تيسير البطنيجي في بيروت... عدة مجازات عن غزة

ورود من البرزخ الرقمي

بإذن من الفنان وصالة عرض صفير-زملر بيروت/هامبورغ
بإذن من الفنان وصالة عرض صفير-زملر بيروت/هامبورغ
"Just in case #2, 2024"

تيسير البطنيجي في بيروت... عدة مجازات عن غزة

في معرضه الحالي "من باب الاحتياط" Just in Case في غاليري "صفير-زملر" في بيروت، المستمر حتى 29 مارس/ آذار، يقدم الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي عدة مجموعات فنية، يحاول من خلالها وصف حرب غزة، غير أن "ما حدث يفوق الوصف".

رنة تنبيه هاتفية تصل إلى مسامع تيسير البطنيجي، تلحقها أخرى ثم أخرى، صور وفيديوهات تتراكم في موبايل الفنان الفلسطيني المقيم في باريس، ابن غزة التي حُرِم العودة إليها منذ عام 2006، بداية الحصار على القطاع. أنشأ الغزيون خلال الحرب حسابات على "تليغرام"، بعضها شخصي وبعضها إخبارية يتواصلون فيها، ويرسلون صورا ومقاطع توثق أيامهم. يفتح تيسير الصورة لتبدأ بالتحميل لكنها تتوقف، تتجمد في غبش لوني يمزج الأحمر بالأخضر بالرمادي بألوان الأرض والسماء، فتبدو للوهلة الأولى صورة تجريدية لوردة ربما أو شجرة.

جثة أو أكثر

ما أن ينقشع الضباب عن الصور وتتضح، ستظهر جثة أو أكثر. غير أن عيني تيسير تحدقان في منطقة برزخية رقمية بين الصورة واتضاحها، بين الجريمة وتنفيذها، بين تعثرها الافتراضي ووصولها. يأخذ الصورة التي التقطها ثم يرسمها بألوان الزيت عله يمكث في عالم الـبين بين لا يغادره، فلا يتحقق الموت في فوتوغرافيا لا لبس فيها، لقد أُلغي الزمن. في حديث لـ "المجلة" يصف البطنيجي رسوماته هذه بأنها "محاولة لإيقاف ما سيحدث، ولو مجازا"، مضيفا "احتفظت بالتعليقات الإخبارية لهذه الصور مع الأعمال كما وصلتني على تليغرام، إحداها كانت للطفلة هند رجب، بينما والدتها تروي لحظة استشهادها".

احتفظت بالتعليقات الإخبارية لهذه الصور مع الأعمال كما وصلتني على تليغرام، إحداها كانت للطفلة هند رجب، بينما والدتها تروي لحظة استشهادها

هذه اللوحات تحتضنها غاليري "صفير زملر" في بيروت حاليا،  إلى جانب مجموعات أخرى للبطنيجي حتى 29 مارس/آذار المقبل تحت عنوان "دون سابق إنذار". ويقام هذا المعرض بعد سنوات عاش فيها تيسير في المنفى: "ما يعادل أو يزيد قليلا على عدد السنوات التي عشتها في غزة". سنرى في زاوية من القاعة حقيبة سفر مفتوحة ومملوءة من الجانبين بالرمل، بها يستعيد البطنيجي عملا كان أنجزه أول خروجه من غزة عام 1998، تلك كانت حقيبة أخرى. جانب واحد منها فقط كان معبأ بالرمل، وتحضر الآن وقد امتلأت عن آخرها. يستعمل البطنيجي متاع الرمل، الذي هو الزمن والذي هو المكان والذي هو غزة وامتدادها الممشوق على البحر يظهرها كأنها ليست مكانا صغيرا. في الحقيبة تختلط ذاكرة الفرد بالمدينة وبالبعد عنها، ويتجمع الزمن الذي يسيل في المنفى.

أقلام خشبية

البطنيجي الذي فقد خلال الحرب الأخيرة أكثر من خمسين شهيدا من عائلته الكبيرة، عشرون منهم من الأقربين- بدأ يرسم في فبراير/ شباط 2023. يذكر "كنت أسير في أحد الشوارع، حين عثرت على كمية كبيرة من أقلام تلوين خشبية وبعض أقلام الحبر الجاف، فحملتها وعدت بها إلى المحترف"، ليجد لها مصيرا آخر. يكمل "كان ذلك قبل الحرب بقليل، بدأت أرسم بها على ورق، مجرد تزجية للوقت، واخترت التفكير في أمور بسيطة جدا، مثلا في اللوحة باللون الأصفر كنت أفكر في ثمار الليمون، الأزرق سماء مع غيوم... ثم بدأت الحرب".

أرسم بشهية دون سؤال عن القيمة، دون رضا، أحاول استرجاع التركيز، الخروج من صخب الصور. هذا اللاشكل هو الصمت من خلال الألوان

يذكر  البطنيجي "مع أول الأحداث، بات التفكير في شكل أرسمه صعبا، كأنني في وادٍ وشغلي في واد. كان المرء مأخوذا، ممزقا طوال الوقت بين متابعة الأخبار ومحاولات التواصل مع الأهل". من هنا كان الاستغناء عن الشكل، وإنجاز لوحات مجموعة "ألوان مشردة" Homeless Colors، وكل واحدة منها ذات لون واحد، حالة مونوكرومية صافية في مواجهة تدفق صور المذبحة. لا توجد أي علامات أو أشكال بشرية، فقط طبقات لونية، وكأن الفنان يمارس رياضات صوفية مشابهة لتلك التي يسعى من خلالها المتعبد للوصول إلى لحظة من وضوح الرؤية. إلا أن هذا السعي لم يكن مجديا في حالة البطنيجي، فـ"ما حدث يفوق الوصف والتصور". بدا تيسير في المقابلة مشوشا، يخلط السنوات والأعمال، قبل أن يوضح هو نفسه بأنه "مشتت وضائع في الزمن".

بإذن من الفنان وصالة عرض صفير-زملر بيروت/هامبورغ
"Out of the Blue، 2023"

بساطة معقدة

تبدو أعمال البطنيجي المعروضة في "صفير-زملر" بسيطة من حيث الشكل والعناصر والتنفيذ، لكنها معقدة في معانيها وماضيها، عندما كانت مجرد فكرة. ها هو ينفذ على ورق طبقة من اللون الأصفر، ثم يشرع في عملية تسلسلية تتراكم خلالها الطبقات واحدة تلو الأخرى حتى ينتهي القلم، ويصل إلى درجة اللا-إمكان. قد يبدو ذلك نوعا من التكرار القهري، لا سيما عندما يصفها الفنان قائلا: "أرسم بشهية دون سؤال عن القيمة، دون رضا، أحاول استرجاع التركيز، الخروج من صخب الصور. هذا اللاشكل هو الصمت من خلال الألوان، اللوحة تنتهي حين يفرغ القلم". نهاية القلم هذه، إذا أضفنا إليها كثافة اللحظة الراهنة ورهبتها، تترك الملتقي مع إحساس بالهشاشة العنيفة، مثلما يحدث عندما يلمس أحد زهرة رقيقة فتنفرط. هذه "الأنسنة للرقمي"، كما يصفها هو نفسه، تدفع إلى "مط اللون وإعطاء الزمن العابر استمرارية تخرجه بشاعرية جديدة".

كل واحد منهم كان يشخصن مفاتيحه، كانوا مثل باقي البشر، لهم حياة عادية وفجأة انتهت

في جانب آخر من المعرض، توجد مجموعة من الصور الفوتوغرافية لمفاتيح. في مارس/آذار 2024، تواصل البطنيجي مع الشابة سماح الجزار، التي تعمل مع اللاجئين في وسط وجنوب غزة، وطلب منها أن تلتقط صورا لمفاتيحهم على خلفية بيضاء، سواء كانت ورقة أو ملاءة، بهدف تجنب أي عناصر مشوشة. في البداية، تردد الفنان في طلب إضافة تفاصيل عن صاحب أو صاحبة المفتاح، خجلا من الظروف المحيطة بالتصوير، لذا خلت الصور الأولى من أي معلومات. يقول البطنيجي: "ثم تجرأت وطلبت منها كتابة اسم صاحب سلسلة المفاتيح وبعض التفاصيل عنه، وكان هذا أمرا مهما. لدينا الآن 250 صورة لمفاتيح تعود إلى 250 شخصا، معظمهم اليوم شهداء أو في حالة صحية سيئة". في كل صورة يظهر عنصر معين، مثل ميدالية علق صاحبها أيقونة لحنظلة أو قلبا أحمر أو ميكي ماوس... يتوقف البطنيجي هنا ليقول: "كل واحد منهم كان يشخصن مفاتيحه، كانوا مثل باقي البشر، لهم حياة عادية وفجأة انتهت".

بإذن من الفنان وصالة عرض صفير-زملر بيروت/هامبورغ
"Just in case #2, 2024"

المفاتيح

منذ أواخر التسعينات، يتكرر عنصر المفتاح في أعمال البطنيجي، لكنه يعود بأشكال مختلفة. نسأله عن تلك العلاقة المربكة بين الفن والأشياء التي قد يعدها البعض كليشيه، فيعترض: "أعمالي ضد الكليشيه، ترفضه. التكرار مرتبط هنا بالتاريخ الذي يتكرر بطريقة معاصرة منذ 1948. حين أدركت في 2006 أنه لم يعد في إمكاني العودة إلى غزة كانت مفاتيحي معي، إنها بالنسبة إلي اللجوء والمنفى والرحيل والفقدان. باب لمكان لم يعد موجودا، واستخدمتها لأنها عنصر مألوف لدي، وفي تلك اللحظة كنت بحاجة إلى هذا الشيء المألوف لأتمكن من العمل"، يضيف: "بالنسبة إلى مفاتيحي، قمت بعمل نسخة تكاد تكون طبق الأصل من مادة الكريستال".  تعود ثيمة الهشاشة لتظهر مرة أخرى خلفية لأعمال البطنيجي حين يقوم بعمل نسخة من مفاتيحه: "تكاد أن تكون طبق الأصل من مادة الكريستال". مفاتيح قابلة للتهشم، يصفها بـ"هشاشة حلم أو فكرة العودة... ربما استحالتها".

بإذن من الفنان وصالة عرض صفير-زملر بيروت/هامبورغ
معرض "Just in Case، 2025"، صالة صفير-زملر وسط بيروت، لبنان

في تلك الأشهر الطويلة من الشر المطلق، لم يخضع تيسير البطنيجي نفسه لنظام مسبق للعمل، مما سمح له بانتهاج طريقة أكثر جرأة نفسية مما قد يظن هو نفسه. ليس أجرأ من لون واحد كالأزرق الهادئ والأصفر الشغوف أمام الفجور الأحمر والرمادي المسلح. إنه يمتنع عن قراءة القتل بوصفه صورة.

قصة الإنسان الفرد في غزة ليست إلا قطعة من القصة الجمعية الكبرى أيضا، موجودة في مساحة بين الخاص والعام

يضم المعرض أيضا أعمالا سبقت الحرب، من بينها 12 لوحة بعنوان "زهور فانية"  Fading Roses، تُظهر ورودا على طريق الزوال فتصير مزيجا من بقعة دم ووردة. وهناك مجموعة أخرى وهي "دون سابق إنذار" Out of the Blue  وهذه أيضا محاولات لتثبيت صور ضائعة، يصفها البطنيجي: "أحيانا حين أخرج هاتفي من جيبي يحدث وأن تُلتقَط صورة بالخطأ. غالبيتها تجريدية، فقط في صورة منها نتعرف الى خيال شخص. أخذت هذه اللقطات ونفذتها في 16 لوحة بألوان الباستيل، كنت أفرك اللون، أفرك، أفرك إلى أن ينتهي اللون".

بإذن من الفنان وصالة عرض صفير-زملر بيروت/هامبورغ
"Fading Roses، 2022"

صور فوتوغرافية

خلال العام الماضي، بدأت منصات كثيرة في تداول أعمال البطنيجي القديمة كأنها التقطت الآن، من بين أكثر تجاربه تداولا مشروعه الفوتوغرافي "آباء" الذي صور في مقاهٍ وبقالات ومحلات في غزة. يهمهم تيسير وهو يتذكر أين التقط الصور: "مقهى على شارع عمر المختار لم يعد له وجود الآن، أقدم صيدلية في غزة استشهد صاحبها...". في هذه المجموعة التقط تيسير صورة لصور الآباء والأجداد المعلقة على جدران هذه الأمكنة، ففي غزة تُعرف الأمكنة بأسماء العائلات التي أسستها، وكلما تقاعد الكبار أو رحلوا وضعت لهم صورة على الجدار. يرى أنهم "يتعاملون مع الغياب هكذا، الأبوية الحاضرة بينما الأب راحل أو متقاعد عن العمل، برهان آخر أن قصة الإنسان الفرد في غزة ليست إلا قطعة من القصة الجمعية الكبرى أيضا، موجودة في مساحة بين الخاص والعام"، ويكمل "هناك صورة داخل الصورة، التقطت فيها العناصر المحيطة أيضا بصورة الأب، وصلات الكهرباء، صور أيقونية أخرى لياسر عرفات وجمال عبد الناصر وراشيل كوري، إلى جانب ملصقات...".

بإذن من الفنان وصالة عرض صفير-زملر بيروت/هامبورغ
معرض "Just in Case، 2025"، صالة صفير-زملر وسط بيروت، لبنان

يخلط الناس بين صور مجموعته هذه إلى جانب أعماله من 2001 حين التقط صور الشهداء على جدران غزة وقد أذابتها عوامل الطبيعة، أو تلك التي قدم فيها صور البيوت المدمرة بعد عملية "الرصاص المصبوب" التي بدأت مع نهاية 2008 وعرضها في باريس كما تعرض المكاتب العقارية المنازل للإيجار. يعتقد كثير ممن يتداولون أعمال البطنيجي القديمة أنها تخص حرب 2023-2025. عن هذا الخلط الذي يوضحه الفنان، يقول"يفاجئهم أن الصور ليست جديدة، وأن الحرب على غزة تسبق 7 أكتوبر بكثير".

font change

مقالات ذات صلة