئاسية السابقة استند ترمب إلى خلفيته وخبرته كرجل أعمال بالغ الثراء، ومهندس صفقات تجارية، ونمط عيش مُترف لا علاقة له بقراءة التاريخ أو حتى بالسياسة، لكنه هذه المرة، في بداية ولايته الثانية يبدو كمن يتجاوز شعاره "أميركا أولا" لـ"يحلم" بإعادة تشكيل المستقبل ليس في الولايات المتحدة فحسب، ولكن أيضا في الأميركتين بلوغا إلى الشرق الأوسط، وحتى أوروبا وربما قارات أخرى في هذا الكوكب.
ينقسم الرأي المحلي والدولي إزاء طموحات ترمب إلى معسكرين، أحدهما، محلي متحمس، يرى في توجهات ترمب "واقعية سياسية" شديدة، لكن المعسكر الثاني، وهو الأكبر على المستوى الدولي، لا يرى في ذلك أي منطق أو واقعية، بل يتجاوز القانون الدولي، وحتى الأميركي، ويبدو مثل "لاعب سيرك" أو مدمن لألعاب إلكترونية، يَفترض إمكانية تطبيقها، وفق مخيلته في إعادة بناء العالم على طريقته "الهوليوودية" ومزاجه "الشعبوي" الخاص.
تهدد أفكار ترمب بتقويض مقومات الديمقراطية الأميركية وأسس علاقاتها الدولية، لا سيما منها تلك الأفكار التي تشير إلى ضم الجارة الشمالية كندا إلى الولايات المتحدة، واستعادة "قناة بنما" والسيطرة على "جزيرة غرينلاند" الدنماركية، والبدء في حرب تجارية حول العالم، خصوصا مع "التِّنين الصيني" الجامح.
أي واقعية إذن في كل ذلك لدى ترمب؟ الأغرب من هذا أن يعلن عن نيته "الاستحواذ" على قطاع غزة المنكوب، وطرد سكانه خارج أرضهم، محاولا الضغط على مصر والأردن لاستقبالهم.
يتعهد ترمب القيام بما لم تستطع إسرائيل فعله خلال أكثر من عام من حربها الوحشية في غزة... يريد "تأميم" غزة ومصادرتها من أهلها الأصليين، بذريعة أنه يريد إعادة إعمارها.
من الواضح أن ترمب لا يتبنى فقط سياسات اليمين المتطرف في إسرائيل، لكنه ربما يذهب بها إلى أبعد مدى يستطيع، بدليل إعلانه أنه يعتزم أيضا إصدار إعلان بشأن ضم إسرائيل لأجزاء من الضفة الغربية المحتلة.
يتعهد ترمب القيام بما لم تستطع إسرائيل فعله خلال أكثر من عام من حربها الوحشية في غزة
في حكم المؤكد أن ترمب من حيث يدري أو لا يدري أحاط ذاته بفريق عمل عريض من "الصقور" الجمهوريين، أغلبهم وإن كان متعلما جيدا لكنه بلا ثقافة سياسية أو خبرة متراكمة، وضعوه في مناخ يجعله يفعل ما يريدونه بمحض إرادته، وليس بإملاء منهم، دون وعي منه، على الأرجح، بالعواقب المترتبة على ذلك، فوزير خارجيته مثلا يقول: "إن الولايات المتحدة ستجعل غزة جميلة من جديد" وكأن واشنطن اشترت "قطعة أرض" لتبني عليها حديقة خلفية لها في غرب البحر المتوسط.
مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل والتز يقول هو الآخر: "من يرفض قول ترمب بشأن غزة لا يملك رؤية واقعية للشعب الفلسطيني". والتز، قال أيضا: "إن سكان غزة يعيشون بين القنابل غير المنفجرة، والمباني القابلة للانهيار وغير الآمنة، ولا يوجد ماء، غزة غير قابلة للعيش تماما".
لكن الصحيح في المقابل أن قطاعا واسعا من الناس في الولايات المتحدة لا يزال معارضا بشدة لـ"مبالغات" ترمب، ويرى فيها تجاوزا كبيرا على منظومة القيم والمثل التي قامت عليها الولايات المتحدة، ويرون أنه لا بد من مناوأتها وتحديها بكل الوسائل، ويجب وضع المزيد من "الكوابح" أمام اندفاعات ترمب.
بادر"الديمقراطيون- مثلا- إلى إدانة خطة ترمب للسيطرة الأميركية على غزة" وغيرها من مخططات إدارته في الداخل والخارج. ولا يبدو أن معظم الحلفاء الغربيين وغير الغربيين سوف يكونون على وفاق تام مع ترمب، فرئيس وزراء أستراليا، أنتوني ألبانيا، يقول: "ندعم حل الدولتين لا دولة واحدة". والصين قالت الشيء ذاته في إطار إجماع دولي رافض ومستنكر بشدة لمقترحات ترمب.
فقدان الثقة في السياسة الأميركية
لم تعد هناك ثقة في السياسة الأميركية التي كانت أصلا "متقلبة" وفقا لمصالحها، لكنها أصبحت اليوم تماما بلا ثوابت أو مسلمات أو أرضية من مبادئ راسخة يمكن البناء عليها.
المشهد في العاصمة الأميركية يبدو في نظر كثيرين "سرياليا" ولا يشبه أي مشهد في عهد أي رئيس أميركي سابق، بل وفي تاريخ الولايات المتحدة الذي لم يكن يخلو من تعبيرات عنيفة، عن غطرسة القوة وإشعال الحروب في أكثر من منطقة في العالم، دونما سبب إلا لتجريب السلاح، وتمويل صناعته على حساب دافع الضرائب البسيط، وجريا على عادة أو فكرة أنه ما لم تكن هنالك أزمة فيجب صناعتها، وما لم يكن هناك عدو فيجب البحث عن عدو جديد.
الرئيس الاميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو اثناء الاعلان عن خطة ترمب للسلام في الشرق الاوسط في 20 يناير 2020
يرى ترمب أنه لا "خيار" أمام سكان قطاع غزة سوى مغادرته سبيلا إلى إيجاد "أرض جميلة قابلة للحياة" على حد قوله، ولكن لا مؤشر حتى اللحظة على أن لدى مصر أو الأردن أدنى استعداد لتلبية مطالب ترمب بإعادة توطين فلسطينيي غزة في أراضيهما، ولا دليل على صحة مزاعمه بأن "هناك من يرفض أمورا ثم يعود للموافقة عليها". الأسباب جلية وواضحة لدى القاهرة وعمَّان وحتى غيرهما من الدول الأخرى التي رشحها ترمب لاستضافة سكان القطاع.
أول تلك الأسباب أن مقترحات ترمب تشكل "اقتلاعا للفلسطينيين من أرضهم وليس فقط تجريفا" للقرارات الدولية التي نصت على أنه لا حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي سوى "حل الدولتين" أي دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على حدود ما قبل الخامس من يونيو/حزيران 1967.
ثانيا، أن كل البلدان التي دعاها ترمب لاستقبال الفلسطينيين، ترى في ذلك تحديات كبيرة لأمنها القومي، الأمر الذي لا بد أن يواجه رفضا شعبيا قد يؤدي إلى عنف واضطرابات تهدد استقرار بعض تلك الدول.
وثالثا، أن أغلب تلك البلدان تواجه أساسا أزمات اقتصادية طاحنة ولا قِبَل لها على تحمل مزيد من الأعباء، خصوصا مصر التي تستضيف ما لا يقل عن أحد عشر مليونا من النازحين إليها من مختلف الدول الفاشلة حولها كسوريا والسودان وليبيا واليمن وغيرها.
تصورات ترمب لمستقبل غزة دون سكانها ليست أكثر من "أوهام" أو "أضغاث أحلام" لن تجد لها في الواقع على الأرض ما يجعلها أمرا واقعا بأي حال.
تبادل أدوار
ثمة ما يبدو بكل وضوح نوعا من "جنون العظمة" لدى ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأول بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأميركية رغم سلسلة من الفضائح والملاحقات القضائية، والثاني، بعد ما يعتقد أنه حقق نصرا استراتيجيا وتاريخيا بإضعاف "حزب الله" في لبنان، وسقوط نظام حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وانكفاء إيران على ذاتها بعد انهيار ما أسمته "محور المقاومة" الذي ضخت مليارات الدولارات على دعمه.
يحاول نتنياهو التظاهر بأن ما طرحه حليفه ترمب هو من بنات أفكار الأخير، وكأنه لم يكن على علم بها.
لا بد أن كلا من ترمب ونتنياهو تفاجأ برفض أغلب الحكومات في العالم لأفكارهما غير العادلة وغير القابلة للتنفيذ.
يبدو ترمب ونتنياهو كأنهما في "ماراثون" للتسابق والتنافس على إطلاق المزيد من المقترحات بشأن مصير سكان غزة، فالرئيس الأميركي لم يعد يدري إلى أين يأخذ سكان غزة، تارة إلى مصر والأردن وتارة إلى ألمانيا وإسبانيا وأخرى إلى الصومال أو المغرب، وكأنهم عالقون في مطار أميركي وليسوا في أرضهم.
يبدو ترمب ونتنياهو كأنهما في "ماراثون" للتسابق والتنافس على إطلاق المزيد من المقترحات بشأن مصير سكان غزة، وكأنهم عالقون في مطار أميركي وليسوا في أرضهم
ومثله نتنياهو يقترح على السعودية "إقامة وطن للفلسطينيين في المملكة التي تتمتع بأراض واسعة" على حد تعبيره، وذلك لمجرد أن السعودية جددت موقفها الرافض لتهجير الفلسطينيين، وكررت مطالبتها بـ"حل الدولتين" كحل وحيد لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. نتنياهو يخطئ كثيرا حين يعتقد أن وجود حليف له في واشنطن متهور وغير مسؤول مثل ترمب يعني أن خيالاته المريضة يمكن أن تتحقق.
كيف تغير ترمب بين ولايتين؟
عام 2017، عشية تنصيب ترمب رئيسا في ولايته الأولى، كنت في مؤتمر في "ميلانو" الإيطالية وقد سألتني ناشطة سياسية عن رأيي حول قدرة العالم على تحمل رحلة شاقة مع ترمب خلال سنوات رئاسته الأربع.
كانت تلك السيدة، رغم ميولها اليمينية، تتوجس خيفة من مستقبل علاقات بلادها بإدارة ترمب.
اليوم يعود ترمب لقيادة الولايات المتحدة لسنوات أربع أخرى، توعد أن تشهد "أكبر عملية ترحيل" للمهاجرين إلى بلاده، لكنه لا يتورع عن ترحيل أكثر من مليونين من فلسطينيي غزة إلى بلاد الآخرين، فلماذا لا يستضيفهم لديه ولو "مؤقتا" إذا كان سيتعذر عليه إعادة بناء غزة في وجودهم.
قصارى القول، إن ما يفعله ترمب لا يبعث على الحيرة فقط، لكنه يعيد طرح السؤال عن جدوى "الديمقراطية" التي تأتى برجل مثله وغيره إلى سدة الحكم، ليتحكموا في مصائر بلدانهم، والعالم بمثل هذه الطريقة التي يعوزها الكثير من العقلانية والواقعية، وتصبح مثارا للرفض والاستنكار وليس للسخرية والتندر.
وفيما يجري التداعي لتحرك عربي وعالمي للتعامل مع مقترحات ترمب بشأن غزة، من خلال مؤتمرات قمة، وإخراج مظاهرات عارمة في مختلف أنحاء العالم رأت "جماعة السلام العربية" وهي تجمع سياسي يضم قادة وزعماء، ومسؤولين كبار سابقين من دول عربية عدة فيما أعلنه ترمب، من توجه نحو غزة "تعبيرا عن أحد تجليات الديمقراطية الاستعمارية، فأوطان الآخرين لا تعني في نظر المستعمرين سوى كونها مناطق للاستغلال الاقتصادي وللنفوذ السياسي، وللنشاط الاستخباراتي وللتأثير الإعلامي" كما قالت.
قد يتراجع ترمب عن خططه وتصريحاته بعد كل ما لقيته من الرفض والاستهجان من قبل أغلب دول العالم، لكن من المستبعد أن يتوقف عن إطلاق المزيد من المفرقعات، وإثارة الكثير من الزوابع في سنوات رئاسته المقبلة، التي بدأها قبل أقل من شهر، وعلى العالم أن يستعد لكل ذلك.