"قمة الدفاع الأوروبي"... مواجهة إعصار ترمب وعودة الحروب

القارة القديمة تسعى إلى زيادة قوتها العسكرية 

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الأمريكي دونالد ترمب خلال افتتاح كاتدرائية نوتردام التاريخية في وسط باريس، في 7 ديسمبر 2024

"قمة الدفاع الأوروبي"... مواجهة إعصار ترمب وعودة الحروب

عندما كسب الغرب الحرب الباردة، اعتقد البعض في أوروبا مثل فوكوياما الأميركي باستتباب السلام و"نهاية التاريخ"، وداعبهم الوهم بأن الوحدة الاقتصادية وتوسيع الاتحاد الأوروبي كفيلان بتحصين القارة العجوز من أنواء التحولات العالمية. ولهذا تعثرت اقتراحات بناء "الجيش الأوروبي" أو "الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية" ولم تلاق التجاوب المطلوب.

حاليا في مواجهة إعصار ترمب والمخاوف المستقبلية من خطط روسيا والصعود الصيني، عقد قادة الاتحاد الأوروبي قمة غير مسبوقة ذات طابع تشاوري مع حلف شمال الأطلسي وبريطانيا في بروكسل في الثالث من فبراير/شباط الجاري لبحث سبل تعزيز الاتفاق الدفاعي تزامنا مع ضغوط سيد البيت الأبيض العائد وتغير الوقائع الاستراتيجية.

سيتطلب الأمر انتظار إصدار المفوضية الأوروبية نهاية الربيع القادم للكتاب الأبيض حول الدفاع الأوروبي من أجل التأكد من تسريع الأجندة الخاصة بتعزيز القدرة التنافسية والإمكانات الدفاعية. يبدو الوصول إلى هذه الأهداف عسيرا من دون وجود استراتيجية موحدة وتوافق على خيارات التمويل، لكن حدة التنافسية العالمية وهاجس "الانعزالية الأميركية" ربما تحفز الأوروبيين على تطوير تعاونهم الدفاعي خشية تهميشهم وإضعاف موقع قارتهم بين أقطاب العالم

تنشيط الدفاع الأوروبي بين الضرورات والإمكانات

ناقش القادة الأوروبيون خلال قمة بروكسل التشاورية تحديد احتياجات القدرات المشتركة، وتعزيز القاعدة الصناعية والتكنولوجية الدفاعية الأوروبية، وكذلك خيارات التمويل العام والخاص التي من شأنها أن تجعل من الممكن الاستجابة لها. كما ناقشوا العلاقات عبر الأطلسي وقضايا التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي، بحضور مارك روته، الأمين العام لـ"الناتو".

وتكمن أهمية الاجتماع كونه الأول الذي ينعقد بعد تسلم دونالد ترمب مهامه، ولأنه الأول المخصص حصريا للدفاع وأيضا لأنه الأول الذي ينضم إليه رئيس وزراء بريطانيا منذ دخول البريكست حيز التنفيذ وخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.

من دون ضغط ووجوب تبني نص ختامي وتوصيات تبعا لطابع القمة التشاوري، تمحورت المباحثات حول سؤالين رئيسين: "ما القدرات العسكرية التي ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يعطي الأولوية لإنفاق الأموال عليها؟ وكيفية تمويل تطوير هذه القدرات واكتسابها؟".

ليس من مجال للمقارنة بين الميزانية العسكرية الأميركية البالغة 884 مليار دولار في 2024، والإنفاق الدفاعي الأوروبي في 2024 الذي وصل إلى نحو 326 مليار يورو، أو حوالي 1.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي

في مواجهة التهديدات المتعددة والتحديات الأمنية غير المسبوقة، زادت الدول الأوروبية ميزانياتها العسكرية بشكل كبير، خاصة بعد الهجوم الروسي ضد أوكرانيا، في 24 فبراير 2022. لكن تطوير القدرات لم يكن بالسرعة الكافية في موازاة الحاجات والتحديات وقصور صناعة الدفاع الأوروبية. 

وبينما يضغط دونالد ترمب على الدول الأوروبية لتخصيص 5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري، كي يحافظ على الرابطة الأطلسية، ويصر على أن "مظلة الحماية الأميركية ليست أبدية"، اكتفت غالبية البلدان بإنفاق حوالي 2 في المئة من دخلها للدفاع باستثناء بولندا التي تجاوزت معدل 4 في المئة.

وحسب لغة الأرقام، ليس من مجال للمقارنة بين الميزانية العسكرية الأميركية البالغة 884 مليار دولار في 2024، والإنفاق الدفاعي الأوروبي في 2024 الذي وصل إلى نحو 326 مليار يورو، أو حوالي 1.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، علما أنه بين عامي 2021 و2024، زاد إجمالي الإنفاق الدفاعي من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أكثر من 30 في المئة. عمليا، بحسب المفوضية الأوروبية، يجب على الاتحاد الأوروبي استثمار 500 مليار يورو في الدفاع على مدى العقد المقبل، في حين تم تخصيص 8 مليارات يورو فقط لهذا القطاع في ميزانية الاتحاد 2021-2027. وهكذا يبدو البون شائعا للوصول إلى هذا المطاف وخاصة الاستثمار في مجالات يمكن أن تشكل قيمة مضافة واضحة، مثل الدفاع الجوي والدفاع المضاد للصواريخ، ويبقى الأهم في الاتفاق على كيفية تعبئة التمويل اللازم. وفي نهاية القمة، أعلنت رئيسة المفوضية أورسولا فون ديرلاين عن إمكانية اعتماد مرونة في ميزانية الاستثمار الدفاعي عبر إعادة تخصيص (تدوير) الأموال غير المستخدمة من برامج الاتحاد الأوروبي الأخرى، وتوسيع ولاية بنك الاستثمار الأوروبي (EIB) أيضا، والذي سيؤدي إلى تحفيز القطاع الخاص للإنفاق في هذا المضمار. ويشار إلى أن بعض الدول اقترحت أيضا "تأقلم القواعد الضريبية للاتحاد من أجل السماح للدول الأعضاء باستبعاد الإنفاق الدفاعي عن إنفاقها الوطني". أما الخيار الأخير الذي جرى بحثه فكان اللجوء إلى: "قرض أوروبي كبير" للتمويل. لكن ألمانيا، التي تستعد لإجراء انتخابات تشريعية في 23 فبراير، لم تشأ فتح النقاش حول هذا الموضوع الحساس سياسيا".

بينما يتعرض الأوروبيون لضغوط من جهة الولايات المتحدة، ثاني أكبر شريك تجاري لهم بعد الصين، فإن ذلك قد يدفعهم، في النهاية، إلى توسيع نطاق التبادلات التجارية مع بكين

وعلى ضوء النقاشات، ستقدم أورسولا فون ديرلاين مقترحاتها بشأن "الكتاب الأبيض" حول الدفاع، خلال اجتماع المجلس الأوروبي أواخر مارس/آذار، تمهيدا لإصدار القرارات في الدورة السابعة والعشرين في يونيو/حزيران خلال القمة الأوروبية.

حرب الرسوم الجمركية وإشكال جزيرة غرينلاند

كان من اللافت خلال قمة بروكسل تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه في حال تعرضت تجارة الاتحاد الأوروبي "لهجوم"، عليه أن "يفرض احترامه"، وبالتالي أن يرد. غير أن بلدانا أخرى رأت أنه ينبغي عدم وضع معايير صارمة جدا في وقت تواجه فيه الصناعة الأوروبية صعوبة في تلبية الحاجات، كما اعتبرت أن شراء أسلحة أميركية قد يسمح بالحفاظ على علاقات جيدة مع ترمب.

في السياق نفسه، اعتبر ماكرون أنه يتوجب على أوروبا قبل كل شيء تمويل صناعتها الدفاعية، حيث أعلن أنه "من خلال اتخاذ قرار بشراء وتفضيل السلع الأوروبية ستصبح (أوروبا) أكثر استقلالية، الأمر بهذه البساطة".

يكشف النقاش والسجال الأوروبي عن مناخ متوتر ساد الأجواء في بروكسل، ويتضح أن الاتحاد الأوروبي ربما يكون في موقف جيد للرد على فرض الولايات المتحدة أي رسوم جمركية على السلع الأوروبية، كما أن تعريفات مضادة قد يلجأ إليها "الاتحاد" ستضر بالأميركيين على نحو متوازٍ. لكن بعض الدول الأوروبية تميل نحو الضغط في اتجاه وضع ترتيبات تجارية ترضي ترمب، والتفاوض معه بدلا من التورط في حرب تجارية مفتوحة سيخسر فيها الجميع؛ علما أن "الاتحاد" يمثل بسوقه الموحدة أهمية كبرى لأي شريك تجاري عالمي.

أ.ف.ب
الرئيس الأمريكي دونالد ترمب والأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته أثناء لقائهما في بالم بيتش بولاية فلوريد، في 22 نوفمبر 2024

وبينما يتعرض الأوروبيون لضغوط من جهة الولايات المتحدة، ثاني أكبر شريك تجاري لهم بعد الصين، فإن ذلك قد يدفعهم، في النهاية، إلى توسيع نطاق التبادلات التجارية مع بكين- رغم السعي الحثيث من قبل واشنطن طوال السنوات الأخيرة لمنعهم من سلوك هذا الطريق- كما مع دول العالم الأخرى، بما فيها كندا والمكسيك ومجموعة "ميركوسور" في أميركا اللاتينية، لكن مراقبين حياديين يستغربون اندلاع صراع تجاري بين الحلفاء، بينما تدور حرب في أوكرانيا.

لكن بعد استهداف ترمب كندا، العضو في حلف شمال الأطلسي، وتهديده باتخاذ الإجراء نفسه مع الاتحاد الأوروبي. لا يمكن للأوروبيين عدم التنبه والاستعداد لاتخاذ إجراءات مضادة، خاصة أن ترمب هدد أيضا الدنمارك، العضو في "الناتو" وفي الاتحاد الأوروبي بالسيطرة على غرينلاند التابعة لها. ويمكن أن يشكل ذلك سابقة في تجاوز القانون الدولي واعتداء على السيادة في بلد أوروبي.

تهب على أوروبا عواصف سياسية متلاحقة تنذر بالمزيد من الاضطراب وتذكر بمرحلة ما بين الحربين العالميتين ومآلاتها المعروفة

والأدهى أن نية دونالد ترمب للاستيلاء على هذه الجزيرة الاستراتيجية تعطي وزنا لمطالب الاستقلال لجزء من السكان الذين يطمحون لتحرير أنفسهم من الدنمارك. والاستئثار في السيطرة على الموارد المعدنية.

وزيادة على ذلك تركز واشنطن على البعد الدفاعي. وفي هذا الصدد يقول نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس: "هذا الأمر مهم للغاية بالنسبة لأمننا القومي، فهناك ممرات بحرية يستخدمها الصينيون، ويستخدمها الروس، وبصراحة فإن الدنمارك، التي تسيطر على غرينلاند، لا تقوم بوظيفتها، وهي ليست حليفة جيدة".

رويترز
جنود من الجيش الإسباني مع ناقلة جند مدرعة يشاركون في تدريبات عسكرية لمجموعة القتال المعززة التابعة لحلف شمال الأطلسي في أدازي، لاتفيا، 14 نوفمبر 2024

وهذا يعطي تفسيرا للصراع حول قناة بنما وحروب الممرات وطرق النقل. ويصل الأمر بدي فانس للقول: "الرئيس ترمب لا يهتم بما يصرخ به الأوروبيون في وجهنا، إنه يهتم بوضع مصالح الأميركيين أولا". وتعليقا على هذا التحدي، اكتفى أمين عام حلف شمال الأطلسي مارك روته باعتبارها قضية جيوسياسية واستراتيجية تضع حلف "الناتو" على المحك للإسهام في حلها. من جهتها، تقاطعت مواقف الدول الأوروبية على رفض تهديدات ترمب والتضامن مع الدنمارك. 

وفي الخلاصة، تهب على أوروبا عواصف سياسية متلاحقة تنذر بالمزيد من الاضطراب وتذكر بمرحلة ما بين الحربين العالميتين ومآلاتها المعروفة. وفِي هذا الوقت يمكن لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن تغتبط بهذا التفكك الذي تراهن عليه كي يتم تطويع الحلفاء... أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يخوض حرب أوكرانيا، ويسعى أيضا لجذب قوى أوروبية في لحظة صعود اليمين المتطرف. أما الصين البعيدة فتخترق الاتحاد الأوروبي من شرقه إلى البرتغال تحت يافطة "طرق الحرير الجديدة".

إنه نوع من دومينو عالمي جديد يمكن أن تصبح فيه أوروبا الحلقة الأضعف ضمن التوازنات الدولية، والقطب الخاسر نتيجه عدم تحوله لقطب جيوسياسي فاعل.

font change