"هوبال" لعبد العزيز الشلاحي: تجربة سعودية خالصة

تحولات السلطة الأبوية في مجتمع يمضي نحو الحداثة

 Shaf Studios
Shaf Studios
مشهد من فيلم "هوبال"

"هوبال" لعبد العزيز الشلاحي: تجربة سعودية خالصة

يسيطر فيلم "هوبال" للمخرج عبد العزيز الشلاحي والكاتب مفرج المجفل على شباك التذاكر حاليا في صالات السينما السعودية. حقق الفيلم أكثر من عشرين مليون ريال منذ بدء عرضه ويتصدر أكثر الأفلام مبيعا منذ بضعة أسابيع. يتحدث الفيلم عن رب أسرة متشدد دينيا يقرر الرحيل عن المدينة واللوذ بالصحراء اعتقادا منه أن يوم القيامة اقترب بسبب "تطاول البنيان"، في تجسيد واقعي للتأثير الديني الذي امتد إلى غالبية العوائل ومدى تطرفه. الفيلم من بطولة مشعل المطيري وحمدي الفريدي وميلا الزهراني وإبراهيم الحساوي.

هوبال الابل أو الحداء هو تقليد نشأ قديما يتمثل في إنشاد شعري يحفز الإبل على السير بطريقة معينة أو إيجاد مكان الراعي الذي يناديها. تحتضن الصحراء أبطال هذا الفيلم وترافقهم إبلهم الثمينة في هذه العزلة عن المجتمع بأكمله. الإبل امتداد للعائلة بالنسبة إلى الشخصيات، فهم يرتحلون معها ويحزنون لفقدها، تشاركهم مصاعب الصحراء وتسهلها عليهم. يتوارث حبها الأبناء من آبائهم، وفي حالة "هوبال" تتوارث هذه الإبل ثلاثة أجيال.

بين عالمين

يسلط العمل الضوء على حقبة التسعينات من القرن الماضي، وهي فترة جوهرية في التاريخ السعودي المعاصر، حيث صاحبت التقدم المعماري والتقني والمادي مقاومة دينية متزمتة تجعل البلدة الصغيرة التي توفر خدمات أساسية مثل المركز الصحي والمخبز تصنّف بوصفها مدينة خطيئة تعج بالرذيلة والمنكرات. في هذا السياق، وجود مبان بطول دور ودورين يعتبر تطاولا في البنيان، مع أن طول هذه المباني لا يقارن بأبراج دول مجاورة.

يبدو العالم متمحورا حولنا بالكامل حينما تكون دائرة المعارف ضيقة والمجتمع من حولنا محدودا، فيسيطر شعور قوي بالفردانية وبأننا أبطال قصتنا الخاصة. يعامل رب الأسرة ليام (إبراهيم الحساوي) أبناءه وعائلاتهم بسلطة مطلقة، متحكما بكل تفاصيل حياتهم، فارضا هذه التدابير القاسية ظنا منه بأن العالم تحول إلى بؤرة رذيلة وتقع مسؤولية إنقاذهم من هذه الشرور المحيطة بهم على عاتقه.

سيطرة الفيلم على شباك التذاكر تُعدّ مفاجأة لأنه ليس فيلما تجاريا إطلاقا، وقد يكون مؤشرا الى تقبل الجمهور لأفلام غير تجارية، وتطور ذائقته النقدية

فكرة تبدو مستغربة في المجتمع السعودي الحالي، فهناك استقلالية أكثر لدى الأفراد، والسلطة الأبوية لم تعد قائمة على المعايير السابقة. وحياة المدن الكبيرة فرضت نفسها على الأواصر الاجتماعية، والبيوت التي تحتضن عدة عوائل داخل جدرانها في السابق، أصبحت تحتضن اجتماعاتهم الأسبوعية في أفضل الحالات.

سيطرة الفيلم على شباك التذاكر تُعدّ مفاجأة لأنه ليس فيلما تجاريا إطلاقا، ولكن وجود فيلم "هوبال" مع إعادة عرض فيلم  Se7en للمخرج الأميركي ديفد فينشر في قائمة أعلى الأفلام بيعا للتذاكر في الفترة الماضية، قد يكون مؤشرا الى تقبل الجمهور لأفلام غير تجارية، وتطور ذائقته النقدية.

 Shaf Studios
ملصق فيلم "هوبال"

وفي حالة "هوبال" تحديدا، ربما يكون خلف هذا النجاح أسباب عدة، كأن يكون الإقبال الجماهيري نتيجة غير مباشرة لضعف الأفلام الأجنبية المعروضة حاليا، بالإضافة إلى الشعبية التي اكتسبها صناع الفيلم بعد نجاح فيلم "حد الطار" وحصوله على جائزة أفضل فيلم روائي طويل في "مهرجان الأفلام السعودية"، ومشاركة نجم جماهيري مثل حمدي الفريدي في دوره التمثيلي الأول، والذي لم يتوان في استخدام حساباته على منصات التواصل الاجتماعي لترويج الفيلم.

سحر الصحراء

كما أن البيئة الصحراوية في الفيلم قد تكون سببا من أسباب نجاح الفيلم. فهذه البيئة تؤتي ثمارها مبكرا نتيجة لإبداع المصور السينمائي محمود يوسف في توظيفها. فالصورة تنقل العزلة التي تعيشها هذه العوائل المترابطة، ولكن في الوقت نفسه توضح مواقع التصوير والكادرات أن هذا مجتمع منعزل ومكتفٍ بذاته ولا يحتاج إلى التدخلات الخارجية. هذان العزلة والاختلاء بالنفس يرافقهما بطء سردي، وهو بطء يصب في مصلحة الفيلم لأنه توثيق واقعي للحياة الصحراوية، التي بقدر ما يمكن أن تكون مفعمة بلحظات تأمل وهدوء، هي حياة بطيئة وهادئة وليست حافلة بالأحداث.

 Shaf Studios
مشهد من فيلم "هوبال"

نحن نعيش عصر سرعة غير مسبوق للجنس البشري، نحصل على جرعاتنا من الدوبامين بمجرد إلقاء نظرة على هواتفنا  الجوالة ونستطيع التنقل بين المدن والدول في غضون ساعات. لذلك من المهم إلقاء نظرة على أسلوب حياة يبدو اليوم أثريا بالنسبة إلينا، بالرغم من أنه ليس أبعد من 40 سنة، حينما كان الأطفال يقضون أيامهم بأنشطة وألعاب تختلف كليا عن أنشطة أطفال وقتنا هذا، ولحظات الملل والانتظار تبدو أطول وأبطأ بكثير. تنقلنا السريع داخل المدن وبينها، لا يقارن مع رحلات أبناء العائلة إلى البلدة الصغيرة التي يبدو أنها في عالم آخر مختلف.

هذان العزلة والاختلاء بالنفس يرافقهما بطء سردي، وهو بطء يصب في مصلحة الفيلم لأنه توثيق واقعي للحياة الصحراوية

يرافق كادرات الفيلم البديعة أداء ممتاز من قسم الأزياء وتحديدا في تصميم وتجهيز الممثلات، فتبدو الواقعية ملموسة في الأزياء والمكياج الذي يوضح أثر الصحراء على أوجه أفرادها، وإن كان الأمر نفسه لا ينطبق على الأدوار الذكورية، إذ تبدو بعض لحى الممثلين غير مقنعة وهذا يقلل الواقعية التي يهدف الفيلم إلى تحقيقها.

نقاش جريء

خلال النصف الأول من الفيلم، تناغمت مختلف العناصر وتناسقت لتبقي السرد محكما وموجها نحو نقطة واضحة، وحتى بعض العيوب (في النص أو في بعض الأداءات) لا تبدو مؤثرة، لأن الفيلم إجمالا يسير في الطريق الصحيح. يناقش "هوبال" بكل جرأة حقبة سابقة تمتد فيها سطوة الأب إلى زوجات أبنائه، ويلقي الناس بأنفسهم في التهلكة خوفا من الرادع الديني. هناك كتابة حذرة تجسد الصراعات الدينية والنفسية التي تعيشها الشخصيات. شنار (مشعل المطيري) يرفض الذهاب بابنته إلى المركز الصحي للقرية لأن والده يرفض ذلك، وفي الوقت نفسه يعيش حياته بشكل طبيعي في الخفاء. أمل هذه الفتاة الوحيد يكمن في ابن عمها الصغير عساف الذي يرفض هذه القيود الأبوية ويواجه عالمه الصغير بأكمله حتى ينقذها. في هذه العائلة الصغيرة نشاهد صراع ثلاثة أجيال وكيف تتناقص السلطة الموروثة مع اعتناق الحداثة وما يجلبه العالم الجديد.

 Shaf Studios
مشهد من فيلم "هوبال"

بعد تخطي مرحلة نصف الفيلم، تبدأ الأسئلة حول تماسك العناصر وتناغمها المشار إليه أعلاه، وهي مسألة تتجلى في الكثير من الأفلام السعودية والعربية، ويمكن تلخيصها بالتشتت السردي وعدم القدرة على تقليص خطوط سير الأحداث. يتحول فيلم "هوبال" من فيلم يجسد الصراعات الناتجة من السلطة الأبوية المتسلحة بالإرث الديني، إلى فيلم تحقيق شبه بوليسي بعد اختفاء الأب ليام، مع مشهد حلم سوريالي لم تكن المؤثرات البصرية فيه بالمستوى نفسه من الإحكام.

ولعل تغيّر نبرة الفيلم والتحول إلى خط سير أحداث واحد يتتبع فيه الأبناء والدهم الضائع، جعل الفيلم يكشف كل أوراقه، فلم تعد هذه الشخصيات قادرة على النمو أكثر من ذلك. الغموض الذي كان يكتنف ماضيهم بات مكشوفا، والمواجهات المحتملة بين الأبناء انتهت بالكامل ولم يعد هناك مكان لأي صراع درامي جديد. بطء السرد هنا يصبح محسوسا حيث تكرر الشخصيات ما تفعله -متمثلة في عملية البحث عن الأب- أكثر من مرة ولفترة طويلة، دون أن تنتج رحلة البحث هذه ديناميكية جديدة في العلاقة بين الشخصيات أو في إطار الفيلم بشكل عام.

 Shaf Studios
مشهد من فيلم "هوبال"

تجربة سعودية خالصة

يجسد "هوبال"، بكل مميزاته وعيوبه، تجربة سعودية سينمائية خالصة، فهو يبرع في نقاط برع فيها العديد من الأفلام السعودية قبله: اختيار محيط وسياق جذابين لقصة الفيلم وتصويرها بشكل بديع. كما أن هناك تطورا في اختيار النصوص وتطويرها والقدرة على كتابة شخصيات تجذب المشاهد السعودي وغير السعودي على حد سواء. معظم المشاهدين واجهوا نوعا من أنواع السلطة في فترة من فترات حياتهم، والفيلم استطاع تصوير هذه الصراعات في موقع تصوير حقيقي ولم يعتمد على المؤثرات البصرية كثيرا، ونجح في هذه المهمة الصعبة، في استمرار لموجة تطور التصوير في الأفلام السعودية.

يجسد "هوبال"، بكل مميزاته وعيوبه، تجربة سعودية سينمائية خالصة، فهو يبرع في نقاط برع فيها العديد من الأفلام السعودية قبله

في الوقت عينه نجد "هوبال" يقع أحيانا في العديد من المطبات التي وقعت فيها أفلام أخرى، فالعديد من الأداءات التمثيلية تبدو أقل لمعانا (نستثني هنا الأداء المفاجئ لحمدي الفريدي الذي يقدم دورا ممتازا في أولى تجاربه السينمائية)، وبعض الحوارات لا تتناسب مع صوت الفيلم. فهو فيلم يصور الحياة الصحراوية بأكثر الطرق الواقعية الممكنة، ثم يفاجئنا ببعض الحوارات التي هي عبارة عن حكم وأمثال تنزعنا من هذا الواقع كليا.

 Shaf Studios
مشهد من فيلم "هوبال"

استطاعت السينما السعودية أن تثبت قدرتها علي توليد قصص مثيرة للاهتمام وأن تجذب المشاهدين، خصوصا إذا استند صناع الأفلام على المشاكل المجتمعية السابقة والحديثة، وطرحوها بكل شفافية. في الوقت عينه الكثير من هذه الأفلام لا يزال يعاني في مسألة الحوارات، التي تؤدي إلى مشاهد مصطنعة، وفي أحيان أخرى تبدو كأنها مترجمة من لغة مختلفة. ربما يكمن الحل في الاستفادة من خبرات إضافية في كتابة السيناريو، وفي الوقت نفسه عدم تجاهل مرحلة التنقيح وإعادة تحرير النص حتى يكون مطابقا وموافقا للهجة والثقافة السعودية دون المساومة على جودته.

font change