ترمب والنظرة العقارية... تمزيق الدولة الحديثة

النظرة العقارية خلاصة تبخيس القوانين الدولية

ترمب والنظرة العقارية... تمزيق الدولة الحديثة

تغيير الرئيس دونالد ترمب لاسم "خليج المكسيك" إلى "خليج أميركا" وإصراره على جعل كندا الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة، وصولا إلى اعتزامه شراء قطاع غزة وإبعاد أهله الفلسطينيين إلى "بيوت جميلة"، وعدم السماح بعودتهم، يجب أن توضع في سياق التغيرات الزلزالية التي تضرب العالم في مستهل الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين.

يمزق ترمب بمواقفه معاهدتي وستفاليا (1648) اللتين قام عليهما مفهوم الدولة الوطنية الحديثة والاعتراف بسيادة الدول الأخرى. ويعيد طرح رسم الخرائط على مستوى غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وهي مهمة تبذل الدول قاطبة جهودا جبارة لتجنبها لما تنطوي عليه من حروب تحت الجمر وإثارة للكراهيات القومية والدينية.

وليس رسم الخرائط وتعيين الحدود من الهوايات المفضلة عند الحكومات. بل إن الغالب الأعم هو السعي إلى التوافق سلميا على التسويات وترسيم المناطق المتنازع عليها. فالاتفاق على الخطوط الوهمية التي تفصل بين الدول والمناطق والإثنيات والشعوب، يبدو كابوسا لا رغبة لعاقل بالخوض فيه ما لم يكن مبيتا نية الصراع والقتال.

تقسيم ألمانيا وأوروبا الشرقية بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية كان مهمة شاقة انتهت بتسليم القوى الغربية بسيطرة الاتحاد السوفياتي على شرق القارة القديمة. وربما يكون الإنجاز الأكبر الذي حققه جوزيف ستالين في هذا المجال هو انقلابه على الاتفاقيات حول مستقبل بولندا.

حركات التحرر الوطني في العالم الثالث واجهت بين خمسينات وسبعينات القرن الماضي الكثير من المعضلات المشابهة أثناء حروب التخلص من الاستعمار الأوروبي، حيث ظهرت المشكلات الضخمة التي تركها السيد السابق وتداخل المناطق والأعراق والناطقين بلغات متباينة إلى جانب الاختلال في توزيع الثروات والموارد الطبيعية. المشكلات هذه ما لبثت أن انقلبت ألغاما انفجرت حروبا حدودية وأهلية لم تتوقف إلى اليوم.

كذلك الأمر كان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل تسعينات القرن العشرين. حروب أهلية داخل جمهوريات الاتحاد وفي الدول التي دارت في فلكه، لعل أشهرها وأكثرها دموية صراعات يوغوسلافيا السابقة، حيث برزت الكراهيات القومية والدينية بأبشع صورها بعدما قمعها حكم جوزيف بروز تيتو ورفاقه عقودا عدة. بالإضافة طبعا إلى حروب وسط آسيا والقوقاز.

بيد أن مواقف ترمب عن شراء أراضي الدول الأخرى وإبعاد شعوب بأمها وأبيها، ليست وليدة الساعة. فقد ساعد الغرب على انفصال كوسوفو عن صربيا وضمت روسيا شبه جزيرة القرم وأيدت الولايات المتحدة ضم إسرائيل لمرتفعات الجولان المحتلة، ما أسس لسوابق جافى بعضها القانون الدولي مجافاة صريحة، من دون أن تتمكن الهيئات المولجة بالحفاظ على القانون هذا من القيام بأية خطوة عملية جراء هذه التغييرات. بل إن الأمم المتحدة ساندت بعضها.

وبعد اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية في 2022 ومطالب موسكو بأجزاء من الأراضي الأوكرانية وإنشاء "جمهوريتين شعبيتين" على أراض واقعة تحت سيادة كييف، راحت آراء تدعو إلى الاعتراف بالأمر الواقع وإعطاء الرئيس فلاديمير بوتين ما يريد من تنازلات إقليمية وضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو" كسبيل لإنهاء الصراع المسلح. وهو ما يمثل خروجا على التمسك بثبات الخرائط.

يضاف إلى ذلك أن الصمت العالمي على الخسائر الرهيبة التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون في غزة، و"تفهم" الحاجة الإسرائيلية إلى اقتلاع "حماس" غداة هجوم "طوفان الأقصى" حتى لو فقد في غضون ذلك أطفال ونساء حيواتهم من دون ذنب ارتكبوه، زاد من حالة اللامبالاة بالقوانين الدولية والتفلت من العقاب وسط إهانات غير مألوفة وجهت إلى مؤسسات قامت للحفاظ على القانون الدولي والسلام بين الأمم، على غرار ما صب من كلام مسيء للمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.

النظرة العقارية التي يتبناها ترمب لمسائل السيادة والحدود وحق الشعوب في أراضيها، لا تتعارض مع القيم التي انساق العالم إلى اعتمادها بالتدرج ومنذ عقود. بل إنها خلاصة التبخيس الذي أحاط بالقوانين والمؤسسات الدولية وتجاهل قراراتها لدواع جيوسياسية رفعها الأقوياء ووصلت إلى الحد الذي يصبح فيه الكلام عن فرض استقبال لاجئين فلسطينيين على مصر والأردن من أجل إنشاء منتجعات سياحية في غزة، من الأمور التي تجدر مناقشتها بروية، في انتكاسة إلى سياسات القرون الوسطى وعصر ما قبل الدولة الحديثة.

font change