يخطئ من يبني تصوراته عن السياسة السعودية من خلال ما يُبث من مهاترات الهواة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا أن مهنة التحليل السياسي أصبحت مهنة من لا مهنة له، ومن ضمنهم جماعة من الممثلين الفاشلين الذين رفضتهم السينما والتلفزيون فاتجهوا إلى إنشاء القنوات الخاصة على "يوتيوب" ليتحدثوا عن عالم السياسة واستراتيجيات الدول. يخرج علينا أحدهم ببدلة رخيصة بألوان فاقعة ومتعارضة ومضحكة ليخبرنا بما غاب عنا في الدوائر السياسية المغلقة بعد أن دهن شعر رأسه بالكريم ليبدو ناعما ولامعا.
لم يفاجئني موقف السعودية الصارم من قضية تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر ومن الضفة الغربية إلى الأردن فهذا هو المتوقع بالنسبة لمن سلم عقله وقلبه. الأمر لا علاقة له بالتخمين ولا بالعرافة، بل هو أبسط من ذلك لمن يريد أن يصل إلى الحقيقة. ثمة دليل وعلامات للاهتداء إلى فهم السياسة السعودية تعمل منذ عشرات السنين ويتابعها المهتمون الذين لا تغويهم الإثارة الإعلامية، ألا وهي بيانات وزارة الخارجية السعودية. هذه البيانات موجودة اليوم في وسائل التواصل ونشطة فيها، ومن قبل كانت تُنشر في مناسباتها في الصحف اليومية.
متابعة بيانات الخارجية السعودية لا تقوم فقط بإيصال الأخبار أو تسجيل المواقف الضرورية، بل إن إدمان متابعة هذه البيانات يكسب المتابع دُربة ومعرفة عميقة بالسياسة السعودية واستراتيجياتها، بحيث لا يحتاج لأن يخمن ماذا سيكون موقف الرياض من أي حدث. بالإضافة إلى أن هذه البيانات تعطي ثقافة سياسية واسعة.
منذ أكثر من سنة كتبت عن موضوع السعودية والتطبيع وقلت إن السعودية لن تطبع تطبيعا مجانيا لأنها لا تحتاج إليه لنفسها، لا شيء عند إسرائيل نحتاجه. ولا أدري كيف أدخلوا اسم السعودية في قضية التهجير مع أن ترمب لم يذكر السعودية في اقتراحه، وإنما ذكرها نتنياهو، ردا على بيان السعودية، من باب الاستظراف لا أكثر. الشيء الوحيد الذي نحتاجه هو أن يكون للإخوة الفلسطينيين وطن ودولة معترف بها دوليا. ما سوى هذا نحن لا نحتاج شيئا.
ما الذي يمكن أن نفعله كعرب في اللحظة الراهنة؟ وحدة الصف العربي وتناسي الخلافات الداخلية واتحاد القرار السياسي العربي هو ما سيجعل هذه الخطة تفشل، أما السلام، فمع الأسف ما زال على ما يبدو بعيدا
كان من الواضح للبعض- وليس الكل- أن إسرائيل لم تقتل خمسين ألفا من الفلسطينيين في تداعيات 7 أكتوبر/تشرين الاول ومن ضمنهم النساء والأطفال، بالإضافة إلى خسارة جنودها والتلكؤ في موضوع الأسرى الإسرائيليين وفقدانها لسمعتها وللرأي العالمي الذي كان يتخيلها حملا وديعا محاطا بدول معادية، لكي تعود وتعطي غزة للسلطة الفلسطينية ليعيد العرب إعمارها من جديد. بطبيعة الحال ستبقى مشكلة لإسرائيل، إن هي بقيت في غزة، أن هناك أكثر من مليوني فلسطيني في غزة لوحدها، ومن هنا عادت فكرة تهجيرهم إلى سيناء والأردن.
يخطئ الرئيس ترمب عندما يتصور أن هذا هو الحل. فلو فرضنا أن هذا التهجير تم، ما الذي سيتغير؟ الفلسطينيون متعلقون للغاية بأرضهم وببيوتهم التي سُلبت منهم عنوة، ولو هُجروا فكل الذي سيحدث هو أن الهجمات على إسرائيل ستمتد لتشمل الأردن وسيناء وبالتالي قد تنشب حرب بين مصر والأردن وإسرائيل لأن الفلسطينيين سيستمرون في الاشتباك مع إسرائيل من هذه الدول، أي إن الحرب ستتوسع بدلا من أن تضيق. ترمب ما زال يفكر بعقلية رجل الأعمال، لا رجل الدولة، وهذا تحديدا ما جعله يخسر الانتخابات أمام جو بايدن في السابق.
موقف نتنياهو يختلف عن موقف ترمب، فالأول يعرف جيدا ما في خطة التهجير من مجازفة كبرى، لكنه يراهن على العنف ورفع شعار حماية أمن إسرائيل لكي يحمي نفسه هو من الملاحقة القانونية وانهيار حكومته. هو لا يملك شيئا يمكن أن يخسره فيدعوه ذلك لإيقاف الحرب، بعد أن أصبح مجرم حرب يطارده القانون. إنه مثل سفينة مهترئة غارقة.
ما الذي يمكن أن نفعله كعرب في اللحظة الراهنة؟ وحدة الصف العربي وتناسي الخلافات الداخلية واتحاد القرار السياسي العربي هو ما سيجعل هذه الخطة تفشل، أما السلام، فمع الأسف ما زال على ما يبدو بعيدا.