الذكاء الاصطناعي ومأزق الرواية العربية

يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى عنصر أساسي وهو الروح الإنسانية

الذكاء الاصطناعي ومأزق الرواية العربية

يشهد العالم في عصرنا الحالي ثورة تكنولوجية غير مسبوقة، يهيمن عليها الكثير من الابتكارات التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وبينها الذكاء الاصطناعي الذي يعد أبرز هذه الابتكارات التي فرضت نفسها على شتى المجالات، بدءا من الطب، وصولا إلى التعليم، وقوفا عند الكتابة الإبداعية التي يخشى أن يزداد الاعتماد فيها على هذه التقنية ما يفتح الباب أمام تساؤلات عدة حول تأثيراتها العميقة على هذا الجانب الإبداعي الهام: فهل سيتسبب الذكاء الاصطناعي في قتل المواهب والإبداع الروائي العربي، ويهدد بذلك الهوية الأدبية التي طالما تميزت بها الرواية العربية؟ هل سيقودنا إلى روايات خالية من الروح والعاطفة المؤثرة؟ كل هذه التساؤلات تطرح تحديات حقيقية حول مستقبل الأدب في عصرنا التكنولوجي الحديث، وتسعى هذه المقالة لإيجاد أجوبة حولها.

منذ أن كتب محمد حسين هيكل روايته "زينب" التي عُدت أول رواية عربية في عام 1913م، والروايات العربية من بعدها تشهد تطورا مستمرا على جميع الأصعدة، من حيث الموضوعات والأفكار، والأساليب، والأشكال الفنية، ومن يومها والرواية ساحة مفتوحة للتعبير عن قضايا المجتمع وانعكاس لحالات الحب والحروب وتحديات الحياة اليومية للإنسان العربي. واليوم وبمرور 112 عاما على الرواية العربية يمكن الجزم بأنها تمكنت وبجدارة من بناء هوية أدبية فريدة نبعت عن تجارب الأدباء العرب الذاتية وعلاقاتهم العميقة بمحيطهم، ورحلاتهم المتبحرة في فحص هموم وقضايا مجتمعاتهم.

ومع تطور التقنيات الحديثة بدأ يواجه كُتاب القصص والروايات والمسرحيات والقصيدة المبدعين الأصليين خصم خوارزمي حديث اسمه الذكاء الاصطناعي، الذي بات يعتمد عليه كتاب روايات وفنون إبداعية حديثة تولد لهم محتوى روائيا بشكل تلقائي يرونه رواية مكتملة صالحة للنشر والتوزيع.. وهذا خطر جدا حيث سيؤدي إلى تهديد الكتابة الأدبية الحقيقية المليئة بالعاطفة والتعابير الوجدانية والتي تفتقد إليها الآلة، حتى وإن جاءت النصوص متقنة من الناحية اللغوية، فستظل هناك شكوك حول قدرة تأثيرها على خلق الإبداع الروائي والفني المكتمل، وكل ما تخلقه إنما هو إبداع وهمي ورديء يقلل من قيمة العمل الأدبي الحقيقي الذي يتطلب الكثير من العناء والبذل والجهد والزمن.. فبعد أن كان العربي القديم يكتب قصيدته الحولية في عام، يجيء الذكاء الاصطناعي اليوم بقصيدة مثلها على ذات الوزن والقافية والغرض في ثوانٍ معدودة. وبعد أن كان الروائي اليمني علي المقري يقضي سنوات في إحدى رواياته قد نجد في المستقبل روائيا لن تكلفه كتابة روايته الشهيرة سوى ساعات!

لا يمكن لفن الرواية أن يتحول إلى متجر لتجميع الكلمات لأنه فن إبداعي يعكس روح كاتبه ورؤيته وفلسفته، وفكره وعواطفه، ومهما وفر الذكاء الاصطناعي شيئا من هذه المكونات إلا أنه سيعجز عن توفيرها مكتملة

وعلى الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل ملايين النصوص الأدبية واستخلاص الأنماط السردية المختلفة منها فإنه يفتقر إلى عنصر أساسي وهو الروح الإنسانية التي تميز الأدب وتصنع قوة تأثيره في المتلقي. فالرواية العربية لم تقتصر يوما على الأسلوب الأدبي المميز وحده وإنما جاءت انعكاسا لتجارب ومعاناة إنسانية عميقة، حملت في طياتها الرسائل الهادفة، والتعابير الصادقة عن القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية التي مر بها المجتمع العربي عبر العصور والتي منحت القارئ العربي مشاعر التعاطف والألم مع ما كتبه محمد شكري في "الخبز الحافي"، أو مشاعر التأثر بملامح الطفولة واستعادة الذكريات الأليمة التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا في "البئر الأولى"، أو الحنين بين القرية والمدينة الذي تناوله عبده خال في "لوعة الغاوية" ومعظم أعماله، أو السيرة الصوفية الذاتية لابن عربي التي أبدعها محمد حسن علوان في "موت صغير"، أو الرمزية العميقة التي استخدمها نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا"، وغيرهم.. والتي لا يمكننا مجرد التوقع أو التنبؤ بأن يأتي الذكاء الاصطناعي ولو بجزء بسيط من إبداعهم الحقيقي والمؤثر.
إذن لا يمكن لفن الرواية أن يتحول إلى متجر لتجميع الكلمات لأنه فن إبداعي يعكس روح كاتبه ورؤيته وفلسفته، وفكره وعواطفه، ومهما وفر الذكاء الاصطناعي شيئا من هذه المكونات إلا أنه سيعجز عن توفيرها مكتملة؛ لأنها تعتمد على مؤثرات حياتية مليئة بالعمق والتفاصيل لا تملكها الآلة مهما عُبئت بالمراجع والأوامر والاستجابات. وإن أصر الإنسان على نشرها ووجدت يوما ما من يلتقفها ويتهافت عليها إلا أنها مجرد أعمال باردة، جامدة، باهتة لا تمنح قارئها شعور التفاعل العاطفي الذي يعد الأهم لدى جميع القراء. إضافة إلى أن هذه الروايات ستكون فاقدة إلى التنوع والتجديد والابتكار، ففي حين أن الكتابة التقليدية تتميز بإبداع فكري ينعكس في تنوع الأساليب والأفكار، ستبدو الأعمال التي تُكتب كاملة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي حبيسة تلك الأنماط المتكررة التي لا تضيف جديدا أو تتماشى مع روح التغيير والتجديد التي تتطلبها الرواية الحقيقية المؤثرة. 

يبقى الإبداع الأدبي الحقيقي جزءا أساسيا من الهوية الإنسانية التي لا يمكن أن يعوضها أي نظام تقني قائم مهما كان تطوره

إن قدرات الذكاء الاصطناعي تكمن في معالجة البيانات السردية، وتحليل الأنماط الكتابية، وكأداة مساعدة في مجال البحث الأدبي، واستخلاص المناهج والنظريات الأدبية المختلفة، ودراسة تطور الأساليب السردية عبر العصور، وأرشفة الأعمال الأدبية القديمة وتحليلها بشكل أكثر دقة وفعالية، ما يوفر للباحثين أدوات قوية لتحليل وفهم النصوص، ويوفر لنا فهم الأدب بشكل أعمق. 
جميع تلك الأدوار يمكن أن تكون إيجابية ومقبولة من الذكاء الاصطناعي إلا أن يكون كاتبا أو مؤلفا؛ كونه عاجزا عن الخوض في التجارب الحياتية لفهم المشاعر الإنسانية. مما يعني أن النصوص التي يكتبها مؤكد أنها ستفتقر إلى العمق العاطفي الذي يعد أهم ما تمتاز به الروايات العربية والفنون الإبداعية الأخرى، ولا شك أن هذا الأمر يثير القلق حول مستقبل الأدب العربي في ظل تصاعد استخدام هذه التقنيات بأسلوب سلبي. 
في نهاية المطاف، يبقى الإبداع الأدبي الحقيقي جزءا أساسيا من الهوية الإنسانية التي لا يمكن أن يعوضها أي نظام تقني قائم مهما كان تطوره؛ لهذا يتوجب على الكُتاب والمؤلفين الحاليين وأجيال الرواية والفنون الإبداعية القادمة، بل وعلى الجهات الحارسة للإبداع الإنساني الحفاظ على روح الرواية العربية، التي طالما تميزت بالعمق وأسهمت في التغيير، والتعبير. 

font change