من "الحرب التجارية" إلى "ديبسيك": كيف تقود الصين اللعبة مع ترمب؟

بكين تعتبر الخسائر المتوقعة من الإدارة الأميركية آثارا جانبية لأرباح استراتيجية بالنقاط

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يصافح الرئيس الصيني شي جين بينغ قبل بدء اجتماعهما الثنائي خلال قمة زعماء مجموعة العشرين في أوساكا باليابان في 29 يونيو 2019

من "الحرب التجارية" إلى "ديبسيك": كيف تقود الصين اللعبة مع ترمب؟

خلال ولاية دونالد ترمب الرئاسية الأولى، وفي أوج الحرب التجارية مع الصين، أطلق بعض الصينيين، لقب "تشوان جيانغوا" أي "باني الأمة" على الرئيس الأميركي، في محاولة ساخرة، لتصوير أن سياساته، التي كان العالم لا يزال يتعرف بتعجب عليها، تقوض ريادة الولايات المتحدة، وتصب في نهاية المطاف لمصلحة الصين في الصراع على الهيمنة العالمية وتشكيل النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين.

وفيما جادل بعض المحللين الغربين بأن هذا اللقب وما أحيط به من سجالات على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية مثل "ويبو" و"دويين"، إنما يعكس نزعة إعجاب، خصوصا لدى بعض القوميين الصينيين، بعناوين على أجندة ترمب، عاد لقب "باني الأمة" إلى التداول مع ترشح ترمب لولاية ثانية، لكن هذه المرة، لم يعد مقتصرا على وسائل التواصل، بل انتقل إلى مراكز الأبحاث الصينية ومداولات تيار لا بأس به من السياسيين والدبلوماسيين والمخططين الاستراتيجيين الصينيين، الذين يرون فعلا، بعد كل ما جرى في ولايته الأولى، أن ترمب قد يكون خيارا أفضل للصين من أي رئيس ديمقراطي أو حتى جمهوري آخر، وأن "الآثار الجانبية" المصاحبة لعودته إلى البيت الأبيض، مهما كانت مؤلمة، ثمن على بكين دفعه مع التطلع إلى عوائد مقبولة.

رغم ذلك، بقي هناك تيار وازن بين صناع السياسات والمحللين الصينيين، يتحدث بقلق عن مخاطر عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترمب، واحتمال أن يشن حربا اقتصادية أكثر عدوانية بسقوف تفاوضية عالية ومطالب مكلفة أو أن يعود إلى أجندة فك الارتباط الاقتصادي، وربما أن يقوده شعار استعادة عظمة أميركا بشكل أو بآخر إلى مواجهة حول تايوان.

وبحلول شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، كان الشعور العام في بكين تجاه احتمال فوز ترمب، بما في ذلك لدى الحكومة الصينية، مزيجا من التفاؤل الحذر والقلق الاستراتيجي.

من يشكل النظام العالمي الجديد؟

ويرى ين كي، مدير وكالة أنباء "شينخوا" الصينية الحكومة في الكويت، في حديث مع "المجلة"، أن سياسات ترمب الانعزالية والأحادية والمعادية للنظام الدولي ومؤسساته، والتي يبدو أنها أكثر تركيزا في الولاية الثانية، تضر بصورة واشنطن الدولية وعلاقتها مع حلفائها، وهذا يصب في مصلحة الصين التي تخوض صراعا متعدد الأبعاد مع الولايات المتحدة يشمل النفوذ الاستراتيجي، والتنافس بين نظامي حكم، والاقتصاد، والسباق التكنولوجي، والتعزيزات العسكرية، إضافة إلى التنافس في القوة الناعمة عبر التأثير الثقافي والسرديات الإعلامية والمبادرات التنموية المتنافسة.

على المستوى الجيوسياسي، اهتمت بكين بمعرفة حدود وأهداف تحركات ترمب في النصف الغربي من الكرة الأرضية

ومنذ توليه الحكم الشهر الماضي، أعلن ترمب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، كما أعلن وزير خارجيته ماركو روبيو مقاطعة اجتماعات مجموعة العشرين وهذه اللائحة مرشحة لأن تطول.
 ويقول تشاو تشي جيون، الكاتب والباحث الصيني في الشؤون الدولية، لـ"المجلة" إن توجه الولايات المتحدة نحو الأحادية يتيح للصين مساحة دبلوماسية أوسع في الساحات متعددة الأطراف. 
ويشير البروفيسور ديغانغ سون، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط، بجامعة فودان، في شنغهاي، إلى أن سياسة "أميركا أولا" تخلق فتورا بين واشنطن وحلفائها وهو ما يشكل فرصة للصين لتحسين علاقاتها مع هذه الدول. ويقول ديغانغ لـ"المجلة" إن بعض التحالفات التي نسجتها الولايات المتحدة ضد الصين بدأت بالفعل في التفكك، في مقابل، سعي الصين لاستغلال حالة القلق العالمي من نهج ترمب، لبناء جبهة موحدة ضد الأحادية الأميركية. ويجادل معلقون أميركيون وغربيون بأن سلوك ترمب ضد النظام الدولي القائم، الذي قادته الولايات المتحدة منفردة إلى حد بعيد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي، يعزز دور الصين في إيجاد نظام دولي جديد متعدد الأقطاب يكون فيه دور أقل لواشنطن ولا يعطي الكثير من الأهمية لمنظومة القيم الغربية ويقوم على توزيع أوسع للسلطة. ويقر هؤلاء بأن النظام الدولي القائم بعد الحرب العالمية الثانية يحتاج إلى إعادة تشكيل، لكن الطعن فيه بالطريقة التي يقوم بها ترمب، لا يعزز فقط رؤية الصين للنظام المقبل، لكنه يجعل أيضا من بكين في موقع القيّم على النظام الحالي عبر تصوير نفسها بأنها حريصة على احترامه فيما تقوم الولايات المتحدة بانتهاكه بشكل يومي.

وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو يلوح بيده قبل مغادرته مطار لاس أميريكاس الدولي في سانتو دومينغو، جمهورية الدومينيكان، 6 فبراير 2025

"النصف الغربي" وقواعد الحرب الباردة

على المستوى الجيوسياسي، اهتمت بكين بمعرفة حدود وأهداف تحركات ترمب في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وإذا كانت مجرد نزعة توسعية أو تفكير استعماري جديد، أم استحضار لبعض التأويلات الحديثة لـ"عقيدة مونرو"، التي تفترض أن على الولايات المتحدة تركيز هيمنتها في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وأن تتخفف من الارتباطات المكلفة حول العالم وهو ما يتماشى مع الرؤية الانعزالية لشعار "أميركا أولا". 
والسؤال الأساسي هو إذا كانت واشنطن قد بدأت استراتيجية جديدة لترسيم حدود جيوسياسية مع بكين، مع استعادة لقواعد الحرب الباردة، عندما كانت محاولات بناء نفوذ في مناطق قريبة من حدود الخصم، تعد زعزعة لميزان القوى، وتقويضا للنفوذ الجيوسياسي تستدعي ردودا دبلوماسية أو عسكرية فورية.  
وكان ترمب قد أعرب عن عزمه شراء جزيرة غرينلاند التي تخضع لسيادة الدنمارك، واستعادة قناة بنما التي بنتها بلاده من حكومة بنما، واقترح ضم كندا، وغيّر اسم خليج المكسيك إلى خليج أميركا، وعين ماركو روبيو المتحدر من كوبا وزيرا للخارجية.   
وفيما كانت الصين لا تزال تحلل خلفيات اهتمام ترمب بالمحيط القريب للولايات المتحدة، جاءتها الضربة سريعا في بنما، حيث أثمرت تهديدات الرئيس الأميركي باستعادة القناة حتى ولو بالقوة العسكرية، بإعلان بنما خروجها من مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.
وكانت بنما أول دولة لاتينية تنضم إلى المبادرة الصينية الطموحة في عام 2017 ويأتي تخليها عنها في حين تواجه المبادرة جمودا وخفوتا، في ضوء التحديات التي يعاني منها الاقتصاد الصيني. وقبل ذلك نجحت مساعي واشنطن في 2023 بإخراج إيطاليا منها، لتفقد الخطة الصينية عقدتين بحريتين مهمتين على الضفة الأوروبية للمتوسط وعلى بوابة أميركا الجنوبية التي تعد سوقا مهمة وشريكا أساسيا للصين.

تعتقد الصين أن هدف واشنطن من الحرب التجارية هو تقييد نموها والإضرار بقدرتها على المنافسة التجارية

في الوقت نفسه، لا يستبعد خبراء أن يؤثر اهتمام ترمب بالنصف الغربي من الكرة الأرضية في حال استمر بالزخم نفسه على الوجود الأميركي في مناطق أخرى. وسيكون أي انتقال للاهتمام الأميركي من آسيا وتحديدا من منطقة المحيطين الهندي والهادئ باتجاه النصف الغربي من الأرض خبرا سارا للصين، بالنظر إلى أن ترمب هو الذي أعاد في ولايته الأولى تفعيل تحالف "كواد" الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان، لتقوم بعد ذلك إدارة جو بايدن بزيادة منسوب التعاون العسكري في إطاره، وتبذل جهودا حثيثة لتعزيز الترابط بين القوى الإقليمية التي تستطيع التصدي لتمدد نفوذ الصين.     
على صعيد آخر، فإن انخراط ترمب المباشر في التوصل إلى حل لحرب أوكرانيا وحرب غزة، يعني عمليا انحسار الضغوط التي كان يفرضها الديمقراطيون على بكين للعب دور في كبح "شريكها بلا حدود" فلاديمير بوتين في موسكو ويعطي مرونة أكبر لبكين في إدارة علاقتها المعقدة تاريخيا مع موسكو. والأهم من كل ذلك، فإن ترمب الذي يخطط لضم كندا وغرينلاند وقناة بنما ووصل به الأمر إلى اقتراح الاستيلاء على غزة عبر تهجير سكانها، لن يكون الشخص المناسب لتوجيه اللوم إلى بكين في حال قررت تجاوز الخط الأحمر في تايوان.

نمر حقيقي أم ورقي؟ 

فقدان الولايات المتحدة مصداقيتها لا يقتصر على الدبلوماسية، فسياسات ترمب الاقتصادية خصوصا الحرب التجارية أعادت تشكيل الديناميكيات العالمية. وقبل مرور شهر على رئاسته كان ترمب قد استخدم عضلاته الجمركية لإجبار كولومبيا على التخلي عن رفضها استقبال الطائرات الحربية الأميركية التي ترحل مئات المهاجرين غير الشرعيين مطالبة بمعاملتهم بكرامة. وفرض رسوما جمركية باهظة (25 في المئة) على كندا والمكسيك، ثم وافق على تأجيل سريانها مقابل 10 آلاف عنصر من الشرطة أرسلتهم مكسيكو سيتي إلى الحدود لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وهي القضية التي يضعها ترمب على رأس أولوياته.    
كما فرض ترمب رسوما جمركية بنسبة 10 في المئة على الصين، بذريعة تصديرها مواد تدخل في صناعة مخدر الفانتنيل إلى المكسيك، حيث تستغلها كارتيلات المخدرات المكسيكية لتصنيع المخدر وتهريبه إلى داخل الولايات المتحدة. 
وهو ما ردت عليه الصين بحظر تصدير بعض معادن نادرة حيوية إلى الولايات المتحدة، ورفع شكوى ضدها في منظمة التجارة العالمية. إلا أن الموجة الثانية من الرسوم جاءت أكثر قوة، حيث فرض ترمب رسوما بنسبة 25 في المئة على جميع واردات الفولاذ والصلب والألومنيوم إلى الولايات المتحدة، وتعد هذه الرسوم الأولى التي تشمل أوروبا، كما أنها تضر بكندا والمكسيك وبشكل غير مباشر بالصين. 
ويلفت البروفيسور ديغانغ إلى أن الخطر الفعلي الذي واجهته الصين في الرد على رسوم ترمب، يتمثل في تحديد حجم رد الفعل، موضحا أنه إذا لم تتمكن الصين من فرض عقوبات على الولايات المتحدة بالمثل، فقد يعتقد الرأي العام الصيني أن الحكومة الصينية متساهلة للغاية. أما إذا جاء رد الفعل الصيني قويا للغاية، فقد يؤدي إلى سلسلة من التداعيات، يمكن أن تسعر الحرب التجارية وتتسبب في خسائر جسيمة للمصالح التجارية الصينية.
وتعتقد الصين أن هدف واشنطن من الحرب التجارية هو تقييد نموها والإضرار بقدرتها على المنافسة التجارية. وبانتظار جولة ثانية متوقعة من الرسوم، يبقى السؤال الأساسي الذي يعجز الجميع عن الإجابة عليه، هو ماذا يريد ترمب تحديدا من شن حرب تجارية جديدة. هل يريد إحياء أو تطوير اتفاقات التجارة التي توصل إليها في ولايته الأولى، أم يبحث عن انتصارات وصفقات. 
يقول البروفيسور ديغانغ إن صانعي القرار والأوساط الأكاديمية في الصين لم يتمكنوا من التوصل إلى توافق حول ما إذا كان ترمب "نمرا حقيقيا" أم مجرد "نمر من ورق"، وهذا يعني أن الصين، التي يرى البعض أنها أكثر استعدادا هذه المرة للحرب التجارية، ستكون في خانة رد الفعل.  
غير أن تشاو تشي جيون، يلفت إلى تأثير مزدوج للحرب التجارية، فقد أدى تراجع حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة إلى إضعاف القدرة التنافسية لبعض المنتجات الصينية في السوق الأميركية، لكن زيادة تكاليف تصدير المنتجات منخفضة القيمة المضافة، دفع الشركات الصينية نحو التحول إلى القطاعات عالية التقنية وعالية القيمة، وهو ما قد يكون مفيدا على المدى الطويل.

تسبب الإعلان عن "ديبسيك"- وهو نموذج لغوي كبير يعمل بالذكاء الاصطناعي- في خسائر كبيرة لشركات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأميركية وهزة كبيرة في سوق الأسهم

وإذا كانت عصا الرسوم قد أثمرت بسرعة في حالات كولومبيا والمكسيك، فإن الصين لديها قدرة أكبر على المقاومة. ويقول تشاو إن النزاع التجاري بين الصين والولايات المتحدة له تأثير لا يمكن تجاهله، إلا أنه لن يلحق ضررا جوهريا بالاقتصاد الصيني. ويوضح أنه وفقا لإحصاءات الجمارك الصينية، فقد بلغ إجمالي الصادرات الصينية المباشرة إلى الولايات المتحدة في عام 2024 حوالي 524.7 مليار دولار أميركي، وهو ما يمثل 14.67 في المئة من إجمالي الصادرات الصينية السنوية البالغة 3.577 تريليون دولار. وهذا الرقم، الذي يعادل حوالي 524.7 مليار دولار، لا يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي السنوي لمدينة مثل شنغهاي، مما يعني أن التأثير على الاقتصاد الصيني كبير، لكنه ليس مدمرا.
كما تفرض الحرب التجارية تحديات على مستويات متعددة، متسببة في تعميق حالة الفوضى وعدم الثقة بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي التكتلات الثلاثة السياسية والاقتصادية الأكبر في العالم.   
وقد يؤدي الاستهداف الأميركي لبكين وبروكسل إلى مزيد من التقارب بينهما لموازنة الضغوط الأميركية، لكن هذا الطريق لن يكون باتجاه واحد، فسيسعى الأوروبيون وكذلك الصينيون إلى استغلال ترمب لتحسين الشروط بين بعضهما العض. 
ويمكن قراءة التحقيق الذي فتحته بروكسل بحق منصة "شي إن" الصينية أخيرا في هذا السياق. وإذا كانت الكتل الاقتصادية والسياسية الأكبر في العالم، قادرة على المناورة، فإن الدول الأخرى المتوسطة والصغيرة ستكون على الأرجح تحت الضغط بهوامش تحرك أقل مع ميل إلى استرضاء الطرف الأقوى في المعادلة، أي واشنطن.

رويترز
مدير عام التجارة الخارجية بوزارة التجارة الصينية لي شينغ تشيان يلوح بيده خلال اجتماع عقد مع شركات صينية وبنمية لتوقيع عدة اتفاقيات تجارية، في مدينة بنما، 26 أغسطس 2024

"ديبسيك" ونظام القطبين التكنولوجيين

يحتل السباق التكنولوجي حيزا مهماً إن لم يكن الأهم من المنافسة. ولم تكد مبادرة ترمب بتعليق حظر موقع "تيك توك" ترى النور، حتى انفجرت قنبلة "ديبسيك" بعد سبعة أيام فقط على حفل التنصيب وساعات قليلة من إعلان ترمب عن مشروع "ستارغيت" لاستثمار بـ500 مليار دولار في البنى التحتية للذكاء الاصطناعي. 
وتسبب الإعلان عن "ديبسيك" وهو نموذج لغوي كبير يعمل بالذكاء الاصطناعي، وذلك عبر استخدام عدد أقل وأقل تطورا من الرقائق وبكلفة إنتاج أقل من نظرائه الأميركيين مثل "شات جي بي تي"، تسبب في خسائر كبيرة لشركات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأميركية وهزة كبيرة في سوق الأسهم.
وأنهى "ديبسيك" الحديث عن ثغرة تصل إلى عدة سنوات لمصلحة واشنطن في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وقضى بالضربة القاضية على نظرية تشكل "نظام قطبين" تكنولوجيين أميركي-صيني على صعيد تكنولوجيا الذكاء الصناعي لمصلحة واشنطن وآخر لمصلحة بكين في تكنولوجيا الكربون المنخفض والطاقة النظيفة بما في ذلك بطاريات السيارات الكهربائية، وهي النظرية التي كانت تجعل الكثير من الخبراء الأميركيين ينامون مطمئنين.
ورغم أن "ديبسيك" لا يزال يعتمد على رقاقات "إنفيديا" الأميركية وليس رقاقات "هواوي" المحلية، فإنه شكل جرس إنذار كبيرا لواشنطن لضرورة تغيير النهج والمقاربة فيما يخص سباق الابتكار والتكنولوجيا مع الصين، في ظل اقتناع بأن العقوبات التي فرضت لتصدير الرقائق للصين لضمان الحفاظ على ريادة الولايات المتحدة ربما تكون قد تسببت في تأثير معاكس، حيث دفعت الصينيين إلى مضاعفة الجهود والبحث عن حلول مبتكرة بما في ذلك الابتكار والبراعة الهندسية. 
وفي الوقت نفسه بدأ يتشكل مسار ضغوط تجارية وقانونية ضد "ديبسيك" شبيه بالمحاولة الفاشلة حتى الساعة لمنع "هواوي" من إنتاج هواتف ذكية فردية وأجهزة لوحية، وهو أمر قد يرخي بظلاله على العلاقات الصينية-الأميركية في السنوات الأربع المقبلة.

التنافس بين ترمب والصين ليس مجرد صراع بين قوتين عظميين، بل هو اختبار لكيفية تشكل النظام العالمي الجديد

وحظرت ولايات أميركية بالفعل استخدام "ديبسيك" كما منعت أستراليا وكوريا الجنوبية استخدام التطبيق على الخوادم الحكومية، وقدم نواب أميركيون قانونا لمنعه في المؤسسات الحكومية الأميركية.     
وتتكبد الصين خسائر كبيرة جراء هذا النهج الأميركي الذي تعتبره غير عادل، لكنها في الوقت نفسه تسعى للتكيف معه على قاعدة التحديات والفرص. وتراهن الصين بشكل خاص على عجز الشركات الأميركية عن المنافسة على الصعيد الدولي في ظل الدعم الكبير الذي تقدمه هي لشركاتها مقابل الضرر الذي يطال الشركات الأميركية جراء التوجهات الاقتصادية المتناقضة للإدارات المتعاقبة. وعلى سبيل المثال ألغى ترمب بجرة قلم كل المساعي والمبادرات التي كان قد أدخلها بايدن في محاولة لتمكين شركات صناعة السيارات الأميركية من منافسة نظيرتها الصينية في السوق العالمية للسيارات الكهربائية التي تستحوذ الصين على 60 في المئة منها.  

قدرة الدولة

ولا يخفي الصينيون ارتياحهم الممزوج بالقلق من الحملة العنيفة التي يشنها ترمب ضد ما يسميه الدولة العميقة بما في ذلك في البنتاغون والسلطة القضائية والإعلام، والتي تضر بعمل المؤسسات وبمبدأ الضوابط والتوازنات.     
ورغم أن حملات التطهير لا تزال تطال من وقت إلى آخر وزيرا صينيا أو قياديا في الحزب من هنا وهناك، تحرص الصين على تجنب المس العنيف بما يعرف بـ"قدرة الدولة" مدفوعة بذكريات مكبوتة من زمن "ثورة ماو تسي دونغ" الثقافية، ولذلك تتطلع بقلق إلى حملة إيلون ماسك ضد الجهاز البيروقراطي للحكومة الأميركية، تحسبا من أي ارتدادات لديها.
وفيما يعمل ترمب على عكس سياسات بايدن بالكامل، بما في ذلك قضايا الجنس والعرق والتنوع، وقد ضم إلى إدارته بعض عتاة التيار اليميني المتشدد التنقيحي، ترى الصين أن ما يحصل قد يكون مفيدا للترويج لاستقرار وصلابة نموذج الحكم الصيني. ويشير ين كي، من "شينخوا" إلى أنه خلال الولاية الأولى، عززت سياسات ترمب الاستقطاب السياسي والانقسامات الاجتماعية وتسببت في احتجاجات عنيفة، الأمر الذي استهلك من قوة أميركا الوطنية وحول انتباهها عن الشؤون الدولية وجعل من الصعب عليها الاستجابة بفعالية للتحديات الخارجية وأن هذا مرشح للاستمرار في الولاية الثانية. 
وفي النهاية، فإن التنافس بين أميركا- ترمب والصين ليس مجرد صراع بين قوتين عظميين، بل هو اختبار لكيفية تشكل النظام العالمي الجديد. وقد تتيح سياساته فرصا للصين، لكنها تفرض أيضا مخاطر جديدة وغير متوقعة. فهل ستتمكن الصين من الاستفادة فعلا أم إن نهج ترمب سيعرقل استراتيجيتها على المدى البعيد؟ وهل ستفتح السنوات الأربع المقبلة الطريق أمام نظام عالمي جديد، أم إن الفوضى التي قد تخلفها ستؤدي إلى عالم أكثر انقساما واضطرابا؟ 
الإجابة ستحدد ليس فقط مستقبل الولايات المتحدة والصين، بل أيضا مستقبل النظام العالمي بأسره.

font change