ليلة سامية حلبي في "تيت مودرن": أداء تجريدي

حفرت مكانتها الفنية في الغرب وظلت فلسطين هاجسها الأول

HECTOR RETAMAL / AFP
HECTOR RETAMAL / AFP
الفنانة الفلسطينية سامية حلبي تتحدث خلال افتتاح المتحف الفلسطيني في وودبريدج، كونيتيكت

ليلة سامية حلبي في "تيت مودرن": أداء تجريدي

بسبب حرب غزة ألغت جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأميركية معرضا استعاديا للفنانة الفلسطينية سامية حلبي. "أكتب إليك لأبلغك رسميا أن متحف إسكنازي للفنون لن يستضيف المعرض المقرر لأعمالك". كان ذلك هو نص الرسالة المقتضبة التي تلقتها حلبي من ديفيد برينمان مدير المتحف ونشرتها في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023 صحيفة "نيويورك تايمز" التي أكدت أن برينمان أبلغ حلبي بأن موظفيه قلقون من دعمها للقضية الفلسطينية وغضبها من العنف في الشرق الأوسط. قبل ذلك بشهر تلقت الجامعة رسالة من النائب جيم بانكس من ولاية إنديانا يقول فيها إنها قد تخسر الدعم الفيديرالي إذا تغاضى المسؤولون فيها عن أعمال "معادية للسامية" في الحرم الجامعي، في إشارة إلى عشرات اللوحات للفنانة حلبي كانت معروضة بالفعل في الجامعة.

لم تكن الفنانة غريبة عن المشهد الفني الأميركي. ما انتهت إليه من نتائج جمالية باهرة على المستويين الفكري والجمالي، ما هو إلا نتيجة انغماسها في فهم التحولات التي شهدها الفن بتأثير فكر ما بعد الحداثة الذي تبنته الفنون المعاصرة في تأثيث طريقة تعاملها مع الواقعين الاجتماعي والسياسي. أثبتت حلبي أنها استثناء بالنسبة إلى فناني الشتات العربي. ذلك لأنها أولا عاشت عصرها وانفتحت على تحولاته بكل صدماتها، وثانيا لأنها لم تلتفت إلى الوراء وتتمنى عرض أعمالها في بلاد غادرتها كما فعل الكثير من الفنانين العرب المهاجرين. كانت سامية حلبي ابنة التجريدية التعبيرية بنسختها الأميركية في ستينات القرن العشرين.

بين الرسم والموسيقى

يمكن قياس أهمية فن سامية حلبي من خلال العودة إلى تاريخ الحركات الفنية في نيويويرك. وإذا كانت الفنانة انتقلت من الرسم التجريدي إلى الرسم الرقمي، "ديجيتال"، فإن ذلك يكسبها نضارة الانتماء إلى عصر دشنه الفرنسي مارسيل دوشان بتجارب الفنون المجاورة للفنون التقليدية.

ما تبذله سامية حلبي من جهد تخيلي أثناء عروضها الارتجالية، يكشف عن عمق وكثافة وسعة معرفتها بالفن التجريدي وفي الأخص الجانب الهندسي منه

الفنانة التي استقبلها "تيت مودرن" بلندن يوم السابع من فبراير/ شباط في أمسية غصت بالحضور الشاب، كانت نموذجية في تمثلها المتمرد على قواعد الفن التقليدي. فعرضت عددا من أعمالها الإيقاعية على الشاشة برفقة عزف على أدوات بدائية، وبدا العرض مرتجلا، ليعيدنا إلى أصل الصورة وهو الإيقاع. "أداء تجريدي" هو عنوان الفعالية التي امتزج فيها الرسم الحركي بالارتجال الموسيقي، بمشاركة الموسيقيين كيفن ناثانيال هيلتون وحسن بكر اللذين سعيا إلى استلهام نوع من الموسيقى، لين في فطريته وبكر في بداهته تبعا للأدوات المستعملة، وهي أدوات تتصل بالإيقاعات التي تتمثل حركة الجسد البشري وانفعالاته.

وكانت حلبي قدمت في أوقات سابقة فعاليات مشابهة مع موسيقيين آخرين بعدما شغفت بالفن الرقمي (ديجيتال) الذي هو أساس البرمجة التي تنتج اللوحات التجريدية الحركية. تسللت تلك اللوحات إلى معارضها فكانت في كل واحد من تلك المعارض تقدم واحدة أو أكثر من اللوحات التي تنتمي إلى الفن الرقمي. غير أن الحفلات التي تقيمها بين حين وآخر في مناطق مختلفة من العالم، تعتمد أساسا على الارتجال، رسما وموسيقى، من خلال تقنية عملت حلبي على تطويرها منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي.

Outernet and Tate Present Samia Halaby for Electric Dreams
مشهد لعمل سامية حلبي، Tottenham Court Road 2024 في Outernet London

كل ذلك الهذيان البصري

ما تبذله سامية حلبي (1936) من جهد تخيلي أثناء عروضها الارتجالية، يكشف عن عمق وكثافة وسعة معرفتها بالفن التجريدي وفي الأخص الجانب الهندسي منه الذي ينسجم مع قدرة حاسوبها على الإنجاز اللحظوي. هناك سباق بين أصابعها التي تلعب على المفاتيح والإيقاعات الموسيقية التي تستدرجها إلى مناطق لم تكن تتوقعها أو تتبعها وهي تؤسس لأشكال هندسية هي عبارة عن خطوط ومربعات ودوائر لا يتيح لها الزمن فرصة الاكتمال.

هو سباق لاهث، ولا يملك المتلقي سوى أن يعيش حالة من الذهول البصري والسمعي في مواجهة ذلك الهذيان الممتع الذي يمرر الكثير من الحقائق التي ترتبط بعناوين المقاطع المرئية على الشاشة والمسموعة. يشعر المرء أن هناك دهشة متبادلة بين الرسامة والموسيقيين، هي أصل ذلك الخيال المشترك. وبسبب شدة الإتقان ورهافة التنفيذ يشعر المرء أن الفنانة تعرض أفلاما هيأتها سلفا بتقنية الفيديو، ولكن الأمر ليس كذلك.

Outernet and Tate Present Samia Halaby for Electric Dreams
مشهد لعمل سامية حلبي، Tottenham Court Road 2024 في Outernet London

ما فعلته حلبي أنها كانت ترسم على الشاشة الكبيرة وهي تنصت إلى جنون الموسيقى التي تهب مستمعيها طاقة مضافة للتعامل مع قوة الإيحاء البصري للأشكال التي تتداخل وتتقاطع وتتنافر ويدفع بعضها البعض الآخر على الشاشة. كان كل شي خلاسيا. التجريد الصافي كما انتهى إليه رسامو التجريد البارد، ووقع الطبول الأفريقية التي انتقلت بالجمهور إلى حقول وصحارى أفريقيا. ولكن فلسطين كانت حاضرة بقوة. فلسطين التي غادرتها الرسامة في عام 1948 كانت تتدفق، وهي المكان الذي يجذب بعاطفته كل الأشكال التي توظف عنفها من أجل أن تقول كلمة صادمة.

مقاومة العنصرية

"يافا" هو عنوان أحد مقاطع الأداء المرتجل الذي قدمته إبنة القدس. تبدو مفردات ذلك المقطع مختلفة عن مفردات المقاطع الأخرى من خلال تمحورها على الدائرة وأجزائها. كأن الفنانة تنظر من داخل كون تتداخل فيه أكوان مختلفة، تتقارب وتتباعد في إطار حركة زمنية تحكمت الفنانة من خلالها بعلاقة الليل والنهار في صيغ جمالية مبهرة.

ظلت النظرة العنصرية تشكك بقيمة فنها الذي تفوقت من خلاله على الكثير من فناني مرحلتها، كما أن تلك النظرة ظلت تطاردها بالشك بسبب التزامها قضية شعبها

كافحت حلبي عبر سني حياتها الطويلة التي قضتها في الولايات المتحدة وأوصلتها إلى مراتب عليا في تدريس الفن أكاديميا في اتجاهين لم تفصل بينهما. الاتجاه الأول يكمن في سعيها إلى أن تستوعب جيدا قواعد تقنيات الفنون المعاصرة وشروطها، مما يساعدها في الوقوف بفنها الطليعي في مقدمة مشهد الفن التجريدي العالمي وهو المسعى الذي نجحت فيه. أما الاتجاه الثاني فإنه يكمن في التزامها قضية شعبها ودفاعها المستمر عن حق عودته إلى أرضه. 

Outernet and Tate Present Samia Halaby for Electric Dreams
سامية حلبي، Fold 2، 1988

في الاتجاهين، واجهت الفنانة صعوبات كثيرة. فعلى الرغم من أنها استقرت مع عائلتها في الولايات المتحدة في وقت مبكر من حياتها (عام 1951)، عاشت ودرست وتدربت ومن ثم عملت هناك وانتمت إلى الجماعات الفنية الطليعية، غير أن النظرة العنصرية ظلت تشكك بقيمة فنها الذي تفوقت من خلاله على الكثير من فناني مرحلتها، كما أن تلك النظرة ظلت تطاردها بالشك بسبب التزامها قضية شعبها كونها جزءا من الحمولة الإنسانية للفن. كانت فلسطين حاضرة بقوة وبلغة رفيعة المستوى في الحديث الذي أجرته حلبي مع الجمهور بعد عرضها المثير والممتع.

font change

مقالات ذات صلة