أميركا... غضب عارم ضد إلغاء ترمب "التنوع والمساواة والإدماج"

حالة من الغليان تجتاح الاتحادات العمالية والجماعات الحقوقية

أ ف ب
أ ف ب
يتجمع المتظاهرون خلال "مسيرة الشعب إلى واشنطن" في واشنطن العاصمة، في 18 يناير 2025، قبل تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويزعم المتظاهرون أن الأخير سوف ينتهك حقوق المرأة والمهاجرين والمثليين

أميركا... غضب عارم ضد إلغاء ترمب "التنوع والمساواة والإدماج"

بعد أيام قليلة من توليه الرئاسة، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أمرا تنفيذيا ينهي العمل ببرنامج "التنوع والمساواة والإدماج" (DEI) المستند إلى قانون الحقوق المدنية الصادر عام 1965، مما أثار موجة عارمة من السخط بين الديمقراطيين والمنظمات الحقوقية، إزاء ما اعتبروه انتكاسة، وسبة في جبين الإدارة الجمهورية، لاسيما وأن هذا البرنامج يضمن حقوق المثليين والملونين في مختلف قطاعات العمل، ويمنع التمييز ضد أي شخص على أساس عرقي أو ديني أو جنسي في التوظيف بالقطاعين العام والخاص.

ترمب برر قراره بأنه يرمي إلى إتاحة اختيار الموظفين والعمال بل والعسكريين على أساس الكفاءة، وليس تحقيق التوازن بين مختلف الفئات. وذهب إلى حد إلقاء اللوم على هذا البرنامح في حرائق لوس أنجلس الأخيرة، وتصادم طائرتين بالقرب من مطار رونالد ريغان بواشنطن.

وفيما احتفى جانب من أنصار ترمب وحلفائه بالقرار، شجبه معارضوه وحقوقيون بذريعة أنه سيفاقم من انعدام المساواة، وسيمحو جهود عقود من العمل على إعلاء الحقوق المدنية، وحماية الفئات المهمشة، ووصفوا ادعاءاته بشأن مسؤولية هذا البرنامج عن الحوادث الأخيرة بالخطيرة.

ظلت برامج "التنوع والمساواة والدمج" جزءا أصيلا من قواعد العمل والتوظيف لضمان التمثيل العادل للفئات، التي يعتقد أنها كانت مهمشة على مدار التاريخ الأميركي، مثل الأميركيين من ذوي الأصول الأفريقية، والمثليين، والنساء، وذوي الاحتياجات الخاصة، والأقليات العرقية.

ووضعت هذه البرامج التي باتت إجبارية، موضع التنفيذ في الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص لإزالة الحواجز أمام الفئات التي تأثرت بميراث التمييز العنصري، والتمييز على أساس الجنس وأيضا لمكافحة كراهية الأجانب. وتتضمن هذه البرامج إلى جانب منع التمييز، حظر التفاوت في الأجور على أساس هذه الفروق، وتوسيع آفاق الفرص أمام الفئات التي تعاني قصورا في التمثيل.

وشكلت هذه البرامج التطور الطبيعي لتسلسل الحقوق المدنية في البلاد، منذ صدور قانون الحقوق المدنية في عهد الرئيس ليندن جونسون عام 1964 في أعقاب سلسلة طويلة من المظاهرات في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وحال القانون دون التمييز على أساس العرق أو الدين أو بلد المنشأ أو اللون أو الجنس، مما أحدث تغييرات هائلة في المجتمع الأميركي.

وفي عام 1965، أصدر جونسون أمرا تنفيذيا اتسعت بمقتضاه محظورات التمييز لتشمل التعيين في الوظائف الحكومية، وهو القرار الذي ألغاه ترمب بمقتضى أمره الأخير. واكتسبت جهود العمل بهذا البرنامج زخما في القطاعين العام والخاص عام 2020 بعد مقتل المواطن الأسود جورج فلويد خنقا تحت ركبتي ضابط أبيض في مينيابوليس بولاية منيسوتا، مما أشعل الكثير من الاحتجاجات في مختلف أنحاء العالم ضد العنصرية وقسوة الشرطة.

ويزعم ترمب وأنصاره أن هذا البرنامج، كان يعزز التمييز ضد الفئات الأخرى من الأميركيين، بمن فيهم البيض والرجال، ويضعف من أهمية الكفاءة في التوظيف أو الترقيات. ووصف السياسات المتبعة في سياق هذا البرنامج بأنها محض هراء. أما المنظمات الحقوقية فتؤكد أن هذه السياسات تساعد في حماية الفئات المهمشة، وتتصدى للآثار المترتبة على الفجوات بينها عبر التاريخ والأجيال.

ويدفع اتحاد الحريات المدنية الأميركي بأن هذا البرنامج لا ينطوي على أي تمييز ضد من ذكرهم ترمب، ويرون أنه عامل أساسي في خلق البيئة الضرورية للنجاح للجميع، وإزالة العقبات أمام الأفراد للترقي. كما أكد رئيس مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة فولكر ترك أن برامج مكافحة التمييز لا تشكل أي تهديد وينبغي الحفاظ عليها.

كشف استطلاع للرأي أجرته "رويترز" أن 59 في المئة من الأميركيين- 30 في المئة منهم جمهوريون- يعارضون قرارات ترمب بوقف الجهود الفيدرالية الرامية إلى تشجيع توظيف النساء وأفراد الأقليات العرقية

وتضمّن الأمر الذي أصدره ترمب، تسريح جميع الموظفين الفيدراليين الذين يراقبون تنفيذ برامج مكافحة التمييز وإغلاق مكاتبهم، وحث القطاع الخاص على تجاهل العمل بالسياسات المرتبطة بهذا البرنامج. وأصدر أمرا آخر بوقف التمويل للمدارس، التي تؤيد وتدرس نظرية العرق النقدية، والتي تقوم على فرضية أن الانحياز أو التمييز العرقي، هو سمة مكتسبة ومتعمدة ومختلقة، لدى فئة مخترقة ثقافيا وليست فطرة طبيعية، وأن غايتها قمع واستغلال الملونين. ويرى أصحاب هذه النظرية أن العنصرية متأصلة في القانون والمؤسسات القانونية الأميركية، وأن هذه المؤسسات تسعى جاهدة إلى تكريس التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين البيض وغير البيض، وخاصة الأميركيين من ذوي الأصول الأفريقية.  
وقد كشف استطلاع للرأي أجرته "رويترز" أن 59 في المئة من الأميركيين- 30 في المئة منهم جمهوريون- يعارضون قرارات ترمب بوقف الجهود الفيدرالية الرامية إلى تشجيع توظيف النساء وأفراد الأقليات العرقية. وأعرب 51 في المئة عن رفضهم قرار ترمب بإغلاق مكاتب برنامج "التنوع والمساواة والدمج" بالتحديد، فيما أيده 44 في المئة.    
وأشار ترمب في نص قراره إلى أن ثمة هيئات مؤثرة في المجتمع الأميركي، تبنت ودأبت على ممارسة أنشطة تفضيلية خطيرة وغير أخلاقية ومنحازة جنسيا وعرقيا تحت ستار ما يسمى التنوع والمساواة والدمج. 

أ ف ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوقع على أمر تنفيذي بالعفو عن مرتكبي جرائم السادس من يناير في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، في 20 يناير 2025

وكان الرئيس السابق جو بايدن قد وسع إرث ليندن جونسون بأمر تنفيذي أصدره عام 2021 بعنوان "التنوع والمساواة والدمج والتيسير في قوى العمل الفيدرالية" والذي تم بموجبه تحديد معنى كل واحد من هذه المصطلحات. ووفقا لأمر بايدن التنفيذي، فإن التنوع يعني التمثيل، والمساواة تعني العدل والحياد، والدمج يتعلق بتعزيز الإحساس بالانتماء والقيمة، أيا كانت خلفية أو أصل العامل أو الموظف.  
كما كشف استطلاع للرأي أجراه معهد "بيو" عام 2023 أن غالبية الموظفين الأميركيين يحبذون توسيع العمل ببرنامج "التنوع والمساواة والدمج" في أماكن العمل، فيما أشار ما يقرب من 60 في المئة إلى أن المؤسسات التي يعملون فيها لديها سياسات تضمن العدالة في التوظيف والأجور والترقي. وكشف الاستطلاع أن حوالي  78 في المئة من هؤلاء إما ديمقراطيون أو لديهم ميول ديمقراطية مقابل 30 في المئة من الجمهوريين أو ذوي الميول الجمهورية.

قالت الاتحادات العمالية إن حديث ترمب عن التقييم على أساس الكفاءة، هو في الواقع انتكاسة، وعودة إلى الأيام التي كان فيها الملونون والنساء وغيرهم من الفئات المهمشة، يفتقرون إلى الأدوات التي تضمن تقييمهم على أساس الكفاءة

وكان ترمب قد وجّه في أمر تنفيذي آخر بتسريح نحو 70 في المئة من العاملين في المؤسسات الفيدرالية، وهو الأمر الذي علقته محكمة فيدرالية حتى تتضح معالمه، فيما حرض الديمقراطيون الموظفين على عدم الانصياع له، أو قبول عرض الاستقالة والحوافز الذي طرحه البيت الأبيض. كما علقت محكمة أخرى قرار ترمب بتجميد عمل "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" USAID)) وتسريح أكثر من 10 آلاف شخص يعملون بها، فيما اعتبره الكونغرس تعديا على السلطة التشريعية، التي تمتلك صلاحيات تمويل هذه المؤسسة. 
كما يحث الأمر الذي أصدره ترمب في 21 يناير/كانون الثاني القطاع الخاص على وضع نهاية للتمييز غير القانوني والانحيازات، بما في ذلك وقف العمل ببرنامج "مكافحة التمييز" ولم يقتصر وقف العمل بالبرنامح على الأجهزة والمؤسسات الفيدرالية، بل امتد للقطاع الخاص. فقد نأى رؤساء الكثير من الشركات الكبرى بذاتهم عن ممارسات البرنامج. وأعلنت الكثير من السلاسل التجارية والشركات، مثل "وول مارت" و"لويز" و"فورد" التملص من مقتضيات هذا البرنامج، والإحجام عن المشاركة في المهرجانات التي يقيمها المثليون، وأيضا المشاركة في الاستطلاعات والمسوح التي يجريها البرنامج. وألغت شركة "أمازون" وسلسلة مطاعم "ماكدونالدز" ذكر البرنامج أو السود أو المثليين من صفحة السياسات الخاصة بهما. وفي المقابل أبقت شركات أخرى على البرنامج، مثل سلسلة متاجر "كوسكو". 
ورفضت الاتحادات العمالية التخلي عن هذا البرنامج. وأشارت إلى أن حديث ترمب عن التقييم على أساس الكفاءة، هو في الواقع انتكاسة، وعودة إلى الأيام التي كان فيها الملونون والنساء وغيرهم من الفئات المهمشة، يفتقرون إلى الأدوات التي تضمن تقييمهم على أساس الكفاءة. وأكدت فاطمة غوس غريفز، الرئيس التنفيذي لـ"المركز النسائي القانوني الوطني" أن ترمب أخل خلال 48 ساعة من توليه بوعده بالدفاع عن العمال، وقوّض الأدوات الكفيلة بحماية تكافؤ الفرص والمعمول بها منذ أكثر من 60 عاما. وحذرت من أن قرارات ترمب تفتح الباب على مصراعية للتمييز ضد العمال في أماكن العمل. 
وفور صدور قرار ترمب، أوقفت القوات الجوية الدورات التدريبية التي تتضمن فيديوهات تعرض أول فرقة من الطيارين السود، الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، وشكلوا نواة سلاح الجو الأميركي، وأيضا فيديو يستعرض الطيارات الأميركيات العاملات في سلاح الجو. ونقلت "أسوشييتد برس" عن سلاح الجو الأميركي أنه سينفذ التعليمات الواردة بموجب الأوامر الرئاسية، مع التأكيد على تطبيقها بأعلى درجة من الحرفية والفعالية وبما يتسق مع مقتضيات الأمن القومي. إلا أن النائب الديمقراطي تيري سويل حث القوات الجوية على إعادة فقرة الطيارين إلى المناهج التدريبية، نافيا أي علاقة لها بالبرنامج الذي ألغاه ترمب، ومعتبرا إزالتها نوعا من الخيانة للقيم الأميركية، وجحودا بفضل هؤلاء الطيارين وتضحياتهم من أجل الأمة.

بدأت الجماعات العلمانية في التجهيز لرفع دعاوى قضائية ضد قرار ترمب، باعتباره انتهاكا للتعديل الأول للدستور الذي يحظر سن أي تشريعات تبجل المؤسسة الدينية

وبعد هذا الأمر ببضعة أيام، أصدر ترمب قرارا بإنشاء "المكتب الديني" بالبيت الأبيض لمكافحة ما أسماه التحيز ضد المسيحيين في الحكومة الفيدرالية، ليكون تحت قيادة وزيرة العدل الجديدة بام بوندي، وذلك في محاولة على ما يبدو لتعزيز قاعدته بين المسيحيين الإنجيليين المحافظين. وقال في نص القرار إن مهمة هذا الفريق ستنصب على وقف كل أشكال التمييز ضد المسيحيين في الأجهزة الحكومية، بما فيها وزارة العدل، ومصلحة الضرائب، ومكتب التحقيقات الفيدرالي. 
وقال البيت الأبيض إن هذا الفريق سينظر في السياسات الخاصة بحماية المسيحيين في جميع المؤسسات الفيدرالية، وسيعد تقريرا سنويا عن ذلك. وفي المناسبة ذاتها التي أعلن فيها قراره، كشف ترمب أنه غيّر انتماءه المذهبي من الكنيسة الأسقفية إلى المسيحية اللاطائفية.    
وقد بدأت الجماعات العلمانية في التجهيز لرفع دعاوى قضائية ضد قرار ترمب، باعتباره انتهاكا للتعديل الأول للدستور الذي يحظر سن أي تشريعات تبجل المؤسسة الدينية. إلا أن بعض المحللين لا يتوقعون أن تنحاز المحكمة العليا التي يسودها المحافظون لرغبات المناوئين للقرار.   

أ ف ب
يتجه المتظاهرون إلى مبنى الكابيتول الأميركي حيث يحضر الناس التجمع السنوي لمسيرة من أجل الحياة في 24 يناير 2025 في واشنطن العاصمة

وجاء القرار بعد عدة أيام من العفو، الذي أصدره ترمب لصالح ما يقرب من 20 ناشطا مسيحيا، أدينوا خلال ولاية بايدن بمنع النساء من الوصول إلى عيادات الإجهاض. وأعرب نائب أنديانا المسلم أندريه كارسون عن أمله في أن يكفل قرار ترمب، الحماية لأتباع كل الديانات، وليس فقط المسيحية.  
وقد رفعت مجموعة من الجمعيات الحقوقية دعوى قضائية لدى محكمة فيدرالية في ميريلاند ضد ترمب، وعدد من وزرائه ورؤساء أجهزته، منهم وزراء العمل والتعليم المكلفين، من أجل الدفع بعدم دستورية قراراته الخاصة بإلغاء برامج ضمان التنوع والمساواة والدمج.
ومع التحديات التي تواجه الحزب الديمقراطي، الذي لا يزال يترنح من وقع الهزيمة التي مني بها في الانتخابات الأخيرة، وغيابه النسبي عن الساحة، التي ينفرد بها الجمهوريون حاليا، تقف الفئات المهمشة والأقليات العرقية دون دفاعات سياسية قوية. وفيما لم تستفق بعد الاتحادات العمالية، والناشطون الحقوقيون من وقع الصدمات المتتالية التي توجهها لهم الإدارة الجمهورية الجديدة، تقف أميركا على موعد مع الكثير من مشاهد الفوضى والارتباك، التي تهدد الكثير من القطاعات، وتذهل الرأي العام عن القضايا الرئيسة التي انتخب من أجلها ترمب، وعلى رأسها التضخم وارتفاع الأسعار ووضع نهاية للحروب.

font change