رحلة "الطنطور" من أميرات القرن الثامن عشر إلى مسارح القرن العشرين

أعاد روميو لحود إحياءه وتجدّد حضوره في حفل ملكة جمال الكون

Joe Challita
Joe Challita
ندى كوسى بالطنطور

رحلة "الطنطور" من أميرات القرن الثامن عشر إلى مسارح القرن العشرين

شكلت إطلالة ملكة جمال لبنان ندى كوسا في مسابقة ملكة جمال الكون 2024 في زي تقليدي من تصميم جو شليطا تكامل مع الطنطور على رأسها، فرصة لإستعادة دور غطاء الرأس في حياة النساء النبيلات في أواخر القرن الثامن عشر، وصولا إلى إبرازه في أعمال مسرحية من بطولة كل من الشحرورة صباح والفنانة القديرة سلوى القطريب، وكانت من توقيع رائد من رواد المسرح الغنائي الاستعراضي اللبناني المخضرم روميو لحود.

ذكر الديبلوماسي والرحالة الأسكتلندي ديفيد أوركهارت David Urquhart في كتابه "لبنان (جبل سوريا) تاريخ ومذكّرة" الصادر في 1860 عن الطنطور: "عندما انعطفت إلى زاوية أحد المنازل، رأيت ست فتيات ونساء، ينتفضن على الصخور، شامخات بطنطورهن، الذي يدل ارتفاعه أنهنّ من طبقة عالية. لامست الزخارف الثقيلة الأرض محدثة صوت خشخشة؛، يتطاير حجابهن الأبيض مثل الأعلام، كاشفا عن وجوه متفتحة وضاحكة، ورؤوسهن كأنها عبارة عن وفرة من الجواهر والزهور، أعناقهن مثل أصنام المعابد الهندية، صفراء مع ذهب متلألئ، وأثواب ذات لون بني محمر، متلألئة من كل مكان بالنجوم، ومهدبة بدانتيل من المعدن نفسه".

غطاء رأس الأميرات

في تعريفه لـلطنطور، يستند الباحث ناصر مخول في حديثه الى "المجلة" إلى دراسته عن الطنطور نفسه مشيرا إلى أنه "غطاء لرأس السيدات يوضع على الرأس بصورة عمودية، له في الطرف الأعلى منديل محوك على نصف دائرة فقط، ينسدل من وراء الظهر الى مسافة يصل طرف المنديل بها إلى مستوى الأرض".

"غطاء الرأس"، وفقا لمخول، "كانت تتألق فيه الأميرات للتمايز من خلاله عن بقية عامة الشعب".

النساء لا يتخلين عن الطنطور مطلقا، لا في الصحة ولا في المرض، ولا حتى وهنّ على فراش الموت، إذ كن يلفظن أنفاسهن الأخيرة والطنطور رفيقهن الوحيد

تتعين مراتب الطنطور وأشكاله في كتب بحثية عدة في قسم الأرشيف والمجموعات الخاصة في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، ولا سيما في مؤلف ماجد بو طنوس عن "تاريخ الأزياء اللبنانية"، حيث يعرف الطنطور أنه "عبارة عن قلنسوة طويلة أسطوانية الشكل، مخروطية تنتهي في أعلاها بما يشبه قرن الوعل وهو في الغالب من فضة أو نحاس بطول أربعين سنتيمترا أو أكثر وعليه نقوش وآيات مقدسة... مع تمايز طنطور الأميرات بأنه كان مصنوعا من الذهب مزدانا بالجواهر والنقوش".

يوضح أن "الطنطور لم يعرف انتشاره الكبير إلا مع  قيام الإمارة المعنية" معتبرا أن  "للأميرة خاصكية، زوجة الأمير فخر الدين الثاني، التي رافقته في سفره إلى توسكانا، صورة وضعت لها هنا وهناك والطنطور على رأسها".

يشدد على أن "الأميرة خاصكية تشكل نموذجا لـمعتمرات الطرطور، اللواتي كن لا يخلعنه عن رؤوسهن لا ليلا ولا نهارا، لذلك كن يبعدن فراشهن عن الحائط ليستطعن النوم والطنطور على رؤوسهن".

أناقة المرأة وفراش الموت

يرتبط الطنطور بأناقة المرأة، وبقاؤه على رأسها ليل نهار هو مظهر من مظاهر الحشمة. يذكر الأديب لحد خاطر في كتابه "العادات والتقاليد اللبنانية" في جزئه الثاني، أن أحد  المستشرقين وهو الأب دو جيران ذكر أن "النساء لا يتخلين عن الطنطور مطلقا، لا في الصحة ولا في المرض، ولا حتى وهنّ على فراش الموت، إذ كن يلفظن أنفاسهن الأخيرة والطنطور رفيقهن الوحيد"، مشددا على أن "القرن كان يباع بعد الموت ويعود ريعه لإقامة الصلوات عن راحة نفس الفقيدة".

Bettmann / Contributor
مسابقة جمال عالمية: عرض لعدد من المتسابقات في مسابقة ملكة جمال الكون في لونغ بيتش، كاليفورنيا

غير أن الطنطور لم يكن حكرا على الطبقة النبيلة وفقا لما نقل الدكتور عبد العزيز حميد صالح في القسم السابع من مؤلفه عن "الأزياء عند العرب عبر العصور المتعاقبة" المتوفر في القسم نفسه في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، مستندا الى أن بعض الرحالة، الذين قدموا الى لبنان في القرون الثلاثة الأخيرة، نقلوا في كتبهم أن الطرطور "كانت تستعين بلبسه النساء المارونيات والدرزيات ولا سيما في جبل لبنان وأيضا في القسم الغربي من سوريا".

ينقل الدكتور صالح في مؤلفه أن واحدا من الرحالة "كتب أن النساء المارونيات والدرزيات يضعن على رؤوسهن أنبوبة من القصدير أو الفضة على هيئة مخروط له من الطول ما مقداره اثنتا عشرة عقدة"، مضيفا أن آخر كتب "أنه كان غالبا ما يصنع من البرونز أو القصدير وأن نساء الطبقة الوسطى كن يستعن بلباسهن بطراطير من الفضة، في حين أن بعض نساء الطبقة العليا كانت الطراطير تصاغ لهن من الذهب".

أعاد روميو لحود الطنطور من خلال ارتداء صباح له في مسرحية "الشلال"، التي عرضت في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1963

يتوقف عند شهادات حية في كتابات أفادت أن "بعض هؤلاء الرحالة شاهدوا بعض نساء مارونيات خرجن من كنيسة في بيروت، وكن يلفتن النظر بقرن ضيق يعلو رؤوسهن ويبلغ طوله نحو ثماني عشرة عقدة، وهو مغطى بخمار دقيق".   

يكشف الديبلوماسي الفرنسي هنري غيز في كتابه "بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن" أن "الطنطور بقي لباس المسيحيات والدرزيات حتى أواسط أربعينات القرن الماضي (التاسع عشر)، وبدأ يضمحل لباسه بعد حوادث عام 1845 لأسباب عدة منها أن تكلفته الباهظة شكلت عائقا اساسيا للزواج، مما دفع قادة الرأي الى المطالبة بالتخلي عنه".

روميو لحود وأناقة التراث

استعاد الفنان اللبناني الراحل روميو لحود من خلال تعاونه وشقيقته مصممة الأزياء بابو لحود، أناقة التراث اللبناني من خلال عودة الطنطور- وللمرة الأولى- إلى المسرح الغنائي المسرحي من خلال إطلالة الشحرورة صباح متوجة بطنطور وهي تؤدي دورها في مسرحية "الشلال"، التي عرضت في مهرجانات بعلبك الدولية في العام 1963.

ANWAR AMRO / AFP
ندى كوسا بعد فوزها بلقب ملكة جمال لبنان 2024 في بيروت

هكذا تثني لحود عبر "المجلة" على الدور الريادي لروميو لحود وحرصه على  إحياء الفولكلور اللبناني ومنه الطنطور في عروض مسرحية غنائية عدة، "في حين أنه لم يتصدر أولويات الرحابنة في أعمالهم، التي كانت تعتمد أغطية رأس تقليدية شائعة، عند العامة، ومنها اللبادة التراثية للرجال مثلا".

تضيف: "عندما طلب مني الأستاذ منصور الرحباني تصميم أزياء مسرحية 'صيف 840'، اعتذر عن عدم قبول اقتراحي إدخال الطنطور في بعض الأزياء التراثية مبديا رغبته في التركيز على اللباس التقليدي العام".

تسرد بإسهاب تجربة روميو لحود مع الطنطور، ومنها في العروض المسرحية، "موال" و"عتابا" و"ميجانا"، التي انطلقت في ستينات القرن الماضي في ما عرف آنذاك بالمسرح الفولكلوري الدائم على "مسرح فينيسيا"، مشيرة الى أن الشحرورة صباح حققت نجاحا لافتا في دورها في مسرحية "ميجانا" (1965) وهي "متوجة" بالطنطور، مع  تألق فتيات أيضا في الفرقة الراقصة في العرض نفسه بالطنطور.

الأهم، وفقا لها، "أن روميو لحود حرص على تعريف العالم الغربي على الفولكلور اللبناني من خلال تقديم لوحات من هذه العروض الثلاثة على مسرح الأولمبياد في باريس، إضافة الى جولة في بلجيكا وضواحي فرنسا وصولا الى منطقة الألزاس واللورين".

صناعة الطنطور عمل مضن وصعب يترافق مع اختيار الأحجار الكريمة المناسبة له كاللؤلؤ، وضرورة ألا يعوق تحرك الممثلة أو الراقصة على المسرح

بابو لحود

تلفت أيضا إلى أن الفنانة القديرة سلوى القطريب، تألقت بدور الأميرة، معتمرةً الطنطور في مسرحية "الأميرة زمرد" في 1978، وقد شاركها معها في هذا العمل المسرحي كل من ملحم بركات وعبدو ياغي ومنير غاوي وماري مراد وغيرهم، إضافة إلى اعتماد تاج الرأس لسلوى القطريب في مسرحية "ليالي لبنانية" ضمن فعاليات "مهرجانات بيبلوس الدولية" في 1987.

 تتوقف لحود عند تفاصيل تنفيذ تصميم الطنطور، "وهو عمل مضن وصعب يترافق مع اختيار الأحجار الكريمة المناسبة له كاللؤلؤ، وهو ما التزمته دار شانتال أو محترف مدام صالحة المولج خلال تنفيذ تصاميمي للعروض المسرحية"، مشيرة إلى أن "متابعة مراحل صناعة الطنطور ليست بالأمر السهل، ولا سيما بضرورة ألا يعوق تحرك الممثلة أو الراقصة على المسرح، مما فرض علينا اعتماد مادة الكرتون لصناعة الطنطور لتتمكن الفتيات من تقديم لوحات فولكلورية راقصة خلال عرض 'الليالي اللبنانية' في "مهرجانات جرش" في الأردن عام 1987".

Alamy Stock Photo
الطنطور التقليدي

الطنطور "افتراضيا"

في العالم الافتراضي، يرى مصمم الأزياء جو شليطا- وهو مؤسس المنصة الرقمية Lebanese Fashion History (تاريخ الموضة في لبنان)- في حديث الى "المجلة" أن "المنصة ذاتها تحتفي بالعراقة اللبنانية في مجال الموضة وتسعى إلى الحفاظ عليها وتوثيق جوانبها الملموسة وغير الملموسة وأرشفة تاريخها الغني، فالهدف من المنصة هو الحفاظ على هويتنا الثقافية وعلى التراث اللبناني من أجل أجيال الغد".

الزي الوطني الذي ارتدته ملكة جمال لبنان ندى كوسا، أثار موجهة اهتمام واسعة في وسائل الإعلام اللبنانية، فحظي بأكبر قدر من النقاش والتغطية الإعلامية

جو شليطا

لا يتطلع شليطا إلى الوصول إلى المجتمع المحلي أو منطقة المتوسط فحسب، بل "نريد أيضا أن نُظهر للمجتمع الدولي تأثير لبنان على الساحة العالمية، مع تسليط الضوء على هذه الروابط الدولية"، موضحا أنه "يسعى من خلال الأرشفة والتوثيق، إلى الحفاظ على استمرارية التقاليد اللبنانية وأصالتها".

أما في ما خص الطنطور وإحيائه في حفل مشاركة ملكة جمال لبنان ندى كوسا، فيعتبر شليطا أن "التصميم الذي جسّد الطنطور الحقيقي، شكّل مفاجأة لكثيرين، لأنه يختلف كثيرا عن تصاميم الطنطور التجارية التي اعتادوا رؤيتها، مما أدى إلى تجدد الاهتمام والوعي بالتراث الغني الذي يتمتع به لبنان"، مشددا على أن "الزي الوطني الذي ارتدته ملكة جمال لبنان ندى كوسا، أثار موجهة اهتمام واسعة في وسائل الإعلام اللبنانية، فحظي بأكبر قدر من النقاش والتغطية الإعلامية في تاريخ مشاركات ملكات جمال لبنان في المسابقات العالمية".

font change