يختلف الأردنيون على كل شيء في العالم، لكنهم متفقون في حالة قريبة من الإجماع على شعور القلق، وهو الشعور الوطني القادر على تفعيل الوحدة بينهم حين يقلقهم كل ما حولهم.
هناك مفاصل محددة في تاريخ المنعطفات العاصفة التي شعر بها الأردنيون بالقلق "الجماعي" العام، لتراهم يتوحدون حول العرش والملك، مهما كانت اختلافاتهم وخلافاتهم.
آخر ما يمكن تذكره كان في عهد الملك الراحل حسين بن طلال، في عودتين عنوانهما واحد، والتباين في القلق بينهما مختلف. عام 1992 عاد الملك الراحل من رحلة علاجه الأولى بعد غياب طويل بسبب مرض السرطان، كان يقود الطائرة بنفسه ليهبط في المطار محاطا بسرب من سلاح الجو، وينزل في المطار متجها بموكب مفتوح إلى بيته عبر شوارع عمان التي اكتظت على طول الطريق الطويل. كان الأردنيون على قلق من مرض ملكهم، وكانت الخلافات قبل تعاظم القلق كبيرة وكثيرة بينهم أمام حرب خليج خسرها الحليف العراقي وحصار دولي اقتصادي على بلدهم، وحديث عن عملية سلام وشيكة ستحدث. كل هذا تلاشى في لحظة القلق تلك التي بددها شعور البهجة بعودة الملك من رحلة علاجه.
عام 1999، كذلك عاد الملك الراحل من رحلة علاجه الأخيرة متعبا وواهناً، وكانت ملامحه توحي بالرحيل. العودة هذه المرة كانت واضحة الملامح وحملت معها قلقا جماعيا للأردنيين الذين وحّدهم القلق من جديد مع موت الملك الراحل، لكن سرعان ما تبدد مع شعار رددوه باطمئنان على استقرار الدولة وتلخص في "مات الملك، عاش الملك".
الثلاثاء الماضي الحادي عشر من فبراير/شباط، كان يوما يحمل كل القلق الكافي لتوحيد الأردنيين من جديد.
الإرهاصات التي سبقت ذلك اليوم حملت معها كل ما يمكن تحشيده من أسباب القلق، منذ لحظة إعلان ترمب ترشيح نفسه حتى فوزه بالانتخابات ثم يوم تنصيبه، والقلق يتزايد من سياساته في الشرق الأوسط، وقد عاد بصفقته المرفوضة أردنيا وبالإجماع، وقد زاد عليها تعديلاته الجديدة والمدهشة والخارجة عن الدبلوماسية والمألوف بخصوص قطاع غزة وإشارات مماثلة لمصير الضفة الغربية، وهذه المرة بإسناد من إدارة بالغة التعقيد في تركيبها اليميني المتشدد والمتطرف.
بين إدارة ترمب الأولى والثانية جرى كثير من الماء سيولا في المنطقة التي تغيرت قواعد اللعبة فيها كثيرا، وإسرائيل فعليا وعلى الأرض منتصرة عسكريا وأمنيا بحكومة يمين متشددة تنادي بالأردن جغرافيا بديلة للفلسطينيين.
لم يوفر ترمب تصريحا إلا وقدمه عرضا تنمريا على المنطقة وبلدانها، وكان الحادي عشر من فبراير أول قمة بين رأس دولة عربية وساكن البيت الأبيض بنسخته المتجددة.
الأردنيون في حالة قلق شديد يوحّدهم هذه المرة بصمت بالغ، والأسئلة تجاوزت صالونات النخب السياسية إلى الشارع الذي يتساءل كيف سيقابل الملك عبدالله الثاني عواصف ترمب في البيت الأبيض؟ وماذا يحمل الملك الدبلوماسي بطبعه، في جعبته من أسلحة دفاعية يواجه بها كل ما هو غير متوقع من صانع الدهشة والاستعراض؟
الملك بملامح انزعاج واضحة على وجهه، وولي عهده إلى جانبه، والرئيس دونالد ترمب أمام المدفأة الشهيرة يمارس استعراضاته المسرحية ويتحدث بلغة غير دبلوماسية عن أفكاره حول ترحيل أهل غزة إلى الأردن ومصر
الثلاثاء، مع فارق التوقيت بين عمان وواشنطن، يتم الإعلان أن القمة بين الملك الأردني والرئيس الأميركي ستبدأ في السابعة والنصف مساءً بتوقيت عمان.
قبل أيام قليلة من سفره كان الملك قد التقى عددا من أعيانه، وأثناء اللقاء تلقى اتصالا من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ليعود بعد الاتصال مرتاحا ومبتسما مبشرا من التقاهم بأنه تلقى الدعم من الرياض في قمته القادمة، ويخبر الحاضرين بأن التنسيق مع مصر عالي المستوى ومتوافق حد التطابق في المواقف، ويستطرد بارتياح متحدثا عن زخم من الدعم الأوروبي حصل على بعض منه قبل فترة وجيزة في بروكسل، وزخم إضافي من الدعم السياسي من أكثر من دولة عربية وخليجية.
ظهيرة ذلك الثلاثاء القلق والمقلق، غادرت مكتبي في العاصمة الأردنية مبكرا وقمت بزيارة والدتي هربا من أجواء القلق. لأجد بيتها مشحونا بالقلق الذي باغتني بسؤالها لي: عرفت شيئا عن الملك وترمب؟ سؤال غير متوقع من والدتي المنشغلة بشؤون بيتها وصلواتها وتعبدها لا غير. لتبلغني بعدها بقليل أنها أفردت المساحة الطويلة من أدعيتها بعد صلاة فجر ذلك اليوم "لسيدنا". مساحة الأدعية والابتهالات اليومية تلك كانت مفرودة يوميا لنا نحن أولادها وأحفادها، لكن في ذلك اليوم كانت مثل كل الأردنيين بكل مستوياتهم واختلافاتهم العديدة جدا، قد ضبطت نبض القلب على توقيت واشنطن، حيث الملك الذي شعرت لحظتها أنه يحتاج كل ذلك فعلا.
عدت إلى مقر إقامتي وقد أصابتني عدوى القلق، أتلقى اتصالات من صحافيين وسياسيين نتبادل فيها القلق وما يرشح من معلومات قليلة في الساعات الأخيرة قبل القمة، نعلم وقتها أن لا مؤتمر صحافيا بعد القمة، وحسب ما علمنا أن ذلك تقرر بطلب أردني مسبق.
نتفاجأ مع توارد الصور والتقارير من المراسلين بمؤتمر صحافي موجز غير مرتب مسبقا ولا تم تنسيقه مع الأردن. الملك بملامح انزعاج واضحة على وجهه، وولي عهده إلى جانبه، والرئيس دونالد ترمب أمام المدفأة الشهيرة يمارس استعراضاته المسرحية ويتحدث بلغة غير دبلوماسية عن أفكاره حول ترحيل أهل غزة إلى الأردن ومصر، ويُسأل الملك مباشرة أمام الجميع عن رأيه في تخصيص أرض للفلسطينيين!
الملك، وبدبلوماسية عالية المستوى وإنغليزية مضبوطة على القواعد اللغوية، يجيب أن الأردن يستعد لاستقبال 2000 طفل مصاب بالسرطان من غزة، ويصرح بأن مصلحة الأردن هي الأولى لديه، ويتحدث بتحفظ لكن بلا التباسات عن رد عربي سياسي يتم الإعداد له، وخطة مصرية بخصوص غزة!
القلق لا يزال موجودا، وهو حاضر في الأردن منذ كانت الدولة، لكن منسوبه المرتفع الذي يتحول إلى شعور عام قد انخفض كثيرا مع عودة الملك، وبيان الحقائق التي أنصفته وموقفه
تبث وكالة أنباء عالمية وتحت ضغط السرعة وبتعثر في الاحترافية المطلوبة جدا في هذا التوقيت تصريحات للملك مترجمة عن نطقه الإنغليزي فتحرف معناها إلى عكسه، ويظهر الملك في الترجمة المضللة والمزورة أنه موافق على التهجير والترحيل للفلسطينيين. وتلتقط محطة عربية "دون أي تدقيق أو احتراف" تلك الترجمة المضللة وتبثها على منصاتها لتنتشر تصريحات الملك وينهال سيل التعليقات العربية على عالم التواصل الاجتماعي.
في الأردن، صمت مطبق... قلق جماعي تحول إلى صمت جماعي غير قابل لتصديق ما يتم تداوله.
بعد ساعتين، يصدر الملك تغريداته عبر منصة "إكس"، ليبدد ضباب التشويش "الممنهج" الذي انتشر. ويصرح بموقفه المعلن.
الصحافة الأميركية كلها في اليوم التالي نشرت "قمة المواجهة" بين الملك وترمب، وأكدت رفض الملك القاطع والحاسم للعرض الترمبي.
القلق الذي وحد الأردنيين، حملهم يوم الخميس الماطر والبارد ليستقبلوا ملكهم من باب المطار إلى بيته في العاصمة، كان الملك الذي رأيناه أمام مدفأة البيت الأبيض بملامح منزعجة من حرج الاستعراض الترمبي والمواجهة الثقيلة "وقليل من ألم في الظهر بسبب انزلاق غضروفي موجع" يبدو من خلف نافذة سيارته التي يقودها ولي العهد مبتسما يلوح للأردنيين بفرح واطمئنان.
القلق لا يزال موجودا، وهو حاضر في الأردن منذ كانت الدولة، لكن منسوبه المرتفع الذي يتحول إلى شعور عام قد انخفض كثيرا مع عودة الملك، وبيان الحقائق التي أنصفته وموقفه.
التشويش مستمر وسيستمر، والقصة لم تنته بعد، لكن ما حمله الملك في البيت الأبيض وأخرجه من جعبته كان سياسيا بامتياز، وقد أعاد ضبط السياسة لتكون كما هي دوما فن العمل في حدود الممكن.