بشكل استثنائي، لم توجه إيران طوال الشهور الماضية أي تهديد عسكري أو ضغط سياسي على إقليم كردستان العراق، في سلوك خاص غير مطابق لما كانت تتعامل به طهران مع الإقليم الكردي طوال العقدين الماضيين. وحسب المراقبين المتابعين للعلاقة التاريخية المركبة بين الطرفين، يشكل ذلك مؤشرا على تبدل جوهري في ميزان القوة وشكل العلاقة بينهما، مبني على تراجع النفوذ السياسي والأمني والعسكري لإيران في عموم المنطقة، وحيث سيسعى إقليم كردستان لترتيب أوراقه الوطنية والإقليمية حسب هذا الترتيب الجديد.
طوال عقدين كاملين، منذ عام 2005، حينما شرعن الدستور العراقي الوضع الفيدرالي لإقليم كردستان، كأول كيان سياسي ذي صبغة كردية، بقيت إيران تعتبره فداحة سياسية/دستورية، يجب إضعافها وتفريغها عمليا، عبر سلسلة من الممارسات الأمنية والعسكرية والسياسية، معتمدة على أداوت القوة التي توفرت لها، والتي كانت تفوق ما لدى إقليم كردستان بكثير.
طوال هذه المدة، ولأجل تحقيق ذلك، لم تتوقف التهديدات الإيرانية للإقليم، والتي تراوحت على طيف واسع من الاستعمالات. فإيران كانت فاعلا حائلا دون التعامل الإيجابي من قِبل القوى السياسية العراقية المقربة/التابعة لها مع الملفات الكردية الاستراتيجية في الداخل العراقي، مثل ملف المناطق المتنازع عليها وتصدير النفط وتمويل قوات البيشمركة. كذلك شجعت إيران الميليشيات العراقية التابعة لها على شنّ عمليات قصف متواصلة على المراكز العسكرية والمصالح الاقتصادية في إقليم كردستان، بما في ذلك المطارات المدنية وحقول ومصافي النفط، حتى يعيش الإقليم قلقا مستداما. ولم تتوانَ إيران عن التهديد باجتياح الإقليم عسكريا أكثر من مرة، ونفذت هجمات صاروخية على الأحياء المدنية في العاصمة أربيل، وكانت فاعلا رئيسا لإفشال مشروع الاستفتاء الكردي عام 2017، ودعمت قوى المعارضة الجذرية للسلطة الحاكمة ضمن الإقليم.
كانت إيران تفعل ذلك كجوهر سياسي وعملي لاستراتيجيتها تجاه الإقليم، وإن كانت تعترف بالإقليم سياسيا وتتعامل معه اقتصاديا ورمزيا ومؤسساتيا. فإقليم كردستان بالنسبة لها كان "حجر عثرة استراتيجيا"، حسبما يشرح الباحث المختص آراس فايق في حديث مطول مع "المجلة"، ويضيف: "ثمة ثلاثة عوامل موضوعية، جذرية ومستدامة، خلقت هذه الضغينة السياسية الإيرانية تجاه كردستان، لو صح التعبير. فكردستان كانت البقعة العراقية الوحيدة التي لم تخضع أمنيا وأيديولوجياً وسياسيا لإيران، بل على العكس تماما، تحولت إلى نقطة جذب للعراقيين المعترضين على الهيمنة الإيرانية في العراق، وقطبا تعبيريا عن (العراق الآخر)، غير الإيراني، سياسيا ورمزيا. وطوال عقدين كاملين، كان موقع كردستان ضمن الكل العراقي محل حساسية إيرانية، لأنها منعت سعيا إيرانيا متراكما لتغيير جوهر النظام السياسي في العراق، ليكون مفرغا من كل أدوات وأشكال الحياة الديمقراطية، وبذا يكون شبيها بباقي الأذرع والكيانات الملحقة تماما بالنفوذ الإيراني".
قيمة الحذر الإيرانية المضافة من موقع كردستان ذاك، كانت متأتية من كون هذا الأخير لم يكن ذا ميول سياسية (حيادية) مثل الكثير من القوى المناهضة للنفوذ الإيراني في الدول الأخرى، كلبنان واليمن وسوريا، بل كانت كردستان منزاحة ومرتبطة تماما بالنفوذ الأميركي في العراق وعموم المنطقة.
ويضيف فايق: "هذا التموضع الذي بقيت إيران ترفضه، تحديدا من كيان جغرافي على حدودها، محمي فعليا من الولايات المتحدة، ويقدم تجربة نادرة لإمكانية نجاح نموذج الرعاية الأميركية، مقارنة بما تُقدمه إيران من نماذج، وعلى حدودها. السبب الثالث للامتعاض الإيراني من كردستان كان متأتيا من نوعية التداخل السياسي والثقافي والحياتي للإقليم مع ملايين الإيرانيين الأكراد، في منطقة جغرافية وعرة وذات تاريخ سياسي وذاكرة اجتماعية شديدة القسوة والمعاناة من النظام الحاكم لإيران. بهذا المعنى، بقيت إيران طوال العقدين الماضيين تعتقد أن النموذج الذي يمثله كردستان ضمن العراق، قد يكون مُلهما وجاذبا لأكرادها في الداخل، ومثلهم باقي قوميات الطوق الإيراني، من أذر وعرب وبلوش. فالتقارير الأمنية والسياسية الإيرانية لم تتوقف منذ سنوات كثيرة وهي تحذر من تنامي مفردة (الفيدرالية) ضمن أدبيات قوى المعارضة الإيرانية، والنقاشات المستفيضة بشأنها، معتمدة ومستندة إلى تجربة كردستان في ترويج مطالبها، وهو أمر مقلق للنظام الإيراني، الذي يستميت في سبيل منع هذه المعارضة على الاتفاق حسب أية رؤية لمستقبل إيران".