قصة جزيرتين في مهب الصراع الدولي

الجزيرتان لم يكن لأي منهما ذكر قبل بضعة شهور

قصة جزيرتين في مهب الصراع الدولي

"كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة وكان عصر الحماقة. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء اليأس"...

هكذا وصف تشارلز ديكنز السنوات التي سبقت الثورة الفرنسية عام 1789 والعقود التي تلتها. كان الأفق مفتوحا على مسارين يحمل أحدهما الأمل ويتسم بالحكمة، وثانٍ يحمل البأس ويتسم بالحماقة. وينطبق مُفتتح ديكنز هذا لروايته المشهورة "قصة مدينتين" الصادرة عام 1859 على زمننا الراهن بشكل ما رغم أن كل شيء اختلف خلال قرن وثلاثة أرباع القرن. نجد في وصف ديكنز لحال باريس حينذاك ما يعبر عن حال العالم اليوم، في بداية إدارة دونالد ترمب الجديدة، إذ يبدو أن مستقبله مفتوح على طريقين يقود أحدهما إلى سلام واستقرار والثاني إلى استمرار الصراعات والحروب وتصاعدها. وفي مفترق الطريقين هذا يكثر اهتمام المراقبين والخبراء بحربي شرق أوروبا والشرق الأوسط، وصراعات مشتعلة هنا وهناك، فيما يقل الاعتناء بجزيرتي غرينلاند وتشاوس اللتين بدأ صراع قابل للتصاعد عليهما.

جزيرتان تفصلهما مسافة تزيد على عشرة آلاف كيلومتر. تقع جزيرة غرينلاند بين المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي، فيما توجد جزيرة تشاوس في وسط المحيط الهندي. تريد إدارة ترمب شراء الأولى من الدنمارك. ويطالب سياسيون أميركيون هذه الإدارة بالتحرك ضد إعادة بريطانيا جزيرة تشاوس إلى موريشيوس. تختلف طبيعة الصراع على الجزيرتين، ولكن يجمعهما سعي الأميركيين إلى توطيد نفوذهم فيهما وحولهما، وإن تفاوتت أهميتهما بالنسبة إليهم.

نشتريها.. وإلا!

وضع الرئيس ترمب شراء جزيرة غرينلاند ضمن أولويات إدارته منذ اليوم الأول، بل قبل نحو شهر من دخوله البيت الأبيض. فقد تحدث عنها للمرة الأولى يوم 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي عندما أعلن تعيين كين هويري سفيرا لبلاده لدى الدنمارك. وقال ما معناه إن امتلاك هذه الجزيرة ضرورة ملحة للأمن القومي الأميركي. وكرر عرضه شراءها أكثر من مرة بعد ذلك، بل تحدث هاتفيا في 25 يناير/كانون الثاني إلى رئيسة وزراء الدنمارك مين فريدريكسن التي رفضت بيع الجزيرة، مثلها في ذلك مثل حكومة الجزيرة التي تتمتع بحكم ذاتي واسع تحت السيادة الدنماركية. ووصف مسؤولون أوروبيون أسلوب ترمب في تلك المحادثة الهاتفية الطويلة بأنه حاد وهجومي.

في حديث ترمب ووزير خارجيته عن الأهمية الاستراتيجية للجزيرة بالنسبة إلى واشنطن أساس قوى يؤكده تاريخ بدا قبل سنوات أنه صار بعيدا، ولكن يتبين الآن أنه قريب

ومع ذلك كررت فريدريكسن موقف دولتها على هامش اجتماع غير رسمي لدول الاتحاد الأوروبي في بروكسل في 3 فبراير/شباط، وقالت إن الجزيرة جزء من المملكة الدنماركية، وإنها  ليست للبيع. ورغم أن وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو حاول تخفيف وقع تهديد ترمب بممارسة ضغوط تجارية واقتصادية، مع عدم استبعاد الضم القسري، فقد أكد في الوقت نفسه أن الأمر جاد جدا لأنه يتعلق بالأمن القومي.
وفي حديث ترمب ووزير خارجيته عن الأهمية الاستراتيجية للجزيرة بالنسبة إلى واشنطن أساس قوى يؤكده تاريخ بدا قبل سنوات أنه صار بعيدا، ولكن يتبين الآن أنه قريب، بل يبدو كما لو أنه يختلط بالحاضر. فقد بدأ اهتمام الولايات المتحدة بالجزيرة خلال الحرب العالمية الثانية عندما دخلتها قوات ألمانيا النازية في أول أبريل/نيسان 1940 وأقامت فيها مراصد جوية لمراقبة القطب الشمالي ومحيطه إبان غزوها منطقة شمال أوروبا. خشيت واشنطن، التي لم تكن قد دخلت الحرب بعد، أن يحتل الألمان الجزيرة فقامت بعملية فورية سريعة لبسط سيطرتها عليها وتدمير المراصد الألمانية فيها، وأنشأت قاعدة "ثول" العسكرية التي غيرت اسمها إلى "بيتوفيك" في 2023. وهي التي تتولى مسؤولية الدفاع عنها في إطار الترتيبات العسكرية لحلف "الناتو" منذ تأسيسه تقريبا. وربما تخشى واشنطن أن تحصل الصين أو روسيا أو كلتاهما على موطئ قدم في الجزيرة من خلال اتفاقات مع الدنمارك. ولكن القدر المتيقن حتى الآن أن واشنطن تريد الجزيرة لأسباب عدة أهمها ثلاثة. 
الأول: ترسيخ تفوقها في سباق التسلح عن طريق تعزيز قدرات قاعدة "بيدوفيك" العسكرية الفضائية، بما يتيح مراقبة أفضل لمنطقة واسعة حول الجزيرة، عن طريق تحديث نظام الإنذار المبكر فيها لرصد أي تحرك والإبلاغ عنه في وقت قياسي. 
والسبب الثاني: هو إقامة مشاريع كبيرة لاستغلال الثروات المعدنية الموجودة في الجزيرة، وخاصة معدن الكوبالت الضروري لإتمام عملية التحليل الكهربائي في إنتاج الألومنيوم المُستخدم في صناعة الطائرات.
أما السبب الثالث فهو الاستفادة من الممرات المائية التي يمكن فتحها بمقدار ما يؤدي الاحتباس الحراري إلى ذوبان الجليد الذي يغطي أجزاء كبيرة من مساحة الجزيرة في الشتاء.
فتحت واشنطن إذن "جبهة" جديدة في منطقة القطب الشمالي، وسيتوقف مسار صار الصراع فيها على الموقف النهائي الذي ستتخذه الدنمارك. وأيا تكن طبيعة هذا الصراع الجديد، فهو يأخذ بعضا من أنظار العالم إلى أقصى شمال العالم لمتابعة تفاعلاته، في الوقت الذي لم يلتفت كُثُر بعد إلى صراعٍ بشأن جزيرة أخرى في جنوب العالم.

يثير قرار بريطانيا بإعادة جزيرة تشاغوس قلقا لدى عدد غير قليل من الأميركيين، برغم أنه يتضمن بقاء قاعدة دييغو غارسيا تحت سيطرة لندن وواشنطن على سبيل الإيجار طويل المدى

ويعترض سياسيون وعسكريون أميركيون على قرار حكومة كير ستارمر البريطانية بإعادة جزيرة تشاغوس إلى موريشيوس، ويطالبون إدارة ترمب بالتحرك لإثنائها عن هذا القرار قبل التصديق عليه. ويستندون على أن لدى موريشيوس علاقات قوية مع الصين، وأخرى متنامية مع إيران. وجزيرة "تشاغوس"، التي تقع في وسط المحيط الهندي، جزء من موريشيوس التي كانت بريطانيا قد احتلتها عام 1845. وعندما استقلت عام 1968 احتفظت دولة الاحتلال بالجزيرة التي توجد بها جزيرة دييغو غارسيا المشهورة. 
وقد بُدئ في إقامة هذه القاعدة قبيل استقلال موريشيوس بالتعاون بين بريطانيا والولايات المتحدة لمواجهة ما اعتبرتاه حينذاك تهديدا سوفياتيا متزايدا في المحيط الهندي. وهي تُستخدم منذ ذلك الوقت من جانب الأميركيين والبريطانيين لرصد حركة السفن السوفياتية ثم الروسية، ومتابعة تجارب الصواريخ التي تقوم بها الصين في المحيط الهندي. وازدادت أهمية القاعدة بالنسبة إلى واشنطن بعد تخليها عن قاعدة "كافيوستيشن" في إريتريا. فهي تُعد بمثابة حاملة طائرات ثابتة وغير قابلة للغرق في وسط المحيط، ونقطة إنزال وتموين وإمداد لوجستى حيوية للطائرات العسكرية الأميركية لدى مرورها باتجاه شرق آسيا، الأمر الذي يُمكَّنها من الوصول إلى أهداف بعيدة المدى. كما يوجد بها مركز للتنصت يضم مجموعة أطباق تستطيع التقاط الإشارات من الأقمار الاصطناعية في سماء المحيط.
ولهذا يثير قرار بريطانيا بإعادة جزيرة تشاغوس قلقا لدى عدد غير قليل من الأميركيين، برغم أنه يتضمن بقاء قاعدة دييغو غارسيا تحت سيطرة لندن وواشنطن على سبيل الإيجار طويل المدى لمدة 99 عاما مقابل 90 مليون جنيه إسترليني سنويا علاوة على المساعدة في إعادة توطين سكان الجزيرة الأصليين. وقد اتُخذ هذا القرار في ضوء تقدير حكومة ستارمر لأهمية الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية عام 2022 وأكدت فيه تبعية الجزيرة لموريشيوس.
وليست واضحة بعد السياسة التي ستتبعها إدارة ترمب تجاه هذه القضية. ربما تتدخل لإثناء الحكومة البريطانية عن قرارها في ضوء إعلان وزير الخارجية مارك روبيو أن إعادة الجزيرة إلى موريشيوس يمثل تهديدا للولايات المتحدة، وأنها قد تتيح للصين فرصة الوصول إلى معلومات استخباراتية حيوية تخص الأمن القومي الأميركي.
ولكن الأرجح في المدى القصير أن إدارة ترمب ستتنتظر ما سيسفر عنه الخلاف الذي ظهر بعد تولي حكومة جديدة برئاسة نافين رامغولام الحكم فى موريشيوس عقب انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. فقد انتقد رامغولام صيغة الاتفاق الذي تعرضه لندن على أساس أنه يتسم بالغموض فيما يتعلق بملكية الجزيرة، ولا يتضمن اعترافا كاملا بأنها جزء لا يتجزأ من بلاده، وأن المقابل المالي لتأجير القاعدة ضئيل ويحتاج إلى مراجعة.
هاتان الجزيرتان لم يكن لأي منهما ذكر قبل بضعة شهور وهما تحتلان مساحة لا يُستهان بها في التفاعلات الدولية. ويُتوقع أن تزداد هذه المساحة، وخاصة بالنسبة إلى غرينلاند، في الأيام والأسابيع المقبلة.   

font change