حرب اللغات في الجزائر والرغبة في انقراض الفرنسية

قضية شائكة في المشهد الثقافي والسياسي

RYAD KRAMDI / AFP
RYAD KRAMDI / AFP
متظاهرون يلوّحون بالعلم الجزائري

حرب اللغات في الجزائر والرغبة في انقراض الفرنسية

كتب الكاتب البيروفي ماريو فرغاس يوسا في أحد مقالاته المنشورة اخيرا، مدافعا عن اللغة الاسبانية: "ليست اللغة مجرد وسيلة للتواصل. إنها ثقافة وتاريخ وأدب ومعتقدات وتجارب متراكمة تركت بصماتها على المفردات، وضخّت في عروقها الأفكار والصور والعادات والمنجزات العلمية". وهي عبارة على الرغم من عمقها، لا يمكن أن تصح إلا إذا كان المقصود منها هو اللغة الأم. أما اللغة التي يتم تعلمها كلغة ثانية، أو تلك التي تُفرض تاريخيا بالقوة والقهر، من دون أن تتمكن من قبر اللغة الأصلية ودفعها إلى الهامش على غرار ما فعلته اللغات الأوروبية في أفريقيا، فتبقى مجرد لغة تواصل، ينبغي فصلها عن سياقها الثقافي والتاريخي بهدف خدمة ثقافة وتاريخ اللغة الأم.

الفرنسية في الجزائر: إرث أم أداة؟

في الجزائر، تبقى اللغة الفرنسية منذ الاستقلال حتى اليوم قضية شائكة في المشهد الثقافي والسياسي. فرغم أهميتها الوظيفية في مجالات مثل التعليم العالي والإدارة، تظل لغة دخيلة، حملت معها إرثا استعماريا لا يزال مثار جدل.

فالفرنسية ليست جزءا أصيلا من الهوية الجزائرية، بل إرث وظيفي يوظف بدرجات متفاوتة بين طبقات المجتمع، على غرار التوظيف الذي أراده لها كاتب ياسين حين قال إن "الفرنسية غنيمة حرب"، وهو بذلك لم ينظر إليها كهوية ثقافية، بل كأداة تعبير عن آلام شعبه ونضاله ضد الظلم. وهذا رغم فضل هذه اللغة عليه، حين سمحت له بمخاطبة قراء أكثر تفاعلا مع الأدب، مما سمح له بإيصال صوته المتفرد سواء في المسرح أو الرواية، على نحو جعله يبلغ العالمية باقتدار.

الفرنسية ليست جزءا أصيلا من الهوية الجزائرية، بل إرث وظيفي يوظف بدرجات متفاوتة بين طبقات المجتمع

لكن الحديث عن الفرنسية كلغة أداة لا ينفي تعقيد علاقتها بالهوية. فرغم استخدامها الواسع، لا يُنظر إليها كلغة انتماء، حتى لدى المثقفين الذين كتبوا بها وعرفوا مجدهم بفضلها، مثل رشيد بوجدرة ومالك حداد ومحمد ديب وآسيا جبار ومولود فرعون ومولود معمري وطاهر جاووت وكاتب ياسين ونادية قندوز. هؤلاء استخدموا الفرنسية للتعبير عن قضايا جزائرية بحتة، لكنهم لم يحملوا قط المشروع الثقافي الفرنسي، حتى في أكثر تشكلاته البدائية مثلما أخبرنا مالك حداد حين صرح بأن "الفرنسية ليست لغتي، إنها مجرد سجن أُجبرت على الكتابة من داخله. لغتي الحقيقية هي العربية، اللغة التي أفكر بها وأحلم بها"، وهي العقيدة التي جعلته لاحقا يتوقف عن الكتابة بالفرنسية، دون أن يتمكن من الكتابة بالعربية، لأنها لغة وإن تكلمت بها روحه واعتنقها عقله، ظلت غريبة عن قلمه وإبداعه، مما يطرح أكثر من سؤال يتعلق بحقيقة الأسطورة المتجذرة في المشهد الثقافي الجزائر، والتي تزعم أن الذين يكتبون باللغة الفرنسية هم ثنائيو اللغة.

الثنائية اللغوية: اختيار أم حتمية؟

مثل هذا التصنيف يحتاج إلى توضيح. فالثنائية اللغوية قد تكون اختيارا واعيا، لكنها أيضا قد تكون وليدة نظام تعليمي لم يوفر بدائل متكافئة، مما جعل الكتابة بالفرنسية حتمية لكثير من المثقفين الذين لم تُتح لهم فرصة تعلم العربية، وهم كتاب الحقبة الاستعمارية، وشطر كبير من كتاب مرحلة ما قبل التعريب. هؤلاء لم يكونوا أبدا ثنائيي اللغة، بل أحاديي اللغة رغم تفكيرهم العربي.

AFP
جنود فرنسيون في طريقهم إلى الجزائر خلال الحرب

الثنائية تتجسد أكثر في حالات قليلة، نادرة وأحيانا شاذة، اتخذت شكل تجارب فردية خاصة أكثر مما يمكن اعتبارها حالة، على غرار رشيد بوجدرة وأمير الزاوي، وأيضا محمد ساري رغم ما يمكن إبداؤه من ملاحظات تتعلق بنوعية متنه السردي المكتوب بالفرنسية مقارنة بالمكتوب بالعربية. هذه الثنائية، كما يراها أمين الزاوي، لا تعني بالضرورة تخلي الكاتب عن جذوره، إذ يقول: "أن تكون ثنائي اللغة لا يعني أن تتخلى عن هويتك. العربية والأمازيغية هما هويتي، والفرنسية وسيلتي للوصول إلى العالم."

ثنائيو اللغة يستخدمون الفرنسية كأداة تعبير، لكنهم لا يتبنونها كهوية ثقافية، وهم في ذلك يتشابهون مع الفرنكوفونيين

لكن هذا لا ينطبق على الجميع، فهناك من اختار الفرنسية ليس فقط كأداة تعبير، بل كهوية ثقافية بديلة، وهو ما ينقلنا إلى التمييز المهم بين ثنائيي اللغة، والفرنكوفونيين والفرنكوفيليين.

الفرنكوفونية والفرنكوفيليا: التداخل والاختلاف

ثنائيو اللغة مثل بوجدرة أو أمين الزاوي، يستخدمون الفرنسية كأداة تعبير، لكنهم لا يتبنونها كهوية ثقافية، وهم في ذلك يتشابهون مع الفرنكوفونيين المعتمدين على الفرنسية كلغة وحيدة للكتابة والتفكير، في كونهم لا يتبنون بالضرورة الهوية الفرنسية بديلا من هويتهم الجزائرية، فهم على عكس الفرنكوفيليين المتبنين الفرنسية لغة وهوية، ويرتبطون ثقافيا وحتى سياسيا بفرنسا، وليس باللغة الفرنسية بحد ذاتها. هؤلاء ينظرون إلى الفرنسية كما يفعل فارغاس يوسا حين يتحدث عن الإسبانية، أي باعتبارها وعاء ثقافيا لا يمكن فصله عن هويته الأصلية.

 MYCHELE DANIAU / AFP
الكاتب أمين الزاوي يقرأ من روايته "نوم الميموزا"

هذا التمييز ضروري لفهم الديناميكيات الثقافية في الجزائر، لأن الجمع بين هذه الفئات تحت مظلة واحدة يُبسط النقاش بشكل مخلٍّ للغاية، لا يمثل أي واقع.

هذا الواقع أيضا، يجعلنا نتساءل عن سبب تغييب الأمازيغية في الحرب الدائرة الآن بين الداعين إلى قتل الفرنسية إحياء للعربية، والداعين إلى إبقاء الفرنسية كمكوّن لغوي إبداعي في الجزائر. ما يتم تقديمه الآن، هو مواجهة بين العربية والفرنسية، في حين أن الأمازيغية، بصفتها لغة وطنية ورسمية، يجب أن تكون جزءا من هذا النقاش. فالعلاقة بين الأمازيغية والفرنسية ليست مجرد علاقة تنافس أو تداخل، بل تعكس أيضا تاريخا من التعقيد اللغوي، إذ تبنى بعض المثقفين الأمازيغ الفرنسية كلغة تعبير عن أمازيغيتهم، بل إن أهم المصنفات الأمازيغية اختير لتدوينها الحروف اللاتينية بنطقها الفرنسي على حساب التافيناغ، الأبجدية الأمازيغية، وعلى الرغم من ذلك ظلت الأمازيغية بالنسبة الى كثيرين منهم لغة الهوية الثقافية الحقيقية. إقصاء الأمازيغية من هذا النقاش يؤدي إلى رؤية غير مكتملة لمسألة اللغة في الجزائر.

الفرنسية والهيمنة الثقافية

سبق لفرانز فانون أن طرح في كتابه "جلد أسود، أقنعة بيضاء"، فكرة أن اللغة ليست فقط وسيلة تواصل، بل أداة هيمنة ثقافية وسياسية، وهو ما ينطبق على الفرنسية في الجزائر.

غلاف كتاب فرانز فانون "بشرة سوداء أقنعة بيضاء"

لكن التعامل مع هذا الإرث يجب ألا يكون من منطلق الصراع فقط، بل من خلال رؤية شاملة تعترف باللغة الفرنسية كجزء من المشهد اللغوي، دون تحميلها دلالات أيديولوجية متطرفة. المشكلة ليست في اللغة نفسها، بل في توظيفها لخدمة أجندات سياسية، سواء لصالح استمرار الهيمنة الثقافية الفرنسية، أو لصالح رفضها المطلق دون رؤية عملية لكيفية التعامل معها. نجد في الأدب الجزائري الحديث أمثلة متنوعة عن الكتاب الذين استخدموا الفرنسية دون أن يتنكروا لهويتهم، حتى بالنسبة إلى الشباب منهم كمهدي أشرشور أو سمير تومي أو كوثر عظيمي.

ما يجري اليوم، إذن، ليس حربا لغوية بقدر ما هو فراغ ثقافي تملأه صراعات أيديولوجية، فاللغة، في نهاية المطاف، ليست معيارا للوطنية

لكن ذلك لا ينفي بالطبع وجود كتاب جزائريين اختاروا الوقوف على جانب نقيض، حتى بات يُنظر إليهم باعتبارهم منفصلين عن الهوية الجزائرية، مثل كمال داود وبوعلام صنصال، حيث تُتهم كتاباتهما بأنها امتداد للثقافة الفرنسية، وليس مجرد استخدام للفرنسية كأداة تعبير. لكن ربط خياراتهما اللغوية بهذا الاتهام يتجاهل تعقيدات المشهد الثقافي، ويعكس الفراغ السياسي الذي ترك الساحة مفتوحة أمام صراعات لغوية تغيب عنها رؤية ثقافية واضحة.

RYAD KRAMDI / AFP
لوحة تكرّم علي بومنجل، المحامي والمناضل الذي اغتيل خلال حرب التحرير

ما يجري اليوم، إذن، ليس حربا لغوية بقدر ما هو فراغ ثقافي تملأه صراعات أيديولوجية، فاللغة، في نهاية المطاف، ليست معيارا للوطنية. التاريخ يشهد لأدباء جزائريين وطنيين للغاية، مثل مولود فرعون، الذي كتب "يوميات قريته" بالفرنسية دفاعا عن هويته الجزائرية، أو آسيا جبار، التي وثقت نضالات المرأة الجزائرية باللغة نفسها، لكنها لم تتنكر لجذورها.

بدلا من أن تكون اللغة الفرنسية موضوع صراع حول الهوية، يمكن أن تكون أداة ضمن مشروع ثقافي وطني يشمل جميع المكونات اللغوية. لكن هذا لن يتحقق إلا بإرادة سياسية واضحة، تتجاوز الأيديولوجيا، وترى في التنوع اللغوي مصدر قوة لا تهديدا. الهوية الجزائرية، في النهاية، لا تحددها لغة واحدة، بل تاريخ وثقافة وإرث مشترك.

font change